molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: التفكر في الإنسان وخلقه (3) - سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 7:31:40 | |
|
التفكر في الإنسان وخلقه (3)
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فالكلام موصول بسابقه حول التفكر في خلق الإنسان والآيات الدالة على وحدانية الله عز وجل وعظمته وقدرته وعظيم صنعه وإبداعه في الخلق عمومًا، من الذرة الصغيرة إلى أكبر جرم في هذا الكون.
إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة الكاملة الشكل والوظيفة أمر يستحق التدبر والتأمل الطويل والأدبَ الجمَّ مع المنعم المتفضل الكريم رب العالمين الذي أكرمنا بهذه الْخِلْقَةِ السوية تفضلاً منه ورعاية ومنّة، والشكرَ له دومًا وأبدًا ذكرًا وفكرًا وقولاً وعملاً، فلو شاء سبحانه لركبنا على أي صورة أخرى يريدها ويشاؤُها عز وجل، ولكنه اختار لنا هذه الأشكال الجميلة التكوين المعتدلة الخلقة، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]، وقال سبحانه وبحمده: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن: 3]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6-8]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 6].
وهناك مئات المؤلفات تتعلق بالإنسان من حيث التكوين والخلق والإحكام، ومن حيث العجائب والآيات العظيمة فيه، ومن حيث ما يتعلق بكل جهاز فيه للوصول إلى معالجته وتطبيبه، ولا زالت الدراسات قاصرة والباحثون عاجزين عن الوصول إلى كل صغير ودقيق في هذا الإنسان، ولذلك نرى التخصّصات المتعددة للأطباء، فذاك طبيب للعيون، وآخر للعظام، وثالث للأعصاب، ورابع للجهاز الهضمي، وخامس للقلب والغدد الصماء، والمسالك البولية، والصدرية، والأنف والأذن والحنجرة، والأسنان، والدورة الدموية، والجلدية، والتناسلية، والجراحة العامة، والأطفال، والنساء والولادة، وأمراض الدم، إلى آخر تلك التخصصات التي قضى أصحابُها السنواتِ الطويلةَ للدراسة والتخصص في جزء من جسم الإنسان لمعالجته فقط، ويرون بأنفسهم تلك العجائب والآيات العظيمة في الإنسان، وقليل منهم من يتعظ ويعتبر، مع البشائر السارة لمن يدرس في كليات الطب حيث تحركت فيهم الفطرة السليمة ورأوا عظمة الله وقدرته واتَّعظوا بما شاهدوه وتعلموه من علم التشريح، وأملنا وطلبنا منهم أولاً أن يتعظوا ويتقوا الله تعالى في البشر الذين يعالجونهم، ويؤدوا الأمانة التي أُنِيطَتْ بهم وتحمَّلوها حول أرواح الناس وعدم المتاجرة بهم وبمشاعرهم وأموالهم، فهم بَشَرٌ مثلهم، كما أن عليهم أن يربطوا العباد بخالقهم؛ لأن الله الذي أنزل الداء وهو الذي يرفعه إذا وفّق الطبيب لمعرفة الدواء وبرأ المريض بإذن الله، فهم ليسوا إلا أسبابًا لا يملكون لأنفسهم أدنى نفعٍ أو دفع أي ضرٍّ، ومنها الأمراض التي هم أسباب في وصف الأدوية لها، فقد تصيب بعضَهم أمراضٌ لا يستطيع زملاؤهم في المهنة معرفة الدواء لأصحابهم وزملائهم الأطباء، ولا يستطيع أكثرهم التوسع والخروج عن مجال تخصصه.
وأورد مقاطع من كلام ابن قيم الجوزية حول التأمل والنظر في خلق الإنسان حيث قال رحمه الله: "وانظروا كيف قسّم الله عز وجل تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس واللين وبَيْنَ ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال، وكيف +اها لحمًا ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظًا، وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها وهي محفوظة به، وكيف صَوَّرَهَا فأحسن صُوَرَهَا، وشقَّ لها السمع والبصر والفم والأنف والأذن وسائر المنافذ، ومدّ اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والأمعاء والطحال والرئة والرحم والمثانة والكلى والحالب، كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه".
