molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: أسباب أمراض القلوب - أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي الخميس 20 أكتوبر - 6:06:34 | |
|
أسباب أمراض القلوب
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ وقد يورثُ الذلَ إدمانها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيْرٌ لنفسِكَ عصيانُها
عباد الله، حديثنا اليوم عن القلوب، وهي تنقسم إلى قسمين: قلوب بيضاء وقلوب سوداء، وذلك حسب تقسيم رسول الله لها في الحديث الصحيح، والقلوب السوداء قلوب مريضة، وهذا المرض له أسباب، وهذه الأسباب هي موضوع خطبتنا في هذا اليوم.
فمن أسباب مرض القلب الشرك، ومع ازدياد الأمراض التي تنتاب ذلك القلب يبدأ القلب بالضعف رويدًا رويدًا حتى يستسلم للموت، وفي ذلك يخاطب العلماء تلك القلوب الميتة بألم وحسرة منبعثة من حرصهم على أن يكون أولئك من جنود الإسلام، لا من موتى الإسلام، فقد آلمهم أن يروا أجسادًا بلا قلوب، فلم يستطعوا أن يكتموا غضبهم أو يتمالكوا أنفسهم حيال هذا المنظر، فصاحوا فيهم قائلين: يا موتى القلوب، يا مشركين بالأسباب، يا عابدين أصنام حولِهم وقواهم ومعايشهم ورؤوسِ أموالِهم، كل من يرى الضر والنفع من غير الله عز وجل فليس بعبد له، ومن فعل ذلك فهو اليوم في نار المقت والحجاب، وغدًا في نار جهنم، ما يسلم من نار الله عز وجل إلا المتقون الموحدون والمخلصون التائبون.
وبهذا فإننا نلاحظ هنا أن الإمام الجيلاني يحيل أسباب الأمراض التي تصيب القلوب إلى سببين رئيسين وهما: الإشراك بالأسباب والإشراك في العبادة.
فالشرك بالأسباب هو اعتقاد الإنسان أن السبب بذاته هو المؤثر دون قدرة الله عز وجل فيه، كأن يعتقد أن الدواء بذاته هو الذي يشفي دون أن يكل ذلك إلى قدرة الله، أو أن يعتقد أن فلانًا من الناس يضر أو ينفع دون أن يعتقد أن الله هو الضار والنافع، وأن ذلك الإنسان إنما كان سببًا من الأسباب التي قدرها الله لقضاءٍ قدره.
وأما الشرك في العبادة فمعلوم أنه لا معبود بحق سوى الله، وأن من معاني العبادة الانقياد والطاعة والذل والخضوع والمحبة، فإن انقاد الإنسان أو أطاع أو ذل أو خضع أو أحب لغير وجه الله فإنه أشرك في عبادته لله، وإن كل من أشرك مع الله آلهة أخرى في العبادة فإنه يعرض قلبه للمرض ثم يعقبه الموت المحقق.
ومع ازدياد ظاهرة عبادة العبيد والخوف منهم ورجاء الخير منهم يشتد المرض حتى يموت القلب، فإذا مات وتوقفت النبضات وانقلب لونه إلى السواد كان ذلك دليلاً على الموت، وفي ذلك يقول الإمام الجيلاني: "لا تبع الدين بالتين، لا تبع دينك بتين الأغنياء وأكلَة الحرام، إذا أكلت بدينك اسودَّ قلبك، وكيف لا يسود وأنت تعبد الخلق؟!".
أيها المؤمنون، ومن أسباب مرض القلب حب الدنيا، ولم نَمَلَّ ونحن نصغي للإمام الجيلاني وهو يحدثنا عن أسباب أمراض القلوب، وآثرنا قبل مغادرتنا أن نستمع إليه يذكر سببًا آخر من أسباب صدأ القلوب فيقول: "القلب يصدأ، فإن تداركه صاحبه بما وصف النبي وإلا انتقل إلى السواد، يسود لبعده عن النور، يسود لحبه الدنيا والتحويز عليها من غير ورع؛ لأن من تمكن من قلبه حب الدنيا زال ورعه، فيجمعها من حلال وحرام، يزول تمييزه في جمعه، يزول حياؤه من ربه عز وجل ومراقبته"، وقال : ((لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ أَمِنْ حَلالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)) رواه البخاري (2083).
ويشبه بعضهم فساد القلب بسبب طلب الدنيا بفساد العسل إذا أضيف له الخل فيقول: لا تطلب الدنيا ولا تغضب لشيء منها، فإن ذلك يفسد قلبك كما يفسد الخل العسل.
ويلازم فساد القلب وقسوته ضياع الحكمة ونسيانها، وذلك ما أراد تأكيده الإمام قبل مغادرتنا له عندما قال: "فرحك بالدنيا وإقبال الخلق عليك ينسيك الحكمة ويقسي قلبك".
