molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: قتل النفس - عبد العزيز بن الطاهر بن غيث / طرابلس السبت 10 ديسمبر - 4:48:28 | |
|
قتل النفس
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث /طرابلس
الخطبة الأولى
وبعد: إخوة الإيمان، فاتنا أن نتكلم فيما مضى من الخطب عن معصية هي من أفدح المعاصي بعد الشرك وأكبرها عند الله سبحانه وأشدها وعيدا وعذابا، ألا وهي معصية القتل، قتل النفس التي حرم الله بغير حق، فالنفس من أعظم الحرمات في ديننا الحنيف وشريعتنا المطهرة، فشريعتنا السمحاء من بين ما جاءت به وشددت عليه حفظ الضرورات الخمس التي لا قوام ولا قيمة لحياة الإنسان بدونها، وهذه الضرورات هي: الدين والنفس والمال والعرض والعقل، فالنفس أحد هذه الضرورات، لهذا حرم ديننا الحنيف الاعتداء على هذه النفس، وأعظم اعتداء على النفس قتلها بغير وجه حق.
يقول سبحانه في كتابه العزيز: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، ويقول رسوله الكريم في حجة الوداع التي كانت إيذانا باكتمال الدين وتمام النعمة، يقول: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب؛ فرب مبلغ أوعى من سامع)) أخرجه الشيخان عن أبي بكرة.
نتكلم ـ أيها المسلمون ـ عن معصية لا تعدلها معصية، معصية تغضب الرب سبحانه وتهز كيان كل إنسان سوي، معصية قتل النفس التي حرم الله سبحانه، معصية إنهاء حياة نفس خلقها الله سبحانه وتعالى، والتعدي على حق من حقوق الباري عز وجل، هذه الجريمة حذر منها شرعنا المطهر وعظم من شأنها، بل بين سبحانه أن من قتل نفسا واحدة بغير حق فكأنما قتل كل الناس، ومن أحياها فكأنما أحيا كل الناس، يقول سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، إلى هذا الحد تصل عظمة هذه الجريمة النكراء، إنها تضاهي قتل الناس جميعا، بل إن زوال السماء والأرض أهون عند الله من قتل مسلم كما يقول سيد البشر من لا ينطق عن الهوى ، أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مسلم)).
إذا تصورنا هذا حق التصور علمنا ـ عباد الله ـ فداحة هذه الجريمة، وعلمنا خطورة التمادي في مقدماتها التي تفضي إليها، لهذا أمرنا رسول الله باجتناب هذه المعصية فيما نجتنبه من أمور ذميمة، يقول : ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
واجتناب هذه المعصية العظيمة إنما يكون بالتقيد بأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله والعمل بمرضاة الله عز وجل حتى يعصم الله المؤمن من الوقوع فيها، كما يكون اجتناب هذه المعصية بالابتعاد عن مقدماتها وعن الأسباب التي تفضي إليها.
ومن أهم هذه الأسباب انعدام خوف الله سبحانه في قلب القاتل واتباعه سبيل الشيطان، فمن القتلة من المجرمين والمنحرفين من يقتل فسادا في الأرض ويسفك الدماء ظلما وعدوانا، أولئك الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
ومن الأسباب التي تؤدي إلى معصية قتل النفس الغضب؛ فالغاضب إذا لم يتمالك نفسه أوصله غضبه إلى عظائم الأمور، فعلى المسلم أن يحذر الغضب لأنه يجر إلى ما لا تحمد عقباه، لهذا أثنى الله سبحانه على عباده الذين يكظمون غيظهم ويتحكمون في أنفسهم في حالة الغضب، ولا يفسحون لغضبهم المجال لأن يوقعهم فيما لا يرضاه الله، يقول تعالى: سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]، كما حذر رسول الله من الغضب، فعن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي : أوصني، قال: ((لا تغضب)) فردد مرارا، قال: ((لا تغضب)) أخرجه البخاري.
ومما يفضي إلى معصية القتل الحسد، يقول سبحانه في قصة ولدي آدم: واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَنَّكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فطوَّعَت لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَالمائدة:27-30] ، ذكر بعض المفسرين أن سبب قتل ابن آدم لأخيه هو الحسد.
ومما يفضي إلى معصية القتل الظلم، كظلم الورثة بعضهم لبعض، وظلم الأجراء وأكل حقوقهم، وقذف الناس والاعتداء على أعراضهم، كل هذا يجر إلى هذه المعصية العظيمة وهذه الجريمة النكراء.
ومن أسبابها أيضا تسرع بعض الناس وبعدهم عن هدي الإسلام وعدم تقديرهم للعواقب، فمن الناس من لا يفكر ويتصرف في الظروف الحرجة إلا بعضلاته وسلاحه، فهؤلاء كثيرا ما يقعون في هذه المعصية.