وقال رحمه الله: "ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قوامًا للبدن وعمادًا له، وكيف قدرها ربها وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير والقصير والطويل والمنحني والمستدير والدقيق والعريض والمصمت والمجوف، وكيف ركب بعضها في بعض، فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الأنثى، ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط، وكيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها كالأضراس فإنها لمَّا كانت آلةً للطحن جُعلت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع جُعلت مستدقة محددة، ولما كان الإنسان محتاجًا للحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه للتردد في حاجته لم يجعل الله عظامه عظمًا واحدًا، بل عظامًا متعددة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه، وكيف شدّ أَسْرَ تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار وأربطة أنبتها من أحد طرفي العظم، وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرباط له، ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه، وفي الآخر نُقَرًا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها، فإذا أراد العبد أن يحرك جزءًا من بدنه لم يمتنع عليه أو يتعذر عليه ذلك لوجود المفاصل".
ثم استطرد رحمه الله في الوصف بكلام عجيب يتم إيراد بعضه في مكانه.
لقد خلق الله العظام لكي تعطي لجسم الإنسان شكله وقوامه الإنساني، فهي كأركان المنزل الذي يقوم عليه البناء، ولولا تلك العظام لأصبح الإنسان قطعًا من اللحم المتراكم، ولو لم تكن عظام الإنسان مفصلة وكانت عظمًا واحدًا لما تمكّن من القيام من مكانه، ولعجز عن تحريك إصبع من أصابعه، ولكان حال الإنسان كأي قطعة من الحديد، ولكن الله تبارك وتعالى فَصَّلَ جسمَ الإنسان تفصيلاً دقيقًا محكمًا بمفاصل أحكمها عز وجل، فله المنة والفضل وحده، وله الشكر والثناء عز شأنه وتعالى سلطانه، فكوّن نهاية كل عظم بحيث تُناسب وتُوافق تركيب العظم المتصل به في غاية الإحكام والإتقان، ولهذا لا تناسب عظمة أخرى، وشكَّل الله سبحانه وتعالى هذه المفاصل تشكيلاً يلائم الحركة المطلوبة كالمفصل الدائري مفصل الورك الذي يربط عظم الفخذ بعظمة الحوض، وبه يتمكن الفخذ من الحركة في عدة اتجاهات، في حين نرى مفصل الركبة قد كُوِّن بحيث يسمح للساق بالحركة في اتجاهين فقط: إلى الأمام وإلى الخلف، والحقيقة أنه اتجاه واحد إلى الخلف وليس كاملاً وإن تمت إعادته إلى الأمام لأن صابونة الركبة تمنعه من إكمال اتجاهه المعا+، ولو كان له اتجاهات متعددة لما استطاع الإنسانُ المشيَ والوصولَ إلى مطلوبه إلا بمشقة وصعوبة بالغة، وربطها سبحانه بتلك الأعصاب المناسبة لها في الاتجاهات والقبض والبسط والقيام والقعود والحركات المتعددة مع وجود ذلك الغطاء الدائري الغضروفي المسهل لحركتها التي عجز البشر إلى الآن فيما أعلم عن إيجاد البديل له الذي يقوم بالعمل الكامل الذي يقوم به في جسم الإنسان دون أدنى اختلاف، وهو من أبسط الأجزاء التعويضية الممكن استعمالها، مع أنهم استطاعوا إيجاد ما يقوم بالعمل الجزئي للركبة. وإذا تأملنا مفاصل العظام نجدها ملساء بخلاف سائر العظام الخشنة، كما خلق الله أيضًا وأوجد سبحانه سائلاً لَزِجًا في تلك المفاصل لتسهيل حركتها ومنع احتكاك العظام وتآكلها، وهذا مشاهد عند نزول السائل اللزج بعد فصل عظام البهائم التي يُؤْكَلُ لحمُها والتي نشاهدها باستمرار، ولهذا استفاد الإنسان من ذلك لمنع تآكل واحتكاك الحديد والمعادن في الآلات عند تحركها بوضع الزيت أو الشحم في تلك الآلات التي تدور أو تَحْتَكُّ تُرُوسُها وأسنانُها.
