molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: القلوب البيضاء - أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي الخميس 20 أكتوبر - 5:59:42 | |
|
القلوب البيضاء
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، فأوصيكم وإيايَّ بتقوى الله والاعتصام بكتاب الله عز وجلّ وسنة رسول الله وما عليه سلفكم الصالح من الأئمة الراشدين المهديين والفقهاء والصالحين.
أيها الناس، في تيار الأيام ودورة الفلك وصخب الحياة وشغلها يرى كلُّ مسلم أن الناس ـ إلا من رحم الله ـ قد غلبت على أنفسهم ماديات الحياة وزخرفها، وتزينت الدنيا لهم بأبهى مظاهر الزينة، وأظهرت من مفاتنها ما أغرى النفوس والقلوب، فتهافتت عليها من كل ناحية وصوب لاهثة راغبة في م+ب أكبر قدر من مظاهرها ومفاتنها، حتى تربعت الدنيا على القلوب واستوت على سويدائها، وقد عاد هذا الأمر الخطير على واقع القلوب بالهزيمة والضعف في أوصاله، وسرت أمراضٌ ما كان لها أن تجد لها مدخلاً إلى صرحه لو كان الإيمان سلاحَه واليقين بُردَه وأمنَه.
والقلب ما سمي بذلك إلا لكثرة تقلبه من حال إلى حال، وهو كما وصفه رسول الله : ((مَثَلُ القلبِ مثل الريشة تقلبها الرياحُ بفَلاة)) رواه ابن ماجه (88). فهنا يصور لنا الرسول القلب وأنه ريشةٌ لخفته ولتأثير الفتن عليه، صغيرها وكبيرها، تمامًا مثل الريشة التي تؤثر فيها أقل النسمات فتغير اتجاهها، ولتيقّن الرسول بهذه الحقيقة كان يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))، فقال أنس: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟! قال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)) رواه الترمذي (2140)، أي: إن الله يتصرف في قلوب عباده كيف يشاء لا يمتنع عليه شيء منها.
عباد الله، والقلوب قسمان، قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) رواه مسلم (144).
أيها المؤمنون، ويتبين من الحديث أن القلوب تنقسم إلى قسمين: قلوب بيضاء وقلوب سوداء، وفي هذه الخطبة سأقصر الكلام على القلوب البيضاء، وأما القلوب السوداء فسوف أفصل الكلام فيها في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.
عباد الله، وتختلف درجات السواد والبياض في كل قسم بمقدار ما أُشرب من فتن، وبمقدار بعد هذا القلب وبالتالي صاحبه عن القرآن والسنة وما عليه سلف الأمة، وعليه فإن كل قسم من هذين القسمين يضم أنواعًا من القلوب.
فالقسم الأول: القلوب البيضاء؛ ويأبى صاحب هذا القلب أن يفتح مسامات قلبه لغير الحق، وإذا تعرض لفتنة وابتلاء وامتحان واختبار وتحول من حال حسنة إلى سيئة انكمشت مسامات قلبه إلى درجة الانغلاق التام بسبب إنكارِه ورده لها، فيُنكت في قلبه نكتةٌ بيضاء أي: ينقط في قلبه نقطةٌ بيضاء، ومع توالي الفتن التي هي كأعواد الحصير في تتابعها كما ينسج الحصير عودًا عودًا وشظية بعد أخرى، وناسجُ الحصير كلما صنع عودًا أخذ آخر ونسجه، فشبه رسولُ الله عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدًا بعد واحد، وصاحب القلب الأبيض مع استمرار الإنكار لها ينتشر البياض على قلبه حتى يغطيه، ثم يكتسب خاصية الصلابة حتى يكون مثل الصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء، وليس تشبيهُهُ بالصفا بيانًا لبياضه، لكن لصفة أخرى وهي لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا، وهو الحجر القوي الصلب الأملس الذي لا يعلق به شيء، ومع ذلك فقد تنتابُ صاحب هذا القلبِ فترات من الضعف والغفلة الآنية، تلك الغفلة التي شبهها الرسول بالسحابة إذ يقول: ((ما من القلوب قلب إلا وله سحابةٌ +حابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابةٌ فأظلم، إذ تجلت)) أخرجه الطبراني وحسنه الألباني.
