molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الإنسان والمرض - سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 7:34:16 | |
|
الإنسان والمرض
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فمن أجل أن لا يدخل الملل والسآمة إلى كثير من النفوس مع الاسترسال في التفكر في خلق الإنسان والآيات العظيمة الموجودة فيه كانت هذه الخطبة وإن كنا لن نخرج بعيدًا عنها إلا أن المداخلات هذه من النتائج والأهداف والمقاصد المرجوة والمأمولة بعد العرض المنشود وإن طالت مدة الانتظار للوصول إلى النهاية ولكن الأيام تكشف ذلك بإذن الله عز وجل.
إن من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمن أن جعل كل أمره يحمل له الخير العميم ويسعد به، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن الصابر المحتسب؛ بشرط أن يشكر الله عز وجل عندما يأتيه ما يسره، ويصبر ويحتسب عندما يصيبه ما يضره. عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم.
ومن الأمور التي تحمل الخير للمؤمن حين تنزل به ذلك المرضُ الذي يكفر الله به من خطايا المؤمن ويرفع به درجته، قال رسول الله : ((ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) رواه البخاري، ولفظه عند مسلم: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يَهُمُّهُ إلا كفر الله به من سيئاته)). والوصب: المرض، والنصب: التعب. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا! قال: ((أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم))، قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: ((أجل، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة. والوعك: مغث الحمى أو هو الحمى. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عنه بها، حتى الشوكة يشاكها)) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث: ((إذا مرض العبد ثلاثة أيام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفي رواية ابن أبي الدنيا: ((من وعك ليلة فصبر ورضي بها عن الله عز وجل خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، وقال : ((إن الله ليبتلي عبده بالسَّقَمِ حتى يكفر ذلك عنه كل ذنب)) رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرطهما"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري ومالك رحمهما الله تعالى، وقال : ((إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)) رواه أحمد، وفي رواية الترمذي وابن ماجة: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط))، وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله دخل على أم السائب ـ أو أم المسيب ـ فقال: ((مَا لَكِ تزفرين؟)) قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يُذهبُ الكيرُ خبثَ الحديد)) رواه مسلم.
ومن هذه الأحاديث وما ورد في معناها والآيات القرآنية الكريمة التي أوردت جملة منها أستعرض أحوال بعض الأنبياء والرسل والأجر العظيم الذي يعطاه الصابرون على البلاء وما ورد في كفران الإنسان النعمة ودعائه لربه عندما يصيبه الضر والبلاء والشدة وإعراضه عند الرخاء والصحة والعافية، فيجب على المسلم أن يعرف ويعلم أن المرض رحمة من الله عز وجل، ينزله على عبده المؤمن في هذه الحياة الدنيا ليكفر به عنه من سيئاته وخطاياه وذنوبه، أو ليرفع به من درجاته ليصل المنزلة التي يريدها الله له.
والمرض من جملة البلاء والاختبار للمؤمن ليكشف مَعْدنَهُ ويرى مدى صبره وتحمله، وليس كما شاع وانتشر بين المسلمين اليوم المتعلّم والجاهل حول نزول المرض وأنواع الابتلاءات والاختبارات على المؤمنين بأن ذلك دليل على عدم رضا الله عنهم، وهذا شيء يُؤْسَفُ له حيث انتشر بين أهل الإسلام وكأنهم يجهلون أو يتجاهلون النصوص الصريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وكأنهم لا يعلمون أن أصحاب الصحة والعافية في الدنيا سوف يتمنون يوم القيامة لو أن جلودهم قرضت بالمقاريض وذلك حين يُعْطَى أهلُ البلاء الثوابَ والأجرَ العظيمَ الذي ادَّخَرَهُ الله لعباده الصابرين على البلاء في الدنيا، قال رسول الله : ((يَوَدُّ أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِضَتْ بالمقاريض)) رواه الترمذي.