ومما يفضي إلى هذه المعصية تعطيل حد القتل، وهو قتل القاتل حتى يُحفظ المجتمع من شره، وحتى لا يسعى ذوو المقتول إلى الأخذ بثأرهم فتتفاقم الأمور، فمن حكمة الله سبحانه أنه شرع القتل لنفي القتل، يقول سبحانه: ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوليْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، ويقول فيما أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
كل هذه ـ عباد الله ـ مقدمات ومسببات للقتل، لا بد أن نعرفها وأن نكون منها على حذر، كما ينبغي للمسلم أن يعلم أنه من الأفضل له ومن الأسلم ومن الأنجى له عند الله سبحانه أن يلقى الله مظلوما على أن يلقاه قاتلا، فلا بد من تمالك النفس في الأزمات، ولا بد من البعد عن كل ما يعرضه أو يعرض غيره للقتل حتى تحسن عاقبة المسلم، يقول : ((لا يَزال المؤمنُ فِي فُسْحَةٍ من دِينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حراما)) أخرجه البخاري عن ابن عمر. والمعنى: أن المسلم يبقى بخير ما لم يقع في هذه الجريمة البشعة، فإذا وقع فيها فقد عرض نفسه لعذاب شديد لا يعلم مداه إلا الله.
إن معصية القتل معصية لها آثارها السيئة على المجتمعات، مِن فقد الأمن وترميل النساء وتيتيم الأطفال وتلويع الأمهات واستشراء القسوة والعنف في المجتمع واستسهال التعدي على دماء الناس، كما أن دم المسلم ليس بالهين، لهذا بين أن أهل السماء والأرض لو اجتمعوا على قتل مؤمن لعذبهم الله جميعا، من أجل نفس مؤمنة واحدة يُفعل بهم هذا، فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى قيمة هذه الروح المؤمنة عند الله سبحانه، يقول فيما أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد: ((لو أن أهل السَّماء وأهل الأرض اشْتَرَكُوا في دم مُؤمن لأكَبَّهُم الله في النَّار)).
أما عقاب قاتل النفس فإنه عقاب عظيم يدخره الله له يقول سبحانه: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِب َاللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. لقد توعد الله سبحانه في هذه الآية قاتل النفس المؤمنة بخمس أمور دفعة واحدة، فوعده بنار جهنم، ووعده بالخلود فيها، ووعده بغضب الله ولعنته وعذابه والعياذ بالله، ويقول فيما أخرجه الترمذي عن ابن عباس: ((يأتي المقتول متعلقًا رأسه بإحدى يديه، متلببًا قاتله باليد الأخرى، تشخب أوداجه دمًا حتى يأتي به إلى العرش فيقول المقتول: يا رب، هذا قتلني، فيقول للقاتل: تعست ـ أي: هلكت ـ ويُذهب به إلى النار))، ويقول : ((من قتل مؤمنا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا)).
إخوة الإيمان، ولو ذهبنا نستقصي ما ورد في هذه المعصية من نصوص لطال بنا المقام، ويكفي شرعنا المطهر سدا ودفعا لجريمة القتل بغير الحق أنه حرمها حتى مع غير المسلم، يقول فيما أخرجه النسائي عن عمرو الخزاعي: ((من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا)).
هذه هي شريعة الإسلام السمحاء، وهذه هي حرمة النفس في الإسلام، وهذه هي بشاعة جريمة القتل، فلنع هذا إخوة الإسلام، ولنضعه نصب أعيننا؛ لنكون ممن يعصمهم الله من هذه الكبائر، ويكتب لهم السلامة في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معشر المسلمين، للنفس البشرية المؤمنة مكانة عظيمة، لهذا رتب الله على المساس بها وعيدا وعذابا وغضبا، وجعل لحرمتها مرتبة عظيمة ومنزلة رفيعة، أخرج الترمذي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نظر يوما إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك)، كما جعل الله سبحانه للدماء المكانة الأولى في القضاء يوم القيامة، فلا يُقضى في شيء قبل القضاء في الدماء، عن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) متفق عليه.
يجب أن نتربى ـ إخوة الإيمان ـ على هذه النصوص التي تعلمنا حرمة الاعتداء على الأنفس والدماء، ويجب أن نعلم أن شريعتنا حرمت على الإنسان الاعتداء على غيره بأي وجه من الوجوه وخاصة القتل، كما حرمت تحريما كاملا أن يقتل الإنسان نفسه، فتوعد الله فاعل ذلك وعيدا عظيما، يقول سبحانه: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، كما بين رسول الله عظمة هذا الأمر، فعن جندب بن عبد الله أن رسول الله قال: ((كان برجل جراح فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)) أخرجه الشيخان.
فانظروا إلى عظمة عذاب من اعتدى على النفس البشرية، ولو كانت هذه النفس نفسه التي بين جنبيه، بل إن قاتل نفسه يعذب يوم القيامة بنفس الشيء الذي قتل به نفسه، أخرج الشيخان وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا))، كل هذا العذاب ـ إخوة الإيمان ـ لأن الإنسان أقدم على أمر عظيم حذر منه الله عز وجل ونهى عنه وتوعد عليه، لهذا كان عقاب قتل النفس عقابا عظيما، وثواب إحيائها ثوابا عظيما.
أسأل الله أن يعصمني وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
| |
|