ومن أسباب مرض القلب مخالطة أصحاب البدع، وطبيعة الإنسان أنه يتأثر بالحسن والسيئ، وتختلف نسبة التأثر من شخص لآخر، إلا أنه لا يسلم أحد من التأثر، لذلك قال رسول الله : ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه الترمذي (2484). ومعنى ((على دين خليله)) أي: على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، قال الغزالي: "مجالسة الحريص ومخالطته تحرّك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بالطباع من حيث لا يدري".
ولهذا السبب حذر الإمام الحسن البصري من مجالسة أهل البدع، لسبب مرض قلوبهم، خوفًا على الجليس من التأثر بالمرض فقال: "ولا تجلس إلى صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك ويفسد عليك دينك".
ولا ننسى قولَ رسول الله : ((إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَاملُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)) رواه مسلم (2628).
ومن أسباب مرض القلب كثرة الضحك، يقول الرسول : ((لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب)) رواه ابن ماجه (4193) وصححه البوصيري. وما موت القلب إلا نتيجةٌ واحدة من نتائجه، فقد عدد نتائجه الإمام الحسن فكانت أربعة، فاسمعه حين يقول: "ابن آدم، أقلل الضحك؛ فإن كثيرَه يميت القلب، ويزيل البهجة، ويسقط المروءة، ويزري بذي الحال".
ومن أسباب مرض القلب كثرة الأكل، وقلة الطعام توجب رقة القلب وقوة الفهم وان+ار النفس وضعف الهوى والغضب، وكثرة الطعام توجب ضد ذلك. عن المقدام قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صُلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) رواه الترمذي (3349) والحاكم (4/121) وصححه ووافقه الذهبي.
وفضول الطعام داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات والعبادات، وحسبك بهذين شرًا، فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونها، فمن وقي شر بطنه فقد وقي شرًا عظيمًا.
والشيطان أعظم ما يتحكم في الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام؛ ولهذا جاء في بعض الآثار: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال بعض السلف: كان شباب يتعبدون من بني إسرائيل، فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال: لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا كثيرًا فتناموا كثيرًا فتخسروا كثيرًا.
وقد كان النبي وأصحابه يجوعون كثيرًا، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها، ولهذا كان ابن عمر يتشبه به في ذلك مع قدرته على الطعام، وكذلك كان أبوه رضي الله عنهما من قبله.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من خبز البُرِّ ثلاث ليال تباعًا حتى قُبض. رواه البخاري (5416).
وقال إبراهيم بن أدهم: "من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان".
فاتقو الله عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وآله الطاهرين وأصحابه الطيبين، ومن اقتدى بهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، ومن أسباب مرض القلب فضول النظر، وهو إطلاق النظر إلى الشيء بملء العين، والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وهو على الع+ من غض البصر، فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ نَظَرِ الفجاءة فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي. رواه مسلم (2159). والفجأة هي البغتة، ومعنى نظر الفجأة أن يقع بصرُه على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم عليه في أول ذلك, ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال, فإن صرف في الحال فلا إثم عليه, وإن استدام النظر أثم لهذا الحديث, فإنه أمره بأن يصرف بصره مع قوله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
عباد الله، وفضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور في قلب الناظر، فيحدث أنواعًا من الفساد في قلب العبد، منها أن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصره لله أورثه حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه، ومنها دخول الشيطان مع النظرة، فإنه ينفذ معها أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي؛ ليزين صورة المنظور، ويجعلها صنمًا يعكف عليه القلب، ثم يعِدهُ ويُمنِّيه، ويوقد على القلب نار الشهوات، ويلقي حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، ومنها أنه يشغل القلب، وينسيه مصالحه، ويحول بينه وبينها؛ فينفرط عليه أمرُه، ويقع في اتباع الهوى والغفلة، قال الله تعالى: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وإطلاق البصر يوجب هذه الأمور الثلاثة، وقال أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار كالم+لة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
وإطلاق البصر كذلك يلبس القلب ظلمة، كما أن غض البصر لله عز وجل يلبسه نورًا، وقد ذكر الله عز وجل آية النور: ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] بعد قوله عز وجل: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ [النور:30]، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان.
وإطلاق البصر كذلك يعمي القلب عن التمييز بين الحق والباطل والسنة والبدعة، وغضه لله عز وجل يورثه فراسة صادقة يميز بها. قال أحد الصالحين: "من عمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشبهات واغتذى بالحلال لم تخطئ له فراسة".
والجزاء من جنس العمل؛ فمن غض بصره عن محارم الله أطلق الله نور بصيرته.
| |
|