molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: ذم الهوى - صلاح بن محمد البدير الجمعة 18 نوفمبر - 4:38:21 | |
|
ذم الهوى
صلاح بن محمد البدير
الخطبة الأولى
أما بعد عباد الله:
اتقوا الله فقد سعد من اتقاه، وفاز من آثر حقه على نفسه ومناه، ونجا من قدم رضاه على هواه يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
المؤمن الصادق سباق غايات، وحاوي قصبات، ومدرك نهايات، يجتهد في فكاك نفسه من قيود الأقفاص، يرجو النجاة ويطلب الخلاص، همه الآخرة والمعاد، يمهد لنفسه بالصالحات فيا نعم المهاد. وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَاء مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَءوفٌ بِٱلْعِبَادِ [البقرة: 207].
وإن مما يُخشى على المؤمن في دار المحنة ركوبَ مطية الفتنة، خدع الشهوة المهلة، وبوادر الهوى المضلة، وتلك آفة الآفات، وبلية البليات، آفة عظمى، ومعضلة كبرى، ما حلت في قلب إلا أفسدته، ولا مجتمع إلا أهلكته، يقول رسول الهدى : ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى)) رواه أحمد[1].
عباد الله:
الشهوة والهوى مع اجتماعهما في العلة والمعلول، واتفاقهما في الدلالة والمدلول إما أن الهوى غالبًا يختص بالشبهات والمعتقدات، والشهوة مختصة بنيل الشهوات والمستلذات، وما من شهوة إلا وهي من نتائج الهوى.
أيها المسلمون:
لقد ذكر الله في كتابه العزيز وكلامه البليغ الوجيز أممًا سابقة كانت أشد منا قوة وأكثر أموالاً وأولادًا ونعمًا سابغة، ولِغوا في الأهواء والآراء، ووقعوا في الفجور والبلاء، استمتعوا بالنعم والخلاق في معصية الملك الخلاق، وخاضوا في الدين بأكاذيب واختلاق، فأتاهم العذاب وما كان لهم من الله من واق، قد حبسهم هواهم، وأسقطهم رداهم، الكرب يغشاهم، والذل يضناهم، يقول الله جل وعلا فيهم: كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰدًا فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلَـٰقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلـٰقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَـٰقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ [التوبة: 69]. فاحذروا ـ عباد الله ـ سلوك سبيلهم، أو السير في ركابهم.
عباد الله:
إن أشد الجهاد جهاد الهوى؛ لأن سبيله وعر، وبحره غمر، ويومه شهر، وشهره دهر, ودهر بلاء وشر، يقول : ((أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه)) رواه الديلمي وغيره[2].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، حتى يخرج إليهم، فمن قهر هواه عز وساد، ومن قهره هواه ذلّ وهان وهلك وباد"[3] انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
والقلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير والرشاد، وشرها أوعاها للبغي والفساد، والنفوس طُلَعة تنزع إلى شر غاية، وليس لمعارّ تركها نهاية، والنفس إما أعطيتها مناها فاغرة نحو هواها فاها، ومن منع نفسه هواها فقد استراح من الدنيا وبلاها، وكان محفوظًا معافى من أذاها، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا %وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا [الشمس: 7 – 10]، يقول رسول الهدى : ((كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)) رواه الترمذي[4].
أيها المسلمون:
إن سلطان الهوى يقوى بكثرة دوافعه ودواعيه، وأنصاره ومعاونيه، فهو ملك غشوم، ومتسلط ظلوم، فمن لم يلجم نفسه عن الهوى بلجام التقوى، أسرعت به التبعات إلى أرض الندامات، وحلت به الرزايا والهلكات، ومن خاف الفوات بادر بالمتاب قبل الممات، يقول النبي : ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) متفق عليه[5].
فاحذروا بواعث الهوى ومثيراته، ومستدعيات طغيانه وعنفوانه، واحسموا مادته، واجتنبوا متابعته، فلذاته لمعان برق، ومصائبه واسعة الخرق.