لذا يجب أن تُصَحَّحَ المفاهيمُ لتكون وفْقَ شرع الله المطهر لا حسب ما يروِّجُهُ المنافقون ويعتقدونه أو من قلَّ حظُّه من العلم والفقه في دين الله من المسلمين، وخاصة عندما يرون الأمراض والابتلاءات تنزل بالمؤمنين الصالحين الأتقياء ويقولون بأن ذلك دليل على غضب الله عليهم ولو كانوا صالحين حقًا لما نزل بهم ذلك، وها نحن لم يصبنا ما أصابهم. ويغترّون بشدتهم وقوة أجسادهم، ولم يعلموا أن ما هم فيه إنما هو ع+ تَصَوُّرِهِمْ واعتقادهم، فالمؤمن لا يزال ينزل عليه البلاء حتى يلقى الله عز وجل وليس عليه ذنب إذا أراد أن يرفع درجته ويكرمه تبارك وتعالى.
وها هو رسول الله ينزل عليه المرض ويُبتلى بأنواع الابتلاءات، ومن قبله الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومنهم أيوب عليه الصلاة والسلام الذي وردت قصة مرضه مختصرة في القرآن الكريم، وفيها من الاستنتاجات والعبر الشيء الكثير لمن كان ذا عقل ولُبٍّ وتدبُّرٍ وتفكُّرٍ وبصيرة قبل البصر، فلقد ابتلاه الله عز وجل في جسده وماله وولده، حتى لم يبق من جسده مغْرِزُ إبرة سليمًا سوى قلبه كما ورد في الأثر، ولم يَبْقَ له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، إلا أن زوجته حفظت وُدَّهُ بإيمانها بالله تعالى ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه وتقوم على شؤونه نَحْوًا من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا، فَسُلِبَ جميعَ ذلك حتى رفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحًا ومساءً إلا وقت خدمتها للناس وتعود إليه في أقرب وقت ممكن، وهكذا الزوجات الصالحات الوفِيَّات لأزواجهن في الشدة والرخاء، وقليل من يسلك هذا المسلك من النساء والرجال ويكون وفِيًّا لصاحبه عندما يشتد به البلاء وينزل به المرض المزمن، فإذا طال المرض بأحدهما لم يصبر الآخر على صاحبه الذي قضى معه عشرات السنين وتأفّف منه وتضجّر وأرغى وأ+د وشكا إلى الناس حاله ليخرج أمامهم بمخرج ويذكر تعبه وصبره ومصابرته على رفيق دربه، وما علم المسكين كم يخسر من الأجر العظيم إذا هو لم يقم على خدمة صاحبه وخاصة المرأة التي إذا مات زوجها وهو راض عنها دخلت الجنة، فأين الوفاء بين الزوجين في هذه الأيام في مجتمعات المسلمين؟! إنه قليل وأقل من القليل، والله المستعان، حيث نرى بعض الزوجات لا يروق للواحدة حال ولا يهدأ لها بال إلا عند مرض زوجها لتذهب هنا وهناك وتزور فلانة وعلاّنة وتتنكر للعشرة الطويلة بينهما.
