molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: التفكر في الإنسان وخلقه (1) - سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 7:33:21 | |
|
التفكر في الإنسان وخلقه (1)
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن الله عز وجل قد دعا الناس مؤمنهم وكافرهم إلى التدبر والتفكر في خلقهم ومَبْدَئِهم ونشأتهم وما هو عليه حالهم من الآيات العظيمة التي يتمتعون بها وهم عنها غافلون في حياتهم الدنيا، وبعدها الحياة البرزخية ثم القيامة وحسابها والدار الآخرة إما إلى الجنة أو إلى النار.
دعا الله عز وجل عباده للتفكر في الآيات التي في أنفسهم كما دعاهم إلى غيرها؛ ليؤمن الكافر ويصدق ويشهد بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وليزداد المؤمن إيمانًا على إيمانه بوحدانية الله وصفات كماله ونعوت جلاله وعموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبِرِّهِ ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه، لا إله إلا هو الحي القيوم الرحمن الرحيم ذو الجلال والإكرام.
لقد ندبنا الله عز وجل إلى التفكر في خلق الإنسان والنظر في ذلك في مواضع عدة من كتابه الكريم، فقال تعالى: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق: 5-8]، وقال سبحانه: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21]، وقال تعالى: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس: 17-23]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6-8]، وقال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم: 8].
والآيات الأخرى التي توضح مراحل تكوين هذا الإنسان الضعيف في أطواره المتتابعة من عمره وأمام عظمة الله وقدرته وضعفه البشري الملازم له، ولكنه جبار عنيد متكبر متغطرس إذا لم يستقر الإيمان في قلبه ويذل ويخضع لربه وخالقه سبحانه، مع أن الله سبحانه وتعالى سخر لهذا الإنسان الضعيف ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه عز وجل لخدمة هذا الكائن البشري ليعبد الله وحده، قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية: 13]، وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان: 20].
وسوف يكون لنا وقفات إن شاء الله تعالى مع التفكر في ذلك التسخير وتلك النعم التي لن نستطيع حصرها ولا عدَّها، ولكن من أجل زيادة الإيمان وارتباط المؤمن بالله عز وجل ولترتفع نفسه وهِمَّتُه إلى درجة اليقين والإحسان؛ حتى يكون أشد مراقبة لله تعالى فيما يأتي ويذر، ويحاسب نفسه في خاصة هذا الزمن الذي تكالب فيه الأعداء علينا من داخل أنفسنا وملذاتنا وشهواتنا ومطامعنا إلى جانب شياطين الإنس والجن وأعداء ديننا من جميع ملل الكفر ونِحَلِهِ.
إن الله عز وجل دعا العباد جميعًا للتفكر والنظر في خلقهم ومطاعمهم ومشاربهم وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما من آيات عظيمة ليهتدي من الكفار من أراد الله له الهداية و يزداد المؤمن إيمانًا، قال تعالى: قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101]، وقال عز وجل: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].
إن تكرار ذكر النطفة والعلقة والمضغة والتراب في القرآن الكريم ليست لمجرد تعريفنا بهذا فقط، بل للدعوة إلى النظر والتفكر والتعقل في مبدإِ خلق الإنسان ونشأته وحياته وآخرته، إلى العظام البالية في قبره وإعادة نشأته مرة أخرى بكل مكوناته وجميع أعضائه وأشلائه وأجزائه، بل أدقّ من ذلك كله تسوية البنان لكل إنسان وإعادته كما كان، وهو علم في حد ذاته، علم البصمات الذي بَهَرَ المتخصصين فيه ويَبْهَرُ عقول الآخرين من عامة الناس حيث اختلاف البشر بعضهم عن بعض في البصمات، كل هذا وغيره لم يُذكر في القرآن لنمرّ عليه مرور الكرام ـ كما يقال ـ ونتلوه تلاوة عابرة، بل للتدبر والتفكر، قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 3، 4]. ومرورًا بهذه الروح التي يقف البشر من أولهم إلى آخرهم مهما أوتوا من العلوم عاجزين عن وصفها وماهيتها وماذا يذهب منها في النوم وغيره، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85]، وقال عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم: 23]، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]، وقال عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء: 82]، وقال سبحانه وبحمده: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24].
فلننظر الآن بعين البصيرة إلى النطفة التي هي جزء من قطرة من ماء مهين دافق ضعيف مُسْتَقْذَر لو مَرَّتْ عليه ساعة من الزمن وتعرض للهواء الخارجي لفسد وتغير كلّ شيء فيه، لو تفكرنا ببساطة متناهية كيفية بداية هذا الخلق العجيب دون الخوض في التفاصيل العلميةِ الحديثةِ القديمةِ في آنٍ واحدٍ، حديثة في اكتشافها، قديمة في معلوماتها لوجودها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ولكنَّ عقولنا القاصرة التي لا تدرك كثيرًا مما نراه ونشاهده قد تقف أحيانًا بنا إلى إنكار حقائق واضحة للعيان، والإنسان عدو لما يجهل، وما أكثر جهلنا مع كثرة انتشار العلم وفُشُوِّ القلم والكتابة؛ لذلك ينبغي أن لا نملَّ ونسْأَمَ من الجمل الاعتراضية أو العبارات التوضيحية التي تأتي في المكان الذي أراه مناسبًا للمقام وإن كان لا يناسب استغراق الذهن والتفكير وانسياقه حول تناسق الموضوع، لذا أعود للقول بأن علينا أن ننظر في تلك النطفة من الماء المهين المستقذر الخارج من بين الصلب والترائب المودع في القرار المكين في الظلمات الثلاث بعد التخليق، وكيف انقادت تلك النطفة لقدرة الله مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها وطول مسافتها، مع أننا نراها قصيرة ولكنها تبلغ آلاف الأمتار وليس عشرات أو مئات الأمتار، حتى وصلت إلى رحم الأنثى واستقرت بعد أن ساقها رب العزة والجلال إلى مستقرها ومستودعها بقدرته عز وجل ومشيئته وإرادته بعد أن اجتمع الذكر والأنثى وقادتهما الشهوة التي كانت السبب في الجمع بين الْمَاءَيْنِ ليتم تخليق الولد وتكوينه.
