molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: ولاية الحسبة - صلاح بن محمد البدير الجمعة 18 نوفمبر - 9:53:48 | |
|
ولاية الحسبة
صلاح بن محمد البدير
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ م+َب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، إنَّ المحافظةَ على حُرمةِ الإسلام وصونَ المجتمَع المسلمِ من أن تُخَلخِله وتقوِّضَه البدع والخرافاتُ والمعاصي والمخالفاتُ وحمايتَه من أمواج الشرِّ الهائجةِ وآثار الفِتن المائجة وتحذيرَه مزالقَ السقوط ودركات الهبوط أصلٌ عظيم من أصولِ الشريعة وركنٌ مَشيد من أركانها المنيعة، يتمثَّلُ في ولاية الحِسبة وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك المهمَّة العظمى والأمانة الكُبرى التي هي حِفاظ المجتمعاتِ وسِياج الآداب والكمالات، بها صلاحُ أمرِها واستِتباب أمنِها وقوَّة مِساكِها ومِلاكها، ما فُقِدت في قومٍ إلاّ زاغت عقائدُهم وفسَدت أوضاعُهم وتغيَّرت طِباعُهم، وما ضعُفت في مجتمعٍ إلا بدَت فيه مظاهر الانحلال وفشت فيه بوادر الاختلال.
والأمّة حين تكون سائرةً في جادَّة الطريق محكِّمةً شريعةَ الله في التحقيق والتّطبيق يكون من أوّل مهامِّها إقامةُ ولايةِ الحِسبة ورفعُ لوائِها وإعلاء بنائها وإعزاز أهلِها؛ لأنّ جميعَ الولايات تعودُ إليها، يقول تبارك وتعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، ويقول تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، أمّةٌ قائدةٌ رائدة تحقِّق في المجتمَع المسلم شرعَ الله، وتصدَع بالحقِّ في وجوهِ النّفوس المريضة الباغية إشباعَ شهواتها العابثةِ بأمنِ الأمّة ومقدَّراتها، ويقول جل وعلا في وصفِ الأمّة المحمَّديّة وذكر أسباب الخيريَّة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أيّها المسلمون، إنّ المعاصيَ والمنكراتِ هي الداءُ العُضال والوباء القتَّال الذي به خرابُ المجتمعات وهلاكُها، وإنّ التفريطَ في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظمِ أسباب حلولِ العقاب ونزول العذاب، فعن أمّ المؤمنين أمِّ الحكم زينبَ بنتِ جحش رضي الله عنها أنّ النبيّ دخل عليها فزِعًا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرَب من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليومَ من رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه))، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، فقلتُ: يا رسولَ الله، أنهلَك وفيها الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثُر الخبَث)) متفق عليه[1]، والخبَث هو الفسوق والفجور، ويقول النبيّ عليه الصلاة والسلام: ((إنّ اللهَ لا يعذِّب العامّةَ بعملِ الخاصّة حتى يروا المنكرَ بين ظهرانيهم وهم قادِرون على أن ينكِروه فلا ينكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّب الله الخاصَّةَ والعامة)) أخرجه أحمد[2]، ويقول عليه أفضل الصلاة وأ+ى السّلام: ((ما مِن قومٍ يُعمَل فيهم بالمعاصِي ثم يقدِرون على أن يُغيِّروا ثم لا يغيِّروا إلاّ ويوشك الله أن يعُمَّهم بعقاب)) أخرجه أبو داود وغيره[3]، وكتَب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى بعض عُمّاله: "أمّا بعد: فإنّه لم يظهرِ المنكَر في قومٍ قطّ ثم لم يَنههم أهلُ الصّلاح بينهم إلاّ أصابهم الله بعذابٍ من عِنده أو بأيدي مَن يشاء من عباده، ولا يزال الناسُ معصومين من العقوبات والنّقمات ما قُمِع أهلُ الباطل واستُخفِيَ فيهم بالمحارم"[4].