أعود للقول بأنه لما طال زمن المرض على أيوب عليه الصلاة والسلام واشتد عليه الحال وتَمَّ الأجلُ المقدَّرُ تَضَرَّعَ إلى الله رب العالمين ليرفع عنه البلاء فهو أرحم الراحمين، وهكذا يجب على المسلم أن يدعو ربه عند نزول البلاء والمرض عليه مع بذل الأسباب وعدم الاعتماد عليها، وإذا أراد الله أن يرفع الداء والمرض عن عبده فهو القادر سبحانه دون من سواه؛ لأنه الذي أنزله عز وجل لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى. فلما دعا أيوب عليه الصلاة والسلام ربه استجاب له وأمره بأخذ الأسباب حيث أمره أن يقوم من مقامه ويضرب برجله الأرض ويسعى ويركض ويغتسل ويشرب من الماء الذي نبع من الأرض بقدرة الله عز وجل حتى ذهب عنه المرض الذي كان يشكو منه، وقام سليمًا معافى بإذن الله تبارك تعالى، ولولا الإطالة لأوردت بعض المعاني والاستنتاجات الجيدة من هذه القصة العجيبة التي استفاد الطب الحديث منها الآن وينصح بها الأطباء، ومنها الجَرْيُ اليومي الذي يُذْهِبُ كثيرًا من الأمراض للمحافظة على الصحة العامة للأجسام، والشرب والاغتسال أي: استعمال الماء للجسد داخليًا وخارجيًا، وما هذه الحمامات الحارة للاغتسال والمنتشرة الآن بكثرة إلا أَخْذًا من فوائد العيون الحارة المعدنية التي تنبع من باطن الأرض كما نبعت لأيوب عليه السلام واغتسل وشرب منها. وفوائد كثيرة في هذه الآيات لا يتسع المقام لذكرها، وأكتفي بذكر الآيات القرآنية ففي إجمالها واختصارها الشيء العظيم، قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 41-44]، وقال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 83، 84].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن نعم الله علينا كثيرة وعظيمة لا نستطيع عدها وحصرها كما أخبر بذلك ربنا عَزَّ وجلَّ، ومن واجبنا أن نتذكر نعم الله علينا ونشكرها ولا نكفرها ونتفكر ونتأمل فيما نعلمه، ومن تلك النعم نعمة الصحة والعافية التي نتقلب فيها ليل نهار ولا نحسب لها حسابًا ولا وزنًا ولا قيمة، وقد يَمُرُّ المرض بالواحد منا ولا يعرف مقدار تلك الصحة ولا ثمنها إلا إذا فقدها نهائيًا أو اعترته الأمراض المزمنة أو الشيخوخة والهرم الذي يعود إليه معظم البشر إذا لم يموتوا قبل ذلك، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54]، وقال عز وجل: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8]، وقال عز وجل: فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 49]، وقال سبحانه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الروم: 33، 34]، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 53-55]، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، قال تعالى: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]، قال تعالى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]، والآيات والأحاديث حول هذا المعنى كثيرة.
فكما ذُكِرَ سابقًا بأنَّ على المسلم إذا مرض أنْ يدعو الله عز وجل ليرفع عنه المرض لأنه هو الذي أنزله وهو الذي يرفعه متى شاء، وفي الوقت نفسه يبذل الأسباب للعلاج بالطرق المباحة ويبتعد عن الطرق المحرمة سواء في الأدوية أو الطرق والوسائل بالذهاب إلى السحرة والمشعوذين أو تعليق التمائم والعزائم وغيرها، فالأدوية المباحة والطرق المشروعة فيها الغُنْيَةُ بإذن الله عن المحرمات، ويجب على المسلم أن يصبر ويحتسب الأجر عند الله تبارك وتعالى، وعليه أن لاَّ يَتَسَخَّطَ أو يُظْهِرَ الْجَزَعَ إذا نزل به الضُّرُّ، وأن يحسن الظن بالله تعالى ولا يتمنى الموت لأي ضرٍّ أو بلاء ينزل به للأحاديث الواردة في ذلك، ومنها قول رسول الله : ((لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)).
ولننظر إلى هذا الفضل الكبير والأجر العظيم في الأحاديث السابقة وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري وأبو داود رحمهما الله عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا))، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22، 23].