عباد الله:
اتهموا أنفسكم في صواب ما أحبت، وتحسين ما اشتهت، فإن عين الهوى عمياء، وأذنه صماء، واتخذوا آيات الكتاب فرقانًا، وبيناته برهانًا، يبن لكم ما استعجم، ويظهر لكم ما استبهم، يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29], يقول رسول الهدى : ((إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)) رواه الحاكم[6].
أيها المسلمون:
إياكم وخلطة صاحب الهوى، فإن مجالسته مهنة، ومصاحبته محنة، تراه عجولاً في مهواه، متشبثًا بدنياه، يجمع لنهمته، ويعمل لقضاء شهوته، يتلهف على الدنيا عطشًا، ويتلظى على حطامها عمشًا، يحب الرَّآسة والعلو، ويسعى لذلك بالنفاق والغلو، يتحبب للأغنياء ويعظم لهم المدح، ويحتقر الضعفاء بالذم والقدح، آراؤه رديئة، وأهواؤه غريبة، أعماله مريبة، وطبائعه عجيبة، معايب لا تنقضي، ومثالب لا تنتهي، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: أَرَءيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 43، 44].
ولذا كان السلف رحمهم الله تعالى يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.
أيها المسلمون:
كل من دعا الناس إلى غير الإسلام، ومحاسنه العظام، فهو صاحب هوى وفساد، وكل من خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ودعا الناس إلى قوانين وضعية، أو أعمال بدعية، أو حرية فكرية، أو سنن حياة غربية، باسم التجديد والمعاصرة، أو الانفتاح والعولمة، فهو صاحب هوى وعناد، وفساد اعتقاد، لا تجوز طاعته ومتابعته، ولا تحل معاونته ومساندته، يقول جل في علاه لنبيه ومصطفاه محمد : وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ ٱلْحَقّ [المائدة: 48]، وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ [المائدة: 49]، ويقول تبارك وتعالى: قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ [الأنعام: 56]، ويقول عز من قائل: وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [البقرة: 145].
أيها المسلمون:
احذروا أهل البدع والأهواء، والخصومة والمراء، الذين ردوا نصوص الوحيين بمحدثات وأوهام، وسفسطات وفساد أفهام، استهوتهم العقليات، واستلهتهم الفلسفات، فصادموا الثوابت واليقينات والقطعيات، واعتدوا فيما اعتدوا على نصوص الأسماء والصفات، وتجاسروا عليها، فوهنوا صحيحها، وأولوها وعطلوها، وحرفوا وألحدوا فيها، في خبط وغلط، وخلط ولغط، يشهد بفساد تصورهم، وينطق باختلال عقولهم، وصدق رسول الله حين قال: ((إنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله))[7]، نعوذ بالله من الأباطيل، ورديء الأقاويل، يقول تبارك وتعالى في كتابه المبين: وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180].
فاتبع كتاب الله والسنن التي صحت فذاك إن اتبعت هو الهدى، ودع السؤال بلِمَ وكيف فإنه باب يجرّ ذوي البصيرة إلى العمى.
أيها المسلمون:
إن من الهوى المتَّبع التقرب إلى الله ببدع ومحدثات، وإضافات ومخترعات في الاعتقادات أو العبادات، وتلك أفعال وأعمال لا تزيد العبد من ربه إلا بعدًا، ألا فلنصغ السمع، ألا فلنصغ السمع لقول الصادق المصدوق : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) أخرجه أبو داود[8]، ولقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه[9]، وفي لفظ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))[10].
ذلك قول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ [النجم: 4]، الذي لا يجادل حديثه إلا محجوج، ولا يباري قوله إلا مفلوج، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر"[11].
عباد الله:
إن من الأمر المفظع, والحمل المضلع، والشر المؤلم المفجع، ظهور البدع وانتشارها، والسكوت عليها وإقرارها، ومجاملة فاعليها، ومداهنة مريديها في كثير من بلاد الإسلام، وذلك فعل مذموم، ووضع موهوم، ينذر بعذاب قد انعقد سببه، وعقاب قد ظهر موجبه.
فحق على كل مسلم أن يقوم ببيان هذه البدع وإنكارها، وإظهار خطرها وإضرارها، وتحذير المسلمين من شرورها، فعن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم[12]، وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله على إقام الصلاة، وإيتاء ال+اة، والنصح لكل مسلم) رواه البخاري[13].