أيّها المسلمون، إنّ الإدهانَ في الدين وعدمَ التناهي بين المسلمين من أعظمِ أسبابِ اللَّعن والطَّرد والإبعاد عن رحمةِ أرحمِ الراحمين، يقول النبيّ : ((إنّ أوّلَ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل كان الرجلَ يلقى الرجلَ فيقول: يا هذا اتّق الله ودَعْ ما تصنَع فإنّه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغدِ وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكونَ أكيلَه وشريبه وقعيده، فلمّا فعلوا ذلك ضربَ اللهُ قلوبَ بعضهم ببعض))، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، ثم قال بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه: ((والله، لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذنَّ على يدِ الظالم ولتأطرُنَّه على الحقِّ أطرًا ولتقصُرنَّه على الحقِّ قصرًا أو ليضربنَّ الله بقلوبِ بعضكم على بعض، ثم ليلعننَّكم كما لعنهم)) أخرجه أبو داود والترمذي[5].
لُعِنوا في كتابِ الله لعنًا يُتلَى على مرِّ الأيام والسنين، فاحذَروا ـ عبادَ الله ـ سبيلَهم الوضيع وفِعلَهم الذّميم، فإنّه لا صِلةَ بين العبادِ وربِّ العباد إلاّ صلةُ العبادة والطاعة، فمن استقام على شريعةِ الله استحقَّ من الله الكرامةَ والرّضوان، ومن حادَ عن سبيل الحقِّ والهدَى باء باللَّعن والخيبة والخُسران.
يا من رضِيتم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا ورسولاً، أصيخوا سمعَكم وأَصغوا قلوبَكم لقول النبيّ : ((مَن رأى مِنكم منكَرًا فليغيِّره بيدِه، فإن لم يستطِع فبِلسانه، فإن لم يستطِع فبِقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان)) أخرجه مسلم[6]، وانظروا وتساءَلوا: أين أثرُ تطبيقِ هذا الحديثِ في نفوسنا ومجتمعاتنا؟! أين إيمانُنا الصادق وخضوعُنا التامّ لما جاء به محمّد ؟!
((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده))، السلطانُ في سلطانه، والأمير في إِمارته، والقائدُ في جَيشه، والرّجل في أهل بيتِه، وكلُّ مسؤولٍ فيما تحت ولايتِه ومسؤوليّته. يقول عثمانُ رضي الله عنه: (إنّ الله يزَعُ بالسّلطان ما لا يزَع بالقُرآن)[7]، ويقول بعضُ السّلف: "ما قيمةُ حقٍّ لا نفاذَ له؟!".
أيّها الآباءُ والأمّهات، طهِّروا بيوتَكم من جميعِ المنكَرات، وليكُن بيتُ النبوّة لكم في ذلك قدوَةً وأسوة، تنتهجون نهجَه وتحذَون حَذوَه، تقول عائشة رضي الله عنها: قدِم رسول الله من سفرٍ وقد سترتُ سهوةً[8] لي بقرامٍ[9] فيه تماثيل[10]، فلمّا رآه رسول الله هتَكه وتلوَّن وجهُه وقال: ((يا عائشة، أشدُّ الناس عذابًا عند الله يومَ القيامة الذين يضاهِئون بخلقِ الله تعالى)) متفق عليه[11]، تقول عائشة رضي الله عنها: فقطعناه فجَعلنا منه وسادةً أو وسادتين[12].