وعلى المسلم أن يزور المرضى لأن زيارة المريض تدعو الصحيح المعافى في بدنه للتذكر والشكر لله على آلائه ونعمه التي لا تعدُّ ولا تحصى، وبها يعلم أنه لو كان ساجدًا وقائمًا طوال حياته لله رب العالمين لم يُؤَدِّ مقابل نعمة واحدة من النعم التي أنعم الله بها عليه، وعيادة المرضى وزيارتهم تذكر الموت لئلا يسرح الشخص ويمرح في هذه الدنيا دون يقظة واعتبار، وتكون الزيارة أكثر اعتبارًا وتذكرًا عند زيارة المرضى في المستشفيات والمصحات العامة عمومًا وعند قرب الموت ودنوّ الأجل ولِدُورِ النقاهة والإعاقة خصوصًا لأصحاب الأمراض المزمنة أو المروِّعة نتيجة الحوادث المتعددة الأسباب، في تلك الدُّور مرضى قارب بعضهم عشرين عامًا ومنهم أقل أو أكثر، كثير منهم صابرون محتسبون، وقليل منهم من يجزع ويتسخط، ففي زيارتهم العِبَرُ والدروس الكثيرة لأهل الصحة والعافية والأمراض الخفيفة والعابرة، قال رسول الله : ((ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشيةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)) رواه الترمذي وأبو داود موقوفًا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه وأحمد بنحوه وابن ماجة وابن حبان مرفوعًا. والخريف: هو الثمر المخروف المجتنى. وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع))، قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: ((جناها)) رواه أحمد ومسلم واللفظ له والترمذي. خرفة الجنة: ما يُجتنى من ثمرها. وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوةً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح)) رواه أحمد وابن ماجة.
وعلى الزائر لأخيه المسلم أن يدعو الله بالدعاء المأثور الوارد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله بدلاً من حمل الورود والهدايا التي انتشرت عند أبواب المستشفيات والتي حملها لنا الجاهلون بتعاليم الإسلام وطبقناها كأنها سنة وخصال حميدة، وتركنا تعاليم ديننا الذي فيه الخير والبركة، وأخذنا بعادات وتقاليد أعداء الإسلام والمسلمين، فما أسرع المسلمين اليوم إلى التشبه بأعدائهم والتمسك بعاداتهم واستحسانها وإدخال التعديلات والزيادات عليها، وما أبعدهم عن المسارعة إلى الخيرات وزيادة الحسنات والاقتداء برسولنا محمد واتباع هديه وطريقته.
وعلى المسلم أن يُطَيِّبَ خَاطِرَ المريض ويدعو له ويمسح بيده اليمنى عليه، ومن المأثور ما وردت به الأحاديث من هدي رسول الله حيث كان إذا دخل على مريض يعوده قال: ((لا بأس، طهور إن شاء الله))، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((من عاد مريضًا لم يحضرْهُ أجلُه فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يَشْفِيَكَ إلا عافاه الله من ذلك المرض)) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح على شرط البخاري"، وقال : ((إذا عاد أحدكم مريضًا فليقل: اللهم اشف عبدك يَنْكَأُ لك عدوًا أو يمشي لك إلى صلاة)). ومن الأدعية المأثورة أيضًا التي يدعو بها المريض لنفسه أو الزائر قولُه : ((اللهم ربّ الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا)). وإذا رأى المسلم مبتلى فعليه أن يدعو له ولنفسه لئلا يبتليه الله بما ابتلاه به أو أكثر، فعليه أن يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ـ أو مما ابْتَلَيْتَ به كثيرًا من خلقك ـ اللهم عافه ولا تبتليني.
والأدعية كثيرة، من أرادها فليرجع إليها في مظانِّها، وأورد بعضها إن شاء الله في خطبة الدواء والتداوي.
وليعلم المسلم أن هذا المرض ـ حمى الوادي المتصدع ـ مهما سَمَّوْهُ الآن من تسميات وأعطوه من أسماء فهو موجود من آلاف السنين، وهو الطاعون الذي يقضي على الإنسان والحيوان في لحظات بتدمير أجهزة الهضم وخلايا المخ وغيرها خلال لحظات، سواء كان نقله عن طريق بعوض أو غيرها، كما أخبر رسول الله بأنه من علامات الساعة، وقد وقع طاعون عمواس في السنة الثامنة عشرة من الهجرة النبوية، وقَضَى فيه أكثر من خمسة وعشرين ألفًا، وفي هذا الزمان يتكرّر نفس المرض المعروف بالطاعون، وسواء سموه باسمه الحقيقي: الطاعون، أو سموه بتسميات حديثة، وهو ما عرف لديهم بحمَّى الوادي المتصدع، فهذه التسمية وغيرها لا تغير من وصف المرض شيئًا كما ورد في الحديث وإن وُصِفَ بغير هذا الوصف، والله أعلم.