لننظر إلى تلك النطفة التي تحمل الصفات الوراثية للوالدين أو لأحدهما أو للقرابة، وكيف يحمل الشبه من عظام ولحم وشعر وجلد وأنف وعين وأصابع وأطراف مختلفة، بل حتى في المشي والجلوس والانحناء والكلام والتفكير والمنطق والصوت من حيث الحدة والغلظة واللين والشدة والقوة والسمع وقوته أو ضعفه والبصر وقربه وبعده، بل العواطف والانفعالات المتعددة كيف يحملها ذلك الْجُزَيْءُ البسيطُ الذي لا يُرى بالعين المجردة وإنما تُرى منه الأجزاء المجتمعة. علينا أن نتفكر فيها ونتدبر ونتأمل قدرة الله وعظمته سبحانه وتعالى، وأترك التفصيلات لحينها إن شاء الله بعد استكمال المهم في هذا الموقف.
قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 20-24]، وقال تعالى: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [السجدة: 6-9]، وقال عز وجل: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 36-40]، وقال سبحانه: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق: 5-10]، وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12-14]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله، ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد: فإن العلماء في القديم والحديث ألَّفوا مؤلفات تتكون من مئات المجلدات حول الإنسان وخلقه وتكوينه، وقد جاءت موجزة مختصرة في القرآن الكريم شاهدة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته ودقيق صنعه وخلقه وجمال إبداعه وتكوينه لهذا الإنسان ولجميع المخلوقات، فسبحانه من إله عظيم رؤوف رحيم، نسأل الله أن يدخلنا في رحمته ويجنبنا غضبه ومقته وعقابه.
لو أن المسلم تتبع الآيات القرآنية المتعلقة بخلق الإنسان وتدبرها ووعاها بعد قراءة تفسيرها في الكتب الموثوقة إلى جانب الأحاديث الصحيحة وتدبر ووعى واتعظ لكانت له أكبر موعظة تقوده إلى مرضاة ربه وثواب الدار الآخرة، وكانت له عبادة ورفعة في درجاته حيث إنها علامات واضحات منه وفيه ويتقلب في نعمها ليل نهار وهو عنها غافل ولم يقدِّر الذي منحَه إياها وأنعم بها عليه وتفضَّل العزيز الغفار ذو الجلال والإكرام.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6-8]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 6]، وقال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [التغابن: 3، 4]، وقال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 1-4]، وقال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 1، 2]، وقال تعالى: خْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر: 6]، وقال تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد: 8-11].
وسوف يكون لنا وقفات مع هذه الآيات إن شاء الله تعالى، وخاصة مع الذين يسعون في الأرض فسادًا ليل نهار ويحسبون أن الله غافل عنهم ما دام الناس غير مطّلعين عليهم وعلى شرورهم وفسادهم وهتك الأعراض، فهم ماضون في شرِّهم وانحرافهم ولكن الله لهم بالمرصاد.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]. وفي سورة الروم آيات عديدة ومترابطة كما هو الحال في القرآن الكريم لمن وعاه وتدبره، قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم: 8، 9]. ثم تأتي هذه الآية التالية بعد آية من هاتين الآيتين: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11]. ويمضي سياق الآيات للتذكير والموعظة وإيقاظ الغافلين إلى أن قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 20-27]. العالِم غير العالَم، فتح اللام غير +رها، فلننظر إلى الربط في بداية الآية بين خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان من أول الآيات إلى آخرها واختلاف لهجاتهم ولغاتهم وألوانهم وكيف تكون الإعادة في النهاية، وقد تكررت مرتين: في بداية التذكير والأمر بالتفكر في مخلوقات الله، وفي آخر هذه الآيات، ولكنه في البداية قال تعالى: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11]، وفي النهاية: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27]. ولماذا ذكرت كلمة للعالمين في آخر الآية؟ فهي أكبر موعظة لنا لو تدبرنا وتفكرنا، وكذلك النوم من أكبر الآيات الدالة على وحدانية الله وعظمته سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون، أكتفي بهذه الآيات في هذه الخطبة ليبحث كل إنسان بنفسه في تفسيرها وما دلت عليه ويتفكر في الآيات العظيمة في شخصه، ومن لم يستطع فيقف بتفكيره المحدود للتعرف على بداية خلقه وتكوينه في رحم أمه والأطوار التي مرّ بها إلى أن صار على حاله الراهنة، وكم هي نعم الله عليه التي يتقلب فيها بالليل والنهار، ولا يحسب أنه جرم صغير فقط مع أنه إلى المخلوقات غيره ما هو إلا ذرة في هذا الكون الفسيح الذي سخره الله له ولغيره من بني آدم، ولكنه مع ذلك تنطوي فيه الآيات العجيبة الدقيقة التي ينبغي لنا أن نعيها لنحاسب أنفسنا ونراقب الله تعالى ونزداد منه خوفًا وإليه طمعًا ورجاء وتقربًا.
وتزعم أنـك جرم أصغر وفيك انطوى العالم الأكبر
وفي الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى يتم استعراض ما يتيسر حول هذا الموضوع للوصول للغرض المطلوب والهدف المقصود بإذن الله تعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وآله.
| |
|