molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: تغيير المنكرات- سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الأربعاء 9 نوفمبر - 4:58:40 | |
|
تغيير المنكرات
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فقد سبق الكلام في خطبة سابقة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلمنا وجوب ذلك على كل مسلم ومسلمة بقدر الاستطاعة وفي حدود الطاقة والعلم؛ لأنه لا بد من العلم والحكمة والبصيرة إلى جانب الأمر المهم والقاعدة الأساسية في كل قول وعمل حتى يقبل الله العمل، وهذا هو الشرط المهم في قبول الأعمال، ألا وهو الإخلاص لله رب العالمين والصواب على سنة رسول الله .
وعليه فإن على كل من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو يدعو إلى الله عز وجل ـ لأنَّ الدعوةَ أَعَمُّ وأشملُ من ذلك ـ على كل من يقوم بذلك أن يبدأ بالعلم أولاً لقول الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد: 19]، ثم البصيرة والحكمة في آنٍ واحد، قال الله جل جلاله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125]، وقال سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنَ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]، وقال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة: 269].
وأما الإخلاصُ فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللهِ عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، وقال رسول الله : ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.
وأما الصواب ففي قول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، وقوله سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، وقوله : ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تَمَسَّكُوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان بألفاظ متقاربة، وقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)). رَدٌّ أي: مردود على صاحبه لعدم موافقته هدي رسول الله .
النهي عن المنكر باليد فَهِمَهُ بعضُ المسلمين بأنه الاعتداءُ على مرتكبي المنكرات بأي وسيلة حتى لو وصل إلى إزهاق الأنفس، سواء نفوس أصحاب المنكرات، أو من يحيط بهم أو يجلس معهم، وسواء كانوا مسلمين أو كفارًا، وهذا الفهم الخاطئ الذي يحمله ويَتَعَلَّقُ به ويُرَوِّجُ له مِنْ صَدْرِ الإسلام وحتى آخر الزمان هُمُ الْخَوَارِجُ الذين يكفِّرُون المسلمين الذين يرتكبون بعض الذنوب والمعاصي، ولذلك فهم يستبيحون دماءهم بهذه السهولة. وهذا الفكر التكفيري