أيّها المسلمون، من عَجز منكم عن الإنكارِ باليدِ والسّلطان فلينكِر باللسان والبيان، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايَعنا رسولَ الله على السّمع والطاعةِ في العسر واليُسر والمنشَط والمكرَه وعلى أثرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه إلا أن ترَوا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهانٌ، وعلى أن نقولَ بالحقّ أينَما كُنّا، لا نخاف في الله لومةَ لائم. متفق عليه[13]. وعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنّ النبيّ قال في خطبته: ((ألا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقولَ بحقٍّ إذا علِمه)) أخرجه الترمذي[14] وأحمد وزاد: ((فإنّه لا يقرِّب من أجلٍ ولا يباعِدُ من رِزق أن يقالَ بحقٍّ أو يُذكَّرَ بعظيم))[15]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يحقر أحدُكم نفسَه))، قالوا: يا رسولَ الله، كيف يحقرُ أحدُنا نفسَه؟! قال: ((يرى أمرًا لله عليه فيه مقالٌ ثم لا يقول فيه، فيقول الله عزّ وجلّ له يومَ القيامة: ما منعَك أن يقولَ فيَّ كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول الله: فإياي كنتَ أحقَّ أن تخشى)) أخرجه ابن ماجه[16].
أيّها المسلمون، إنّ الطامَّةَ الكبرى والمصيبةَ العظمى أن تتوالى الفِتنُ على القلوبِ ويزولَ خطَر المعاصي في النفوس، فيواقعُ الناسُ حدودَ الله، وينتهكون أوامرَ الله، ويصبحُ المعروفُ منكرًا والمنكرُ معروفًا، يقول رسول الله : ((تعرَض الفِتن على القلوبِ كالحصير عودًا عودًا، فأيّ قلبٍ أُشرِبها نُكِتت فيه نكتةٌ سوداء، وأيّ قلب أنكَرها نكِتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصيرَ على قلبين: على أبيضَ مثلِ الصفا، فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامتِ السموات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرفُ معروفًا ولا ينكر منكرًا إلاّ ما أُشرِب من هواه)) أخرجه مسلم[17]، وسئل حذيفةُ بن اليمان رضي الله عنه: من ميِّتُ الأحياء؟ فقال: (الذي لا ينكِر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه)[18]، وفي صحيح مسلم أنّ النبيّ قال: ((ما مِن نبيٍّ بعثه الله في أمّةٍ قبلي إلاّ كان له من أمَّته حواريّون وأصحاب، يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعَلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهَدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبّةُ خردَل))[19].
أيّها المسلمون، لم يفتَأ أعداءُ الدّين من اليهودِ والنّصارى والملحِدين ومَن سار في ركابهم مِن فُسّاق الملة المستغرِبين يشنّون على أمّة الإسلام حملاتٍ متلاحقةً عبرَ وسائل ورسائل، لا يخفى مستواها ولا يُجهَل فحواها ومحتواها، غرَضها زعزعةُ عقيدةِ الأمّة وتدمير أخلاقياتها وطمس هويَّتها وتغييبُها عن رسالتها، فبماذا واجه المسلمون تلك الحملاتِ؟! هل أوصَدوا دونها الأبواب؟! هل جاهدوها حقَّ الجهاد؟! هل قاموا بالضمانات الكافية لعدم انتشارِ الشرِّ والفساد؟! لقد فتحَ كثيرٌ من المسلمين بسبَب الغفلةِ عن دين الله وقِلّة التحفُّظ والتيقُّظ، فتحوا بلادَهم ومتاجِرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيّاراتِ الوافدة، وأسلموا مجتمعاتِهم للأمّة الكافرة المعاندة، وصدَق رسول الله : ((لتتبعُنَّ سَنَن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) أخرجه البخاري[20]. يقول بعضُ أهل العلم: "إذا أردتَ أن تعلمَ محلَّ الإسلام من أهل الزّمان فلا تنظُر إلى زِحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجِهم في الموقف بلبَّيك، وإنما انظُر إلى مواطأتهم أعداءَ الشريعة".
