molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: القلوب السوداء - أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي الخميس 20 أكتوبر - 5:59:03 | |
|
القلوب السوداء
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته والحذر من مخالفته، واعلموا أن السعيد هو من يتقي الله في مأكله ومشربه ووظيفته ومتجره وفي عبادته لله ومعاملته لخلق الله.
أيها المؤمنون، يقول رسول الله : ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) رواه مسلم (144).
فالقلوب تنقسم إلى قسمين: قلوب بيضاء وقلوب سوداء، واليوم سأفصل الكلام عن القلوب السوداء، وذلك من قول رسول الله : ((وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)).
عباد الله، وصاحب القلب الأسود قد فتح مسامات قلبه للفتن، يفهم ذلك من قوله : ((فأي قلب أُشربها)) أي: دخلت فيه دخولاً تامًا وأُلْزِمها وحلت فيه محل الشراب، ومنه قوله تعالى: وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ [البقرة:93] أي: حب العجل.
وعليه استحق أن يُنكت فيه نكتة سوداء، أي: ينقط في قلبه نقطة سوداء، ومع تكرار الفتن التي تعرض عليه وما يقابلها من عملية الامتصاص التي يقوم بها قلبه ينتشر السواد على أجزاء قلبه حتى يغطيه، فيكون مُرْبَادًّا أي: شديد السواد، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا أي: كقدح الماء عندما ينكفئ، يقول الإمام النووي: "وهو وصف آخر من أوصافه بأنه قلب نكّس حتى لا يعلق به خير ولا حكمه، ويشتد سواده حتى يعمى، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه".
ولاختلاف درجات الفتن واختلاف درجات الامتصاص من قلب إلى قلب نرى أنواعًا كثيرة من هذا الصنف، أولها القلوب الغليظة، قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وغلظ القلب عبارة عن تَجَهّم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب الزائغة، قال الله عزّ وجلَّ: فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار، ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، أي: أنه يعرف الحق ويميل عنه ابتغاء الفتنة.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب الغافلة المغفلة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، أي: غفل عن الله، وشغل عن الدين والتوحيد وعبادة ربه بالدنيا وزخرفها، فعاقبه الله بأن أغفله عن ذكره، وختم على قلبه عن التوحيد، فلا يعرف موجبات التوحيد وما تقتضي كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" حتى استحق العذاب يوم القيامة.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب القاسية، يقول الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ [البقرة:74]، والقسوة الصلابة والشدة واليَبَس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، ويُشبه الإمام ابنُ القيم القلبَ القاسي وكأنه من معدن صلب، لم تقوَ درجات الحرارة الدنيوية من زواجر ومواعظ وعِبَر أن تلينه، فما بقي إلا نار جهنم كي تذيبه فيها، فيقول: "ما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ من قسوةِ القلبِ والبعدِ عن الله، خُلِقت النارُ لإذابةِ القلوبِ القاسية، فأبعدُ القلوبِ من الله القلبُ القاسي".
وإذا قسا القلب قحطت العين، وقسوة القلب من أربعة أشياء؛ إذا جاوزتَ قدر الحاجة في الأكل والنوم والكلام والمخالطة، كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المُغَلّفَة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88]، أي: عليها أغطية، وهو مثلُ قول الله تعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت:5]، وفي كلام العرب يقولون: غلفت السيف أي: جعلت له غلافًا، فقلب أغلف أي: مستور عن الفهم والتمييز، وهذا الصنف يقولون: إن قلوبَنا مغلفةٌ عن سماع الحق، فهم يرفضون مبدأ سماع النصيحة فضلا عن التأثر والانتفاع بها.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المريضة، يقول الله سبحانه وتعالى: فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، أي: تشوّفٌ لفجورٍ وهو الفسق والغزل، قال ابن تيمية في تفسير قول الله تعالى: فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]: "هو مرض الشهوة، فإن القلب الصحيح لو تَعْرِضُ له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه، فإن خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض". وما أكثرَ هذا الصنف الذي تكلم عنه شيخ الإسلام، وهو في ذاته الصنف الذي تكلم عنه الله سبحانه وتعالى في صدر سورة البقرة في قوله: فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، الذين قال لهم الدعاة إلى الإسلام: لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ [البقرة:11]، فردوا عليهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، فبسبب مرض قلوبهم انقلبت الصورة عندهم، فأصبح المنكر عندهم معروفا، والمعروف لديهم منكرًا.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المختومة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية:23]، أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئًا يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها، ولهذا قال تعالى: فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]، فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى، وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة الهوى.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المطبوعة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأعراف:100]، فلا يدخلها شيء من الهدى، فصاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم والطبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم المرسلون من الوعظ والإنذار، وفي الحديث قال : ((مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَ مِرَارٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ)) رواه ابن ماجه (1126).