أيها المسلمون:
اقدعوا هذه النفوس[14]، وقودوها بالتخويف والإرهاب، والتأمين والإرغاب، فالهوى يهوي ويردي، وخوف الله يهدي ويشفي، يقول : ((ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه)) رواه الطبراني في الأوسط[15].
عباد الله:
إياكم وحضور مجالس الفتن، ومواقع النتن، واسألوا الله الثبات، واستعيذوا بالله من فتنة المحيا والممات، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) أخرجه مسلم[16].
عباد الله:
لا تكونوا ممن بحث عن مُديته، وانْتضى سيفَ حتفه، وسعى لحتفه بظلفة، ومشى في فتنة نفسه، وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ [ص: 26].
يا حاملاً من الذنوب أثقالاً, يا مرسلاً عنان لهوه في ميدان زهوه أرسالاً، يا من أصمه الهوى وأعماه, وأسقمه وأشقاه، يا من يبارز مولاه بما يكره، يا من يخالفه في أمره آمنًا مكره، تب من خطاياك، واعتذر إلى مولاك، قبل العطب والهلاك، فإن الله يتوب على من تاب، ومن رجع وأناب، إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء: 17، 18].
يا من يرى العبر بعينيه، ويسمع المواعظ بأذنيه، والنذير قد وصل إليه، وكلماته تلقى عليه، احذر من أوعد وهدّد، وأنذر وشدّد، وتوعد بذلّ سرمد، احذر أن تذاد عن حوض النبي محمد ، فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إني على الحوض أنتظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ أناس دوني، فأقول: يا رب، يا رب مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت بما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى، فأقول: سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي)) متفق عليه[17].
يا عباد الله، يا عبد الله:
احذر التبديل والتغيير، احذر أن تكون من دعاة الضلالة، وأرباب الجهالة، الآمرين بكل محرم، الواقفين على شفير جهنم، الداعين إلى تحرير المرأة، الراغبين في سفورها، المنادين على الملأ بالمعازف والأوتار الراغبين في ظهورها، المناصرين لتغريب الأمة وتخريب دورها، ذوي الفكر المنكوس، والوضع المعكوس، الذين حذرنا الله منهم في كتابه، فقال جل من قائل: يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء: 26، 27]، وقد قال البشير النذير والسراج المنير : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)) رواه مسلم[18].
أيها المسلمون:
احذروا المعاطب التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شوهَ الوجوه ونضج الجلود، وعليكم بعقيدة الإيمان، شدوا بالنواجذ عليها، وكفكفوا الشبه أن تدنو إليها، واعلموا أن الدنيا سمُّ الأفاعي، وأهلها ما بين منعيّ وناعي، دُجنّة ينسخها الصباح، وصفقة يتعاقبها الخسارة أو الرباح، ما هي إلا بقاء سفر في قفر، أو إعراس في ليلة نفر، كأنكم بها مطّرحة تعبر فيها المواشي، وتنبو العيون عن خيرها المتلاشي، فلا تغتروا فيها بقوة أو فتوة، فما الصحة إلا مركب الألم، وما الفتوة إلا مطية الهرم، وما بعد المقيل إلا الرحيل، إلى منزل كريم أو منزل وبيل، يقول تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ [النازعات: 37، 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/420)، والبزار (9/292)، والطبراني في الصغير (1/309)، وأبو نعيم في الحلية (2/32)، والبيهقي في الزهد (2/164)، من طريق أبي الأشهب جعفر بن حيان عن أبي الحكم علي بن الحكم البناني عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي به. وقال الهيثمي في المجمع (7/306): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [52، 2143].
[2] وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/2) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة [1496].
[3] انظر: روضة المحبين (ص 478).
[4] أخرجه مسلم في الطهارة [223]، والترمذي في الدعوات [3517]، وابن ماجه في الطهارة [280] من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[5] متفق عليه من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في الرقاق [6487]، ومسلم في الجنة [2823]، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه [2823].
[6] أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا (1661)، ووصله الحاكم في المستدرك (1/93) وابن عبد البر في التمهيد (24/331) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد" وصححه الألباني في صحيح الجامع [2937].
[7] أخرجه أحمد في المسند (4/ 102)، وأبو داود في السنة [4597] من حديث معاوية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1/128)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [51].
[8] أخرجه أحمد (4/126 ـ 127) وأبو داود في السنة [4607]، والترمذي في العلم [2676] وابن ماجه في المقدمة [46]، والدارمي في مقدمة سننه [95] وغيرهم، من حديث العرباض بن سارية، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان (1/179) والحاكم (1/95 ـ 96) ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين" وصححه الألباني في صحيح الترغيب [37].
[9] أخرجه البخاري في الصلح [2697]، ومسلم في الأقضية [1718] من حديث عائشة رضي الله عنها.
[10] أخرجه مسلم في الأقضية [1718] من حديث عائشة رضي الله عنها.
[11] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/96) [106].
[12] أخرجه مسلم في الإيمان [55].
[13] أخرجه البخاري في الإيمان [57، 58]، ومسلم في الإيمان [56].
[14] أي كفوها وامنعوها.
[15] أخرجه الطبراني في الأوسط (6/47)، والبزار في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال المنذري في الترغيب: " هو مروي عن جماعة من الصحابة وأسانيده وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فهو بمجموعها حسن إن شاء الله تعالى" ووافقه الألباني. صحيح الترغيب والترهيب (1/312) [453].
[16] أخرجه مسلم في المساجد [590].
[17] أخرجه البخاري في الرقاق [6593]، ومسلم في الفضائل [2293] بنحوه.
[18] أخرجه مسلم في العلم [2674] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
احذروا طاعة الهوى في الحكم على الآخرين، والفصل بين المتنازعين، والشهادة بين المتخاصمين، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8].
يروي أبو هريرة رضي الله عنه: (على رأس الستين تصير الأمانة غنيمة، والصدقة غرامة، والشهادة معرفة، والحكم بالهوى) رواه الحاكم[1].
فيا أولياء اليتامى، يا أولياء اليتامى، ويا ناظري الأوقاف وأوصياء الوصايا، أدوا الأمانة، واحذروا الخيانة والهوى، وتذكروا يومًا تظهر فيه الحقائق، وتعلن فيه الأسرار والدقائق، ويرفع فيه لكل غادر لواء ((يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان))[2]، فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء: 135].
أيها المسلمون:
استغفروا الله واحذروه، واعلموا أنكم ملاقوه، واقدروه حق قدره وعظموه، وإن من تعظيمه المطلوب، إيثار حبه على كل محبوب، وتقديم طاعته على كل مرغوب.
عباد الله:
استعدوا للقاء الرب الجليل، وأعدوا كل عمل صالح جميل، وتفكروا في أنفسكم وما اشتملت عليه من العيوب، وحاسبوها على ما اكتسبت من الذنوب، فأي نفس منكم لم تحمل ظلمًا، وأي جارحة من جوارحكم لم تقترف إثمًا، وتذكروا ذاك المقام، وأصلحوا قلوبكم، باستماع آيات القرآن وأذكاره، وتكراره واستذكاره، واقمعوا الهوى بمقمعة المتابعة، وامنعوا النفس اللجوج بالمجاهدة والمراجعة، وكونوا كما كان أسلافكم، كشفت لهم سُجُفُ الدنيا[3] فرأوا عيوبها، ولاحت لهم الأخرى، فتلمحوا غيوبها، وبادروا شمس الحياة يخافون غروبها.
عباد الله:
ابذلوا النفوس للحق وسِّبلوها، وحاذروا الدنيا وطلقوها وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ [البقرة: 197]. واعملوا أن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلوا وسلموا على خير البرية، وأ+ى البشرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [ الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك وجودك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/373) ومن طريقه الحاكم في المستدرك (4/483)، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
[2] ورد هذا الحديث عن عدد من الصحابة، فأخرجه البخاري في الفتن [7111]، ومسلم في الجهاد [1735] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري في الجزية [3187] ومسلم في الجهاد [1737] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه مسلم كذلك [1736، 1738] من حديث ابن مسعود ومن حديث أبي سعيد رضي الله عنهما.
[3] أي أستارها.
| |
|