molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الخشوع في الصلاة - عبد العزيز بن الطاهر بن غيث / طرابلس السبت 10 ديسمبر - 4:42:24 | |
|
الخشوع في الصلاة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث /طرابلس
الخطبة الأولى
وبعد: نواصل الحديث في هذه الجمعة عن الصلاة أعظم واجبات المسلم وأهمها، هذا الفرض العظيم من فروض ديننا الحنيف، هذا الركن الركين من أركان شرعنا المطهر، هذه الشعيرة التي هانت على الأمة فهانت الأمة على الله سبحانه وتعالى؛ لأنها قطعت الحبل الذي بينها وبين الله، فأصبح الاتصال بينها وبين خالقها مقطوعا، وعندما انقطع الاتصال بين الأمة وخالقها ذهب دعاء الأمة واستغاثاتها وتضرعها أدراج الرياح، تهاونت الأمة في الصلاة فاستهان بها الأعداء وضحكوا عليها ملء أشداقهم؛ لأن الأمة التي أعزها الله بالدين لن تقوم لها قائمة بغيره، بل ستظل دائما في ذيل الأمم ما دامت بعيدة عن دينها.
نتكلم اليوم عن الخشوع في الصلاة، وهو أمر أثنى الله عليه وعلى المتصفين به في كتابه العزيز، يقول سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، ويقول سبحانه في الثناء على بعض أنبيائه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
فمن الأمور المهمة في باب الصلاة أداؤها كما يريد الله، فلا بد أن نؤديها كما يريد الله سبحانه لا كما نريد نحن، وأن لا نمتنَّ على الله بها، بل هو الذي يمتن علينا أن هدانا للإسلام وجعلنا من المصلين، قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين [الحجرات:17].
يمتنّ عليك ـ أيها العبد ـ بأن أعطاك شرف مقابلته متى شئت، فأنت في هذه الحياة الدنيا من المستحيل أن تقابل سلطانا أو وزيرا أو حتى رئيس بلدية، وإن قابلته فبعد جهد جهيد وترتيبات ومواعيد قد تدوم أشهرا، فإذا كان هذا مع المخلوق فكيف ستكون مقابلة خالق المخلوق، خالق السماوات والأرض، خالق الشمس والقمر والبحار والجبال الجبار المتكبر؟! لا شك أن المنطق يقول بأن مقابلته أصعب وأشد استحالة، ولكن جبار السماوات والأرض منحك هذا الشرف، متى شئت أنت قابلته وكلّمته، فما عليك إن أردت ذلك إلا أن تتطهر وتتوجه إلى القبلة بخشوع وتقول: الله أكبر، عندها يقبل عليك الرب وتكون في حضرته وبين يديه، فعليك أن تؤدي هذه الصلاة كما يريدها هو، وكما شرعها لك في كتابه وعلى لسان نبيه ، لا كما تريدها أنت فتنقرها سريعة كما يحلو لك ودون خشوع وتؤخرها عن وقتها، فهل هكذا أرادها الله منك؟! وهل تفعل مع المخلوق مثل هذا الأمر؟! إن طلب منك رئيسك في العمل تقريرا أو أمرا ما هل تؤديه كما يحلو لك وتقول له: هذا هو العمل، أم أنك تؤديه كما طلب منك وبناء على تعليماته الدقيقة؟! فلماذا تفعل هذا مع تعليمات المدير ولا تفعله مع تعليمات رب المدير مع تعليمات السميع البصير القوي القدير؟!
اعلم ـ يا عبد الله ـ أنك إن أديت عملا لله على غير ما يريد الله فكأنك لم تؤده. فاحذر، واعلم أن الله تعالى يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23]، والصلاة من ضمن الأعمال، والخشوع من أهم شروطها، يقول : ((خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) أخرجه أبو داود عن عبادة بن الصامت.
الخشوع في الصلاة ـ إخوة الإيمان ـ من أهم الأمور، فما هو الخشوع؟ تذكر كتب اللغة في معنى الخشوع أنه الخضوع والسكون والتذلل، ويقول قتادة: "الخشوع هو الخوف وغض البصر في الصلاة"، وقال ابن زيد: "الخشوع الخوف والخشية لله" وقرأ قول الله تعالى: خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى:45]، قال: "قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم وخشعوا له".