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المكنونة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، وهي جمع كِنان، وأصله من الستر والتغطية، فذكروا غطاء القلب وهو الأكنة، وغطاء الأذن وهو الوقر، وغطاء العين وهو الحجاب، والمعنى: إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ولا يراك.
فهذا الصنف من الناس لا يكتفي بما قاله صنف الناس من أصحاب القلوب المغلفة: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، إنما يتجاوز ذلك، ويبدي عدم حبّه لسماع الخير، بل وعدم رغبته حتى في رؤية الداعية إلى الخير والدين والإسلام، فمجرد رؤيتُه تُنغص عليه لذاته الدنيوية، وهذا أيضًا يعتبر من أشرس أنواع الناس.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب العمياء، قال تعالى: وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ [الحج:46]. والعمى هو انعدام الرؤية، وعليه قال مجاهد: "لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظرُه شيئًا"، وهو تبلد حسي بحيث لا يدرك صاحبه مواطن الحق والعبرة.
فاتقوا الله عباد الله، وأنيبوا إلى ربكم وتوبوا إليه توبة لا رجوع بعدها إلى المعاصي تصلح قلوبكم، وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [التغابن:11].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأسأله باسمه الأعظم أن يمن علينا جميعًا بالإيمان التام والخاتمة الحسنة بعد طول العمر، وأن يثبتنا على السنة ويحفظنا من شر البدعة، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله علينا متشابهًا فنتبع الهوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المقفلة، يقول الله سبحانه وتعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه، والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق، وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر والشرك.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب اللاهية، يقول الله سبحانه وتعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:2، 3]، والمعنى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب، ويمكن أن تحدد شخصية صاحب هذا القلب، فإنه يستمع إلى الموعظة باستخفاف يصحبه استهزاء بالواعظ والموعظة، على صورة انشغال يفتعله كاللعب وغيره أثناء الموعظة.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب الزانية، قال رسول : ((كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ)) رواه مسلم (2657). ومعنى الحديث أن ابن آدم قدّر عليه نصيب من الزنا، فمنهم من يكون زناه حقيقيًا, ومنهم من يكون زناه مجازيًا، وذلك بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده بأن يقبلها أو بالمشي بالرِّجْلِ إلى الزنا أو النظر أو اللمس أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنا المجازي، والفرج يصدق ذلك كلَّه أو يكذبه، وتصديقه أن يحقق الزنا بالفرج، وتكذيبه انشغال فكره وقلبه بالزنا، كالذي يحوم حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وفي كلا الحالتين فهذا القلب قلب زان إما حقيقة أو مجازًا.
عباد الله، والخلاصة التي نصل إليها أن القلوب البيضاء ستة أقسام هي: القلوب المطمئنة، والقلوب السليمة، والقلوب المنيبة، والقلوب الوجلة، والقلوب المخبتة، والقلوب المقشعرة اللينة، والقلوب السوداء ثلاثة عشر قسمًا: القلوب الغليظة، والزائغة، والغافلة، والقاسية، والمغلَّفة، والمريضة، والمختومة، والمطبوعة، والمكنونة، والعمياء، والمقفلة، واللاهية، والزانية.
فاحرص ـ أخي المسلم ـ أن يكون قلبك من القلوب البيضاء، والحذر الحذر أن تعصي الله تعالى وتجري وراء كل فتنة وبدعة، فيسْوَدّ قلبك فيكون من أقسام القلوب السوداء، نعوذ بالله ثم نعوذ به من ذلك.
| |
|