أيّها المسلمون، إنّكم أغلى وأعلى وأعزُّ وأكرمُ من أن تهبِطوا من سماءِ عليائكم إلى التشبُّه بأممٍ كافِرة فاجرة تعيسةٍ بئيسةٍ حائرةٍ شارِدة، تلهثُ وراءَ شهوتها، وتستميت في سبيلِ مُتعتها، فلقد شرَّفكم الله جل وعلا بأعظمِ دين، وأكمركم بأفضلِ رسول محمّدٍ ، وأنزل عليكم خيرَ كِتاب، فاشكروا الله على ما حباكم وأعطاكم، وجابهوا جهودَ أعدائكم بجهودٍ أقوى وأمضَى قبلَ أن تشتدَّ شوكتُهم وتحتَدّ شِكَّتُهم، جهودٍ تحفَظُ أمانةَ الدين الذي ائتمَنكم الله عليه، صونوه طاقتَكم، واحفَظوه جَهدَكم، وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35].
أيّها المسلمون، لقد استحكمت غُربةُ الدين وعظُمت المصيبة على كثيرٍ من المسلمين في كثير من البلاد بسبَب إفشاءِ الفساد وإشهاره ومداهنةِ بعضِ الناس في إنكاره، وإنّ من أطمِّ المصائب وأوضعِ المراتب أخذَ المالِ السُّحتِ على الإقرار عليه وحمايةِ فاعِله من أن يُتوصَّل بالإنكار عليه، فأين القائمون لله الذابُّون عن دينه الذائدون عن محارمه بمجاهدة عدُوّه وأهل معصيته؟!
أيّها المسلمون، إنّ ممّا يبعثُ على الحُرقة والأسَى أن يرى المسلم في مجتمَعه وأمام عينيه صُوَرًا مُمرضة وأحولاً مُرمِضةً من المنكرات والمحرّمات، فلا يجد لذلك في نفسِه مسًّا ولا حسًّا ولا توجُّعا ولا التياعًا، فأيُّ ركنٍ قد وهى؟! وأيّ نورٍ للأمة قد ذهب واختفى؟! نعوذ بالله من اندِراس معالم هذه الشعيرةِ واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغَيرةِ الدينية.
يا أمّة محمّد ، يا خيرَ أمّة أُخرجت للناس، أين الحميّةُ التي تتأجَّج في صدوركم لدين الله؟! أين الغضب؟! أين تمعُّر الوجوه لانتهاك حدود الله؟! تقول عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده ولا امرأةً ولا خادمًا إلاّ أن يجاهدَ في سبيل الله، وما نِيل منه شيءٌ قطّ فينتقم مِن صاحبه إلاّ أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقِم لله عز وجل. أخرجه مسلم[21].
أيّها المسلم، تعاقدوا وتعاهَدوا أن تنصُروا شريعةَ الرحمن، وقوموا قامةً تعلِي رايةَ الإيمان، وخذوا على أيدي سُفهائكم قبلَ استِفحال الداءِ وإعوازِ الدّواء، واعلَموا أنَّ التواكلَ والتلاوُمَ والتحسُّر والتضجُّر دونَ عملٍ وجدٍّ واجتهاد وأمرٍ ونهي ودعوةٍ وإرشاد لا يغيِّر من الواقعِ شيئًا، بل هو داعيةُ غمٍّ وهمِّ وفتور وإحباط. إنَّنا لا نريدُ غَيرةً لا تعدو أن تكونَ مجرَّدَ معانٍ نتمنّاها بأذهاننا أو نحسُّها مجرّدةً في مشاعرنا، إنّنا نريدُها باعثًا قويًّا عمليًّا وعمَلاً إيجابيًّا لخِدمة دين الله والانتصارِ لشرع الله وسنّة رسول الله وفقَ القيود الشرعيّة والضوابط المرعيّة.