ولا بأس بإيراد الحديث كاملاً للاستفادة دون الاقتصار على مكان الشاهد. قال عوف بن مالك رضي الله عنه: أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة أدم فقال: ((اعدد ستًا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا)) رواه البخاري.
والدواء والتداوي له خطبة مستقلة بإذن الله عز وجل حيث لا يتسع المجال لذلك، والذي جعلني أتطرق لموضوع اليوم وأفصل بين الخطبة السابقة واللاحقة التي وعدت بها ما حصل في الأيام الماضية من الشهر السابق وإلى الآن وما هو طافح على الساحة وطغى على أفكار الناس وعقولهم والذي أخذ حيزًا كبيرًا بين مختلف الفئات والطبقات وفي جميع الجهات والاتجاهات والمساحات، وحُقَّ لمن لم يكن متسلحًا بسلاح العقيدة أن تهزه أدنى رياح تهب نسماتها فضلاً عن الريح العاتية التي لن يستطيع الوقوف أمامها، وهذا التعبير المجازي ليس كتعبير المتخبطين ممن ظهرت سوءاتهم في كتاباتهم التي أظهرت ضحالة تفكيرهم ومستواهم المعرفي والثقافي بعيدًا، عن عقيدتهم التي جرحوها بل ثلموها بعباراتهم الرديئة التي أردت مستواهم مهما حملوا من شهادات عالية وكما يُقال: العالمية الدكتوراه، وبئس ما يحملون إذا لم يفهموا ويعوا ما يقولون ويكتبون.
ومنها على سبيل المثال ما كتبه أحدهم في إحدى الصحف بعنوان: وختامها فيروس، ومن ضمن كلامه: "كنت غارقًا في الحزن، كنت مجروح الفؤاد، كنت في بحر متلاطم من المرارة والأسى، كنت وزملائي في جبهة مستيقظة ليل نهار نحاول التصدي لذلك الزائر اللئيم الْمُمِلِّ الذي تَسَلَّلَ إلى منازلنا وحقولنا وديارنا واستشرى في أجساد بعض أهالينا متسلحًا بخواصه المتعبة، كنت أسرح بخيالي وأتساءل: هل يستحق هؤلاء الآمنون المسالمون هذا الغدر المفجع من فيروس أهوج لم يَطِبْ له المقام إلا في أرضهم الولود بالخير؟! هل يستحق ذلك المزارع المثابر أن يتهاوى فجأة خلف ثوره أو محراثه؟! هل يستحق ذلك الراعي البسيط أن يَنْفَقَ مع أغنامه في الخلاء لتنهشه الطيور الجارحة؟! وهل يستحق الذي ينام في العراء أن لا يكون له مهرب من الموت لأن الحياة لم تمنحه حجرة يختبئ فيها؟!" إلى آخر ما قال، وبئس ما قال.