إن أحجام السحب ليست واحدة، فمرةً نراها ممتدة طويلة تغطي ذلك القمر المضيء لفترة ثم تنجلي، وأخرى نراها صغيرةً جدًا لا تغطي تلك الأنوارِ المنبعثةِ من القمر إلا اللحظات، وأخرى نراها معتمة، وأخرى بيضاءُ شفافةٌ يرى من ورائها القمر، وهذه الأنواع المتعددة من السحب هي في ذاتِها تمثل العوارض التي تَعْتَرضُ أصحابَ القلوب البيضاء، ولكنها كلَّها تزول بإذن الله، وتنجلي السحابة عن القمر المضيء، فتعود أشعتُه تخترق القلوب، وتنير لأصحابها الحق الذي لا تشوبه فتنة، ولهذا السبب اختلفت أنواع القلوب البيضاء، ويؤكد ذلك قول رسول الله : ((القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض)) أخرجه أحمد (6655).
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب المطمئنة، يقول الله سبحانه وتعالى: ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ [الرعد:28]. والطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن والسنة. فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه، فإن صاحب هذا القلب لا يضطرب ولا يقلق عندما يصاب بمصيبة وابتلاء، بسبب ما يعتقد أن ذلك فتنةٌ من الله واختبار.
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب السليمة، يقول الله سبحانه وتعالى: إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89]. والقلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن، لأن قلب الكافرِ والمنافقِ مريض، وهو القلب الخالي من البدعة المطمئن إلى القرآن السنة، وهو قلب سليم من آفة الافتتان والفخر بالمال والبنين، قال الجنيد: "السليم في اللغة اللديغ، فمعناه أن قلبه كاللديغ من خوف الله". فصاحب هذا القلب هو من تجمعت فيه هذه الصفات، فهو ذو قلب سليم خالص من آفات المال وفتنته وجواذب الدنيا وفتنتها، خالٍ من البدع مطمئن إلى الإيمان، خائف من الله.
ومن أقسام القلوبِ البيضاء القلوبُ المنيبة، يقول الله سبحانه وتعالى: مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق:33]، أي: مقبل على الطاعة، وحقيقة الإنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه.
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب الوجلة، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، والوجل: الخوف والفزع، والمراد أن حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله، والذي إذا أراد أن يظلم مظلمة فقيل له: اتقِ الله كفَّ ووجِلَ قلبُه، ونستخرج من ذلك أن صاحب هذا القلب يتفاعل مع الموعظة، ويخاف عندما يُذَّكر بالله، ويكف عن المظلمة لحساسيته الكبيرة ومحاسبته لنفسه تخوفًا من عقاب الله.
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب المخبتة، يقول الله سبحانه وتعالى: فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54]، أي: تخشع وتسكن وتنقاد، والمخبتون من عباده المتواضعون الخاشعون المخلصون، وهم الذين لا يظلمون غيرَهم، وإذا ظلمهم غيرُهم لم ينتصروا، بل يكظمون الغيظ طلبًا للثواب المترتب عليه من الله عز وجل.
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب المقشعرة اللينة، يقول الله سبحانه وتعالى: ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰبًا مُّتَشَـٰبِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، قال الزجاج: "إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ إذا ذكرت آيات الرحمة".
أيها المؤمنون، وبعد هذا العرض لأقسام القلوب البيضاء والوقوف على صفاتها لا بد لكل منا أن يحاسب نفسه، ويسألها ويطيل السؤال، حتى يعلم قلبَه من أيّ الأقسام هو، فإذا وجد أن قلبه من الأقسام التي مرت بنا فليحمد الله تعالى، وليطلب من الله المزيد والثبات على ذلك، وليكثر من التمسك بكتاب الله وسنة رسوله في نياته وأفعاله وأقواله، وليصَفِّ قلبه من الغل والحقد والحسد وأمراض القلوب الأخرى، وليجلس مع العلماء والصالحين، وليكثر من قول الرسول : ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) حتى يلقى الله على ذلك، وإن لم يجد أن قلبه من أقسام القلوب البيضاء فليضرعْ وليبتهلْ إلى الله حتى يتوب عليه مما جعل قلبه أسود، ويجعل قلبه من القلوب البيضاء بنور الإيمان.
قال رسول الله : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ))، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ، وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَاسٌ مِنْ النَّاسِ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ، انْعَتْهُمْ لَنَا يَعْنِي صِفْهُمْ لَنَا، فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ لِسُؤَالِ الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ ـ أشتات ـ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) أخرجه أحمد (5/343) عن أبي مالك الأشعري.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على صلاح قلوبكم وعدم دخول الفتن والمعاصي والذنوب إليها أكثر من حرصكم على صلاح دنياكم.
أيها المؤمنون، وبقي معنا من أقسام القلوب القلوب السوداء، أخذ العلماء ذلك من قول رسول الله عن أقسام القلوب: ((وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ))، سأشرحه لكم إذا شاء الله في الجمعة القادمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
لم ترد.
| |
|