إذًا فالخشوع أمر جميل محبوب؛ لهذا أثنى الله على المصلين المتصفين به، وإذا نظرنا إلى أنفسنا: هل يحقق كل منا هذا الأمر الأساسي من أمور الصلاة؟ لوجدنا أن أكثر المصلين ـ إلا من رحم الله ـ لا يحقق هذا الأمر، بل بالع+ تجدنا نقف أمام المخلوق برهبة أكثر من رهبتنا أمام الخالق، فعندما يقف المرء منا أمام مدير المؤسسة التي يشتغل بها أو أمام أمير المعسكر أو غيره من أصحاب المكانة والجاه، فإن حواسه كلها تكون منتبهة وحركاته محسوبة، القلب يدق بسرعة، وأنفاسه يسمعها تتردد، وعقله متيقظ، فلا تفوته كلمة أو لفتة من لفتات هذا المسؤول الذي أمامه، فما بالنا إذا وقفنا بين يدي الله لا نقف باحترام ولا نعطي هذه الوقفة حقها؟! فالهندام غير مرتب، والقلب هائم لا يدري عن شيء، والأعضاء والجوارح تتحرك في كل اتجاه، فتجد الواحد منا يتململ ثم يحك رأسه ثم يضع إصبعه في أنفه، وتراه يقلب بصره في سقف وحوائط المسجد، فماذا وعى هذا المصلي من الصلاة؟! أكثرنا ـ يا عباد الله ـ إلا من رحم الله لا نعي من الصلاة إلا أمرين نعلم أننا فعلناهما في أكثر الصلوات هما: تكبيرة الإحرام والتسليم، أما ما بينهما فلا تسألني: ماذا فعلت؟ أو ماذا قرأت؟ أو ماذا قرأ الإمام؟ أو غير ذلك، فالجسد في المسجد والقلب يحوم في هذه الدنيا طولا وعرضا، والله المستعان.
الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها أمر ضروري يا عبد الله، لأنك عندما تقف في الصلاة فأنت تناجي الله، والله أمامك يراك، فكيف تغفل عنه وأنت بين يديه ولا تعطي لهذا المقام احترامه؟! يقول في الحديث الذي رواه أحمد عن أبي ذر: ((لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه))، فما دمت تقف بين يدي خالق الخلق ومدبر الرزق الإله الحق فحاول قدر استطاعتك أن تنضبط في هذه الصلاة وتعقل ما تفعل فيها، ولا يكن همك أن تنهي صلاتك بأي كيفية، فتؤديها ناقصة الاطمئنان وناقصة الأركان ومبتورة الحركات والسكنات، فإن هذا من السرقة، والسرقة في الصلاة من أسوأ السرقات، يقول : ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته))، قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته؟! قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها، ولا يقيم صلبه في الركوع والسجود)) أخرجه أحمد عن أبي قتادة. فهل نمتنع عن السرقة من أموال الناس ثم نسرق من صلاتنا التي تقدمها لخالقنا، والتي إن أنقصنا منها اليوم فسنجدها ناقصة يوم القيامة؟! هذا إن قبلت منا.
وللخشوع أمور تعين عليه إخوة الإيمان، نذكرها لعل الله ينفعنا بمعرفتها ويعيننا على تحقيقها:
أول هذه الأمور: استحضار هيبة من نقدم هذه الصلاة له، فعندها سنؤدي هذه الأمانة كما ينبغي، فأنت تقدم هذه الصلاة إلى قيوم السموات والأرض من عنت له الوجوه وخشعت له الأصوات وذل له الخلق أجمعون، فكيف لا تخشع لهذا الإله؟! ومن أحق بخشوعك من دونه؟! كان علي بن أبي طالب إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: (جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها)، ويروى عن علي بن الحسين أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: "أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟!".
ومن الأمور المعينة على الخشوع إفراغ النفس من المشاغل عند الدخول في الصلاة، فحاول ـ أيها المسلم ـ أن لا تدخل إلى الصلاة وأنت مشغول البال مشتت الفكر، وعوِّد نفسك أن تؤجل التفكير في أمورك الدنيوية إلى ما بعد الصلاة؛ لأن هذه الأمور تشغلك عن الإقبال على الله بخشوع، والله سبحانه يريد منك ـ أيها العبد ـ أن تقبل عليه في كامل وعيك، لا أن يكون جسمك عنده والقلب في مكان آخر، فإن المخلوق لا يقبل منك هذا، فكيف يقبله الخالق؟! لذلك راعى الإسلام هذا وحرص على أن لا يدخل المسلم في العبادة وهو مشغول بغيرها، عن أنس أن رسول الله قال: ((إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء)) متفق عليه. فانظر إلى هذا الدين السمح الذي راعى جوع الإنسان وانشغاله بالطعام فقدمه على الصلاة؛ حتى يؤدي المؤمن صلاته كما ينبغي ولا ينقرها نقر الغراب استعجالا للأكل.
