molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: فضل العفو - صلاح بن محمد البدير الإثنين 21 نوفمبر - 4:44:50 | |
|
فضل العفو
صلاح بن محمد البدير
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه أفضل مُكتَسَب، وطاعتَه أعلى نسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيُّها المسلمون، يتفاوَت الناس في مكارِم الأخلاقِ ومقاماتِ الإحسان وجميلِ السجايا والخِصال، وإنَّ العفوَ عن المُسِيء في أمرِ المعاش وعن المُقصِّر في أدب الصحبة وحقوق المخالطة والإغضاءَ عن زلَّته والتجافيَ عن هفوته والتغافل عن عثرته واحتمالَ سقطتِه من أجلِّ الصفات وأنبل الخِصال، يقول جلَّ في علاه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134]، وقال جلَّ في عُلاه: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37]، وقال جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 39-43]. فشرع العدل وهو القِصاص، ونَدَب إلى الفضل وهو العفو، قال إبراهيم النخعيّ رحمه الله تعالى: "كانوا يكرهون أن يُستذلُّوا، فإذا قدروا عفَوا" أخرجه البخاري.
والعفو أقربُ للتقوى، والصَّفح أكرمُ في العُقبى، والتجاوُز أحسنَ في الذِّكرى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ما نقصَت صَدقةٌ من مال، وما زادَ الله عبدًا بِعفوٍ إلا عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رفعه)) أخرجه مسلم، وعن عقبةَ بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال: قال لي رسولُ الله : ((يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهلِ الدنيا والآخرة؟ تصِل من قطَعَك، وتُعطِي مَن حَرَمَك، وتَعفو عَمَّن ظلمك)) أخرجه أحمد، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبيِّ أنه قال وهو على المنبر: ((ارحموا تُرحَمُوا، واغفِروا يَغفر الله لكم)) أخرجه أحمد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((ما مِن عبدٍ ظُلِم بمظلمةٍ فيُغضِي عنها للهِ عزّ وجلَّ إلاَّ أعزَّ الله بها نصرَه)) أخرجه أحمد وأبو داود.
أيُّها المسلمون، الصبرُ عند الغضَب والحِلم عند الجهل والعَفو عند الإساءة مرتبةٌ عالية وخصلةٌ شريفة، لا يقدر عليها إلا الصّابرون المُهتدون المُوفَّقون، يقول جلَّ في علاه: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35]، وعن عبد الله بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما أنّه قال في صِفة رسولِ الله : ليس بفظٍّ ولا غَليظ، ولا سخَّابٍ في الأسواق، ولا يَدفع السيئةَ بالسيِّئة، ولكن يعفو ويصفح. أخرجه البخاري. فصلوات الله وسلامه عليه. وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: ما ضَربَ رسولُ الله شيئًا قطُّ بيَدِه، ولا امرأةً، ولا خادِمًا، إلاَّ أن يُجاهدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقِم من صاحبِه، إلا أن ينتهكَ شيئًا من محارم الله تعالى، فينتقم لله عز وجل. أخرجه مسلم.
لا يبلُغُ المَجـدَ أقوامٌ وإن كرُمُـوا حتى يذِلُّوا وإن عَـزُّوا لأقـوامِ
ويُشتمـوا فترَى الألوانَ مُسفـرةً لا صَفحَ ذُلٍّ ولكن صفح أحلام
أيّها المسلمون، لا عافيةَ ولا راحة ولا سعادة إلا بسلامةِ القلب من وسَاوس الضغينة وغواشي الغِلّ ونيران العداوة وحسائِك الحقد، ومن أمسَك في قلبِه العداوة وتربَّص الفرصَةَ للنّقمَة وأضمَر الشّرَّ لمن أساء إليه تكدَّر عيشُه، واضطربت نفسُه، ووهنَ جسدُه، وأُكِل عِرضُه. والعافية إنما هي في التغاضِي والتغافُل، وقد قيل: "في إغضائِك راحةُ أَعضائِك"، وقيل: "الأديبُ العاقل هو الفطِن المُتغافِل"، وقيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: العافية عشرةُ أجزاء تسعةٌ منها في التغافُل، فقال: "العافية عشرةُ أجزاء كلُّها في التغافل"، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
لما عفوتُ ولم أحقِد على أحدٍ أرحتُ نفسي من همِّ العداواتِ
يقول جلّ في علاه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199].
فتعافَوا بينكم، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم؛ ابتغاءَ وجهِ الله تعالى، ورغبةً في ثوابِ العفو وجزاء الصَّفح، واخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فُسحةِ المُسامحة، ومن حزورة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة، واطوُوا بساطَ التقاطُع والوحشة، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة، ورُمُّوا أسبابَ المودّة، واقبَلوا المعذِرة؛ فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم، وإذا قدرتم على المُسيء فاجعَلوا العفوَ عنه شُكرًا لله للقدرة عليه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى النبي فقال: يا رسولَ الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمَت رسولُ الله ، ثم أعادَ عليه الكلامَ، فصمَت، فلمّا كان في الثالثة قال: ((اعفُ عنه كلَّ يومٍ سبعين مرّة)) أخرجه أبو داود والتّرمذيّ، وعن أبي الأحوص عن أبيه قال: قلتُ: يا رسول الله، الرجلُ أمُرُّ به فلا يقريني ولا يُضيِّفُني، فيمُرُّ بي، أفأجزيه؟ قال: ((لا، أقْرِه)) أخرجه الترمذي، ويقول جلّ وعلا: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء: 149].
جعلني الله وإيّاكم من أهلِ العفوِ والإحسان والصفح والغفران، وعفا عنا جميعًا بمنّه وكرمه وهو العفو الغفور الكريم المنان.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تَعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيُّها المسلمون، كم رَأينا بين الأزواجِ والإخوانِ والأقاربِ والجيرانِ منَ المحن والإحَن والفتن والدَّخَن والدعاوى والخصومات والمُضادَّة والمحادَّة والغضاضة والنُّفْرة والشر والفتنة؛ حتى شاع الطلاق، وكثُرت القطيعة، وتصرَّمت أواصر القربى، فاتقوا الله أيّها المسلمون، وراعوا حقَّ القرابة والرَّحِم والجوار، وكُفُّوا عن المنازعَة والقطيعَة، وعالجوا الأمورَ بما هو لشَمل القرابة أجمَع، ولطريق الفُرقة أقطَع.
وكونوا كما قال الأول:
وإنّ الـذي بيني وبيـن بنـي أبي وبين بني عمِّـي لَمختلِـفٌ جِـدّا
إذا قدَحوا لِي نـارَ حربٍ بِزندهم قدحتُ لهم في كلِّ مكرمـةٍ زنـدا
وإن أكَلوا لحمـي وفرتُ لحومَهم وإن هدَموا مَجدِي بنيت لَهم مَجدا
ولا أحمل الحقدَ القديـمَ عليهـمُ وليس رَئيس القوم من يحمِل الْحقدَا
وقابِلوا الإساءةَ بالإحسان تُنصَروا، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعوني، وأُحسِن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهلون عليَّ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فإن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم الملَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك)) أخرجه مسلم. ومعنى ((فكأنما تُسِفُّهم الملَّ)) أي: فكأنما تُطعِمُهم الرماد الحار.
قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22]، وقال جلَّ في علاه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14].
أيها المسلمون، إنَّ ثمرةَ الاستماع الاتِّباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
واعلموا أنَّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحةِ بقُدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون من جنِّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الأئمّة المهديين: أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك وفضلك وجُودِك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، واخذل الطغاة والمعتدين، ودمّر أعداء الدين...
| |
|