ولننظر إلى الذي يحرك العظام، إنها العضلات اللحمية المربوطة بالعظام الكاسية لها، حيث خلق الله لكل عظم ما يناسبه من العضلات اللحمية المربوطة بالأعصاب فيما بين أجزائها بالقدر المناسب لها ولوضعها ووظيفتها، لقد كَسَا الله العظام العريضة كعظام الظهر والرقبة كسوة من اللحم تناسبها، والعظام الدقيقة +وة تناسبها كالأصابع، والمتوسطة أيضًا كعظام الذراعين والعضدين.
ولننظر إلى اليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه ورأس مال معاشه، فقد طوَّلَهُمَا الله سبحانه وتعالى ليصل بهما الإنسان إلى ما يريد من جسمه وبدنه، وعرّض الكفّ ليتمكن به من القبض والبسط، وقسّم فيه الأصابع الخمسة، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل والإبهام باثنتين، وجعل الأصابع الأربعة في جانب والإبهام في جانب لتدور الإبهام على الأربعة. وعلى كل منا أن يتأمل ذلك عند عدّه وعقده التسبيح بيده، كيف يستطيع بإبهامه المرور والوصول إلى أصابعه الأخرى بع+ الأصابع الأخرى، لذلك جاء وضع الأصابع والأنامل والمفاصل بينها والكف على أحسن وضع صالح للقبض والبسط ومباشرة الأعمال، ولو اجتمع الأولون والآخِرون من الإنس والجن على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعًا آخر للأصابع سوى ما خلقت عليه لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، فتبارك الله أحسن الخالقين، فلو شاء لجعلها طبقًا واحدًا كالصفيحة، وعندها لا يتمكن الإنسان بذلك من مباشرة مصالحه وأنواع تصرفاته ودقيق الصنائع والخط وغير ذلك، فهي على حالها الراهنة لو بسط أصابعها لكانت طبقًا واحدًا يضع عليه ما يريد، وإن ضمّها وقبضها كانت دبّوسًا وآلةً للضرب قوية، وإن جعلها بين الضمِّ والبَسْط كانت مغْرَفةً وملْعَقةً له تمسك فيها ما يتناوله بها.
وركّب الأظفار على رؤوسها زينة لها وعمادًا ووقاية ليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها بالأصابع، ولِيَحُكَّ بها بدنه عند الحاجة، والظفر الذي هو أقل الأشياء وأحقرها في جسم الإنسان وعند طوله يقوم بقصِّه لو عُدِمَهُ ثم ظهرت به حِكَّةٌ في جسده لاشتدَّتْ حاجته إليه ولم يقم مقامه شيء في حَكِّ بدنه، فسبحان من هدى اليد بأصابعها وأظفارها لتصل إلى موضع الحك والألم من الإنسان وتمتد إليه ولو في النوم والغفلة من غير حاجة لطلب ونداءات إلى غيره، مع أنه لو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك ويهتدِ إلى موضع الألم والحكّ إلا بعد تعب ومشقة وتوجيه من الشخص نفسه.