فيا أيها المسلمون، هل لدى هذا الشخص وأمثاله من أهل الحداثة والثقافات الغربية الذين تصدرت صورهم وأسماؤهم وشهاداتهم زواياهم اليومية أو الأسبوعية عبر الصحافة، هل لديهم أدنى خلفية عن عقيدتهم وإسلامهم وما يقولون؟! هل درسوا التوحيد والقضاء والقدر وغُرِسَتْ في سويداء قلوبهم؟! هل مَرَّ بهم تعليم إسلامي إيماني حقيقي يستيقظ معهم عندما تنزل بهم النوازل والقوارع أو بمن حولهم؟! إن هذه العبارات التي أوردتها لو أردنا استقصاء ما فيها من الزلات والعثرات القادحة في توحيد وإيمان ذلك الكاتب لطال بنا المقام ولاحتجنا إلى خطب متعددة وليس خطبة واحدة، ولكن المسلم في مثل هذه المواقف والنوازل يُعرف معدنه وحقيقة إيمانه وإسلامه بكيفية تعامله النابع من منهج الإسلام من كتاب الله وسنة رسوله محمد وكيفية أخذ العبرة والعظة والدروس الإيمانية، فالمرض الذي نزل في الأشهر الماضية إنما هو بقضاء الله وقدره عز وجل، حيث حان أجل المتوفين في ساعاتهم المعلومة وبذلك السبب وفي المكان المحدد، وليرى العباد ضعفهم وقلة حيلتهم مع أشد الفيروسات التي لا ترى بالعين المجردة والتي هي أسرع فتكًا من غيرها بالحيوانات والإنسان الذي ينتقل إليه المرض بطرق متعددة، ومنها أصغر الحشرات المسماة بالبعوض أو كما يطلق عليه الناموس، وبأدق أداة تدخل جسم الإنسان بدون استئذان أو تحذير أو تخدير، وخلال ساعات إذا بالمرض ينتشر في جسم الإنسان وينهشه نهشًا ويحطم أجهزة المناعة وأهم أجزاء عمليةٍ عاملة في جسمه من الكبد إلى الكلى والمخ حيث تدمرها بإذن الله عز وجل في لحظات، فهل استيقظ الإنسان وعرف ضعفه وقلة حيلته؟! هل تفكر في هذا المرض السريع الفتك بهذه الدواب الكبيرة التي تدب على وجه الأرض من إنسان أو حيوان والذي نقلته حشرة صغيرة ضعيفة وهو فيروس كما سُمِّيَ لا يُرى بالعين؟! هل علمنا بأن تلك من جنود الله التي يرسلها على من يشاء كما قال تعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4]، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31]؟! هل تفكر أحد في هذه الاستنفارات الهائلة والمتعددة والمقاومة الشديدة والأموال الطائلة التي أُنفقت لمحاربة هذا المرض التي لا غبار عليها لأخذ الحيطة والحذر ووقف انتشار المرض؟! هل استفدنا دروسًا في العقيدة والأخذ بالأسباب مع التوكل على الله سبحانه وتعالى وعدم التواكل، أم أننا اعتمدنا على الأسباب المادية ونسينا الخالق جل وعلا؟! هل علمنا حجم البشر وقدرهم وعجزهم عند محاربتهم البرية والبحرية والجوية لذلك الفيروس وتلك البعوضة؟! هل لجأ المسلمون إلى ربهم عز وجل وسألوه رفع الضُّرِّ عنهم، أم أنهم أشد عُتُوًّا وعنادًا من مشركي العرب الأوائل؟! هل تأدبنا مع الله في عباراتنا وألفاظنا وحسن الظن بالله عز وجل واللجوء إليه تبارك وتعالى؟! هل عرفنا مبدأ الحجر الصحي أنه من صميم إسلامنا وأنه لا يَرِدُ ولا يُورَدُ مريضٌ على صحيح أو الع+ إذا كانت هناك عدوى متحققة، وأنَّ على المسلم أنْ يَفِرَّ من المجذوم فراره من الأسد؟! عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)) متفق عليه. هل نعلم أن من مات من المسلين بهذا الداء وأمثاله فهو شهيد بإذن الله إذا كان صابرًا محتسبًا؟! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)) متفق عليه. والمطعون هو الذي مات بالطاعون، والمبطون هو من مات بمرض البطن، وصاحب الهدم: الذي مات تحت الهدم. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تعدون الشهداء فيكم؟)) قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: ((إن شهداء أمتي إذًا لقليل!)) قالوا: فَمَنْ يا رسول الله؟ قال: ((من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد)) رواه مسلم، وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((الطاعون شهادة لكل مسلم)) رواه البخاري ومسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله عن الطاعون فقال: ((كان عذابًا يبعثه الله على من كان قبلكم، فجعله الله رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه فيمكث لا يخرج صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد)) رواه البخاري. وورد أيضًا في أحاديث صحيحة من ضمن الشهداء المرأة تموت في نفاسها بسبب ولدها والموت بالحرق وذات الجنب وداء السلّ.
| |
|