أيها المسلمون، إنّ القيامَ بشعيرةِ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مهمَّة جسيمة ذاتُ أعباء، لا يقدر عليها إلا الكُمَّل مِنَ الرّجال، وهي مهمَّة الأنبياءِ والرسُلُ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مهمَّةٌ تصطدِم بشهواتِ الناس ونزواتِهم وغرورهم وكبريائهم وهبوط السِّفلة منهم، ولا بدَّ أن ينالَ القائمين بها شيءٌ من الاعتداء والأذى، فصبرًا صبرًا يا أهلَ الحِسبة، فقد أوذِي إمامُكم وقائدكم خاتَم الأنبياء وإمامُ الحفناء محمد ، فصبرَ وصابر حتى نصره الله، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أيّها المسلمون، إنَّ إيذاءَ المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو الاعتداءَ عليهم أو الطعنَ فيهم أو تضخيمَ أخطائهم وبَثَّ الإشاعات الكاذبة عنهم جُرمٌ عظيم وذَنب كبير، تصيبُ المرءَ مغبَّتُه ومعرّتُه ولو بَعد حين، يقول جلّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب)) أخرجه للبخاري[22].
فاحذَروا الانخداعَ بمقالات الجاهلين أو الانسياقَ وراءَ أكاذيبِ الحاقدين وما يدور على ألسنةِ المغرضين، قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:69-71].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7135)، صحيح مسلم: كتاب الفتن (2880).
[2] مسند أحمد (4/192)، ورواه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2431) والطبراني في الكبير (17/138، 139)، قال ابن كثير في تفسيره (2/300): "فيه رجل مبهم، ولم يخرجوه في الكتب الستة، ولا واحد منهم، والله أعلم"، وحسن ابن حجر إسناده في الفتح (13/4)، وقال الهيثمي في المجمع (7/267): "رواه أحمد من طريقين، إحداها: عن عدي بن عدي حدث عن مجاهد قال: ثنا مولى لنا أنه سمع عدي، والأخرى: عن عدي بن عدي حدثني مولى لنا، وهو الصواب، وكذلك رواه الطبراني وفيه رجل لم يسم، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3110).
[3] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4338) عن أبي بكر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (1/2، 7، 9)، والترمذي في الفتن (2168)، وابن ماجه في الفتن (4005)، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه ابن حبان (305)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3644).
[4] ينظر من أخرجه.
[5] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4336)، سنن الترمذي: كتاب التفسير (3047) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (1/391)، وابن ماجه في الفتن (4006)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[6] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[7] رواه ابن عبد البر في التمهيد (1/118) من طريق ابن القاسم عن مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول... وذكره بنحوه. وجاء نحوه عن عمر رضي الله عنه موقوفا عليه، انظر: الجد الحثيث للغزي (53).
[8] السَّهوة بفتح المهملة وسكون الهاء هي صفة من جانب البيت, وقيل: الكوّة, وقيل: الرّفّ، وقيل: أربعة أعواد أو ثلاثة يعارض بعضها ببعضٍ يوضع عليها شيء من الأمتعة، وقيل: أن يبنى من حائط البيت حائط صغير ويجعل السّقف على الجميع، فما كان وسط البيت فهو السّهوة، وما كان داخله فهو المخدع، وقيل: دخلة في ناحية البيت، وقيل: بيت صغير يشبه المخدع، وقيل: بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصّغيرة يكون فيها المتاع، ورجّح هذا الأخير أبو عبيد، ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله، وقد وقع في حديث عائشة أيضًا أنّها علّقته على بابها، فتعيّن أنّ السّهوة بيت صغير علّقت السّتر على بابه. قاله في الفتح (10/387).
[9] القِرام ب+ر القاف وتخفيف الرّاء هو سِتر فيه رقم ونقش, وقيل: ثوب من صوف ملوّن يفرش في الهودج أو يغطّى به. قاله في الفتح (10/387).
[10] التماثيل بمثنّاةٍ ثمّ مثلّثة جمع تمثال، وهو الشّيء المصوّر، أعمّ من أن يكون شاخصًا أو يكون نقشًا أو دهانًا أو نسجًا في ثوب، وفي رواية عند مسلم أنّها نصبت سترًا فيه تصاوير . قاله في الفتح (10/387).