وانظر كيف يتناول الشخص اللقمة مما يريد أكله ويضعه بين أصابعه، ثم تتجه يدُه إلى فمه دون أن تخطئَ الطريقَ إلى عينه أو أنفه أو رقبته أو تذهب يمنة أو يسرة، فمن الذي هداها إلى ذلك الموضع حسب إرادة الشخص وسخرها للعمل الدؤوب المستمر في الأكل والكتابة والأعمال الأخرى دون عناء أو تعب؟! ويعرف قدر هذه النعمة من فقد إحدى يديه أو أصابعه أو كان مشلولاً ومريضًا، فمن المنعم المتفضل عليك يا ابن آدم بهذه النعم التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؟! إنه الله العزيز الحكيم لا إله إلا هو مالك الملك ذو الجلال والإكرام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [البقرة: 259]، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12-14].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فلقد خلق الله كل شيء في الإنسان ليناسب وظيفته وعمله المناط به، وأحكم ذلك سبحانه وأتقنه وأبدعه، فقد جعل عظام أسفل اليدين قوية لأنها أساس لها، أما عظام أعلى اليدين فهي دونها في الثخانة والصلابة لأنها محمولة وتختلف عنها في الوظيفة والعمل، كما جعل عظام الرأس قوية لتحمي الْمَلِكَ الذي بداخلها تلك الجوهرة الثمينة العقل المفكر المرشد للإنسان في تصرفاته وأعماله وأقواله، ذلك السائل الليّن بين اللزوجة والتجمد المتصل بحبل بسيط من الأعصاب الخفيفة الذي لا يكاد يُرى بالعين من الدقة ولا يلقي له الإنسان بالاً، ومن عظيم لطف الله عز وجل ودقة خلقه وإبداعه أن جعل ذلك الحبل داخل ووسط سائل متوسط الكثافة من حيث السيولة والتجمد، ثم يحمي ذلك السائل ويغطيه غطاء يحفظه من التسرب إلى خارج ذلك الغطاء ويمنع دخول ما يؤثر عليه، وهو أيضًا داخل فقرات الظهر والرقبة إلى أسفل الظهر والعجز، ويعرف الناس قدر تلك النعمة العظيمة عندما يرون المصابين في الحوادث وغيرها ممن أصابهم الشلل التام أو بعضه، وكيف عجز العلم الحديث وأهله عن استبدال ذلك العصب الرفيع للقيام بعمله مع الإمكانيات الهائلة في هذا العصر، ولكنهم يقفون حائرين أمام قدرة الله وعظمته، ولا يستطيعون تقديمًا ولا تأخيرًا، ولا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًا ولا نفعًا.
وإذا أردت أن تعرف وتتفكر وتتأمل في هذه النعمة فَخُذْ بعضَ فقرات ظهر البهيمة المأكولِ لحمُها من الغنم أو الماعز، وانظر إلى ذلك المسمى بالمخ أو النخاع الشوكي داخل الفقرات، وافحص ما بداخله وتأمله جيدًا وخاصة الحبل الشوكي تلك الأعصاب الدقيقة والشبكة الكهربائية التي تحرك أجزاء الجسم المختلفة وتوصل إشاراتها في لمح البصر أو أقل إلى المخ في الرأس، ويصدر تعليماته إلى أجهزة الدفاع والمقاومة المنتشرة في الجسم، ذلك العصب الدقيق المحفوظ في تلك الطبقات المتعددة لو انقطع كاملاً أو حصل الضغط على جزء منه في أحد الأطراف الأربعة فماذا يكون حال الإنسان الضعيف؟ فاعتبر يا ابن آدم، واسجد لله شكرًا، واحمده ليلاً ونهارًا سرًا وعلانية قولاً وعملاً واعتقادًا، واخضع لربك واعبده وَقُمْ بما أوجبه الله عليك، وتواضع للخلق وأبعد نفسك عن الكبر والغطرسة والتعالي والشموخ.