ومن الأمور المعينة على الخشوع النظر إلى مكان السجود؛ لأنك بذلك تكون أكثر خشوعا، وتقيد عينيك عن الحركة والانشغال بما يحيط بك، وتبعدهما عن النظر إلى السماء أو السقف، لأنه أمر منهي عنه، يقول فيما أخرجه البخاري وأحمد من حديث أنس: ((لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم)).
ومن الأمور المعينة على الخشوع والمطلوبة في الصلاة عدم تحريك الأعضاء ومنها اليدان، وهما أكثر الأعضاء حركة، رأى بعض السلف رجلا يعبث بيده في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"، فالخشوع ليس للقلب وحده، ولكن الجوارح أيضا تخشع، يقول سبحانه: وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا [طه:108]، ويقول في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)) أخرجه النسائي عن علي.
هذه من أهم الأمور المعينة على الخشوع وأداء الصلاة كما ينبغي، فاجتهدوا ـ يا عباد الله ـ في أن تحققوا هذه الأمور؛ لأن الصلاة بلا خشوع ـ كما يقول بعض أهل العلم ـ جثة هامدة بلا روح، علينا أن نخشع في صلاتنا وأن نعي ونعلم ما نقول فيها حتى تنفعنا هذه الصلاة. لما سمع بعض السلف قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] قال: "كم من مصلّ لم يشرب خمرا هو في صلاته لا يعلم ما يقول؛ أسكرته الدنيا بهمومها".
فاتقوا الله عباد الله، واستعينوا بكل ما يعينكم على أن تؤدوا صلاة مقبولة عند خالقكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، علمنا فيما مضى أن الخشوع أمر عزيز عظيم القدر، علينا أن نسعى قدر طاقتنا حتى نحققه لنشعر بلذة العبادة ولننال ثوابها كاملا بإذن الله، ولا يتحقق الخشوع كما قلنا إلا بمعرفة من نقف أمامه في صلاتنا، فإذا امتلأت قلوبنا بهيبته وخشيته تحقق لنا الخشوع شئنا أم أبينا. علينا أن نوقن ونعتقد اعتقادا جازما أن الرب الذي نقوم له ونقدم له صلواتنا وعباداتنا هو الله سبحانه المتفرد بالعبادة وحده، وهو المتصرف في الكون وحده، وإليه وحده لا لغيره تصرف الأعمال والعبادات والقربات والنذور، لا إله غيره ولا رب سواه، فإذا تأصلت هذه المعاني في النفس وتربعت على عرش القلب عندها سيعلم الإنسان وهو يتهيأ للصلاة أن الأمر جلل، وأن الخطب عظيم، وأن الموقف رهيب، فيخشع قلبه، وترق نفسه، ثم لا يلبث أن تصبح الصلاة عنده لذة لا يرتاح ولا تقر عينه إلا فيها، يقول كما في سنن أبي داود من حديث أبي الجعد: ((يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها)).
هكذا كان حاله مع الصلاة، فيها راحته وبها يأنس، ولا عجب في ذلك فهو القائل أيضا فيما أخرجه النسائي عن أنس: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))، كل ذلك لأنه أقرب الخلق إلى مولاه، وأعلم الخلق بالله، كان خاشعا لله، وجلا من الله، وهو أسوتنا ، فلا بد أن نحقق هذه المعاني العظيمة، وأن نعلم أنه لا إله إلا الله؛ لتعمر قلوبنا بحب الله ومخافته، يقول ابن القيم في كتاب الفوائد: "إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة".
بمثل هذه المعاني الجميلة يتحقق الإيمان إخوة الإيمان، ويتحقق الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها، والذي هو أفضل ما عمرت به القلوب، لهذا تعوَّذ رسول الله من قلب لا خشوع فيه فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) أخرجه مسلم عن زيد بن أرقم.
نسأل الله أن يرزقنا الخشوع، وأن يعيننا عليه، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
| |
|