[11] صحيح البخاري: كتاب اللباس (5954)، صحيح مسلم: كتاب اللباس (2107).
[12] تابع للحديث السابق.
[13] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7056) وكتاب الأحكام (7199)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1709).
[14] سنن الترمذي: كتاب الفتن (2191)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الفتن (4007)، والطبراني في الصغير (729) والأوسط (4906)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (168).
[15] مسند أحمد (3/50)، ورواه أيضا أبو يعلى (1411)، والطبراني في الأوسط (2804)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/273-274).
[16] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4008) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/47)، وعبد بن حميد (971، 972)، وأبو نعيم في الحلية (4/384)، والبيهقي في الشعب (6/90)، قال المنذري في الترغيب (3/160): "رواته ثقات"، لكن في سنده انقطاع، ولذا أورده الألباني في ضعيف الترغيب (1387).
[17] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (144) عن حذيفة رضي الله عنه.
[18] رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/504)، والبيهقي في الشعب (6/96، 7/383).
[19] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (50) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[20] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7320) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في العلم (2669).
[21] صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2328).
[22] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6502).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وصَحبه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، اعلَموا أنّه لا يجوز أبدًا إجارةُ مركوبٍ أو دارٍ أو دكَّانٍ لمن ينتفِع بها في معصيةِ الله أو يستخدِمها لبيع ما حرّم الله، لما ينشأ عن تأجير هؤلاء من الأضرارِ المتعدِّية ونشرِ المنكَر بين المسلمين، فاحذروا أن تساعِدوهم أو تسانِدوهم أو تعاقدوهم أو تقاعدوهم، واستجيبوا لقول المولى جل وعلا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
أيّها المسلمون، ارحَموا أهلَ المعاصي والمنكرات، ارحموهم وأرشِدوهم ووجِّهوهم، فالراحمون يرحمهم الرحمن، أنقذوهم من الضلالةِ والعمى، وبصِّروهم طريقَ الرشاد والهُدى، واهجُروا من أصَرَّ منهم على معاصيه وجاهر بفسوقِه ومخازيه، يقول بعضُ أهل العلم:
وهُجران من أبدى المعاصيَ سنـةٌ وقد قيل: إن يردعْه أوجبْ وأكِّدِ
وقيل علـى الإطلاق ما دام مُعلِنًا ولاقِـهْ بوجـهٍ مـكفهِرٍّ مربَّـدِ
أيّها المسلمون، إنّ المعلومَ بمقتضَى النصوص والمشاهَد بالواقع المحسوس أنّ هجرانَ المجاهرين بالمعاصي والمنكرات المصرِّين على باطلهم وفِسقِهم وإقامةَ الحدود والتعزيرات عليهم له الأثرُ الأكبر والنصيبُ الأوفر في إضعاف المعاصي واضمحلالها، يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "تحدُث للنّاس أقضيةٌ على قدرِ ما يحدُث من الفجور"[1]، وقد قيل: مَن استرخى لَبَبُه ساءَ أدبُه، ومن أمِن العقوبةَ أساء الأدب. فلا بدّ من القوّةِ والحزم مع ضرورةِ تجفيفِ منابِع الشّرِّ وسُبُل الإفساد، وإلاّ انطبق علينا قول القائل:
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له: إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماء
أيّها القائمُ بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، اعلم أن العِلمَ إمام العَمَل، فلتكُن عالمًا بما تأمُر، عالمًا بما تنهى، رفيقًا فيما تأمر، رفيقًا فيما تنهى، حليمًا فيما تأمُر، حليمًا فيما تنهى، وليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر.
أيّها المسلمون، كونوا للحقِّ أعوانًا، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدَأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون من جِنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] رويت هذه العبارة عن مالك رحمه الله، انظر: فتح الباري (13/144).
| |
|