ثم انظر إلى تجويف الصدر وربط أضلاع الجهتين بالقفص من الأمام وبالظهر من الخلف على أحسن هيئة لتحمي الرئتين والقلب مما يؤثر عليها من الخارج، ولتوجد المسافة التي تمكنها من أداء عملها في الشهيق والزفير وقيام عضلة القلب بالضَّخِّ للدماء في جميع أنحاء الجسم وفَصْلِ ما بينها وبين الجهاز الهضمي بالحجاب الحاجز المفتوح بفتحة ملائمة للمريء الموصل للطعام إلى المعدة، فانظر ـ يا عبد الله ـ إلى القلب تلك العضلة والمضغة المذكورة في الحديث الشريف: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). تلك العضلة الصغيرة التي تحمل الحب والكراهية والنيات والمقاصد والخير والشر في شفافية وروحانية عجز كثير من الناس في القديم والحديث عن الربط بين تلك العضلة المضغة التي تضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسم وما في داخلها من روحانية وشفافية لم يدركوا كنهها وحقيقتها، وفي الوقت نفسه تؤدي ذلك العمل العجيب من ضخ للدماء عبر الأوردة والشرايين والأوعية الدموية إلى كل خلية في الجسم حاملة ما يحتاجه ذلك العضو والخلية من الطعام المناسب له بعد عملية التأكسد، ثم ترجع تلك الدماء مرة أخرى إلى القلب وتتم تلك العملية بالع+ من الأوعية إلى الشرايين الأخرى إلى الأوردة في الجهة الثانية للقلب آخذة من الرئتين ما تحتاجه من الهواء مصفية منقية لما يعلق بها طاردة عن الجسم ما يؤذيه ويؤثر عليه.
ولولا ضيق المقام لتتبعنا الطعام والشراب من بداية دخوله الفم حتى تتم عملية الإفراز والإخراج والهدم والبناء واستفادة كل عضو وعضلة في جسم الإنسان وكل خلية فيه، وكيف وصلت فائدة كل ما يتناوله الشخص إلى كل جزء بما يناسبه إلى الفم باللعاب المفيد للهضم، وإلى العين بالدمع المالح المطهر لها، وإلى الأذن بالصمغ المحافظ عليها مما يؤذيها من أصوات مزعجة وغيرها، وإلى الأنف بالمخاط الذي يحافظ على أغشيته للاستفادة من دخول الهواء وتنقيته قبل دخوله ووصوله للرئتين، فلو زادت إفرازات الدمع أو اللعاب أو الصمغ أو المخاط أو نقصت لتعب الإنسان وأصيب بالأمراض المتعددة وطلب الدواء في أي مكان بحثًا عن الشفاء، فمن الذي أوجد للقلب هذا المكان اللائق به دون غيره من أجزاء الجسم بحيث يجاور الرئتين ويتصل بجميع أنحاء الجسم وخلاياه عبر تلك القنوات والشُّعَيْرَات الدموية التي تبلغ آلاف الأمتار المختلفة الأشكال في المتانة والرخاوة والليونة وربطها بالأجهزة الأخرى لتقوم بوظائفها في الكبد والطحال والكليتين والمعدة والأمعاء والغدد المختلفة المنشرة في الجسم وكذلك المخّ؟! فمن الذي سيَّرها لتعمل ستين أو سبعين سنة أو أقل أو أكثر؟! من الذي سخَّرها لك لتقوم بهذه الأعمال التي أنت عنها غافل؟! من الذي أوصل لكل خلية ما تحتاجه من الغذاء؟! ومن الذي أوصل لكل جزء ما يناسبه من الإفراز من الدمع والصمغ واللعاب والمخاط والعرق؟! ومن الذي مَنَّ عليك بإخراج البول والأذى بعد الاستفادة من الصالح من ذلك الطعام والشراب؟! إنه الله الملك الحق المبين العزيز الحكيم خالق كل شيء وربه ومليكه لا إله إلا هو، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88]، الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]، فسبحانه مِنْ إِلَهٍ عظيم رؤوف رحيم، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وما بينهما، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ. [الانفطار: 6-8]، وقال عز وجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 1-4]، وقال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن: 3]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 6]، وقال تعالى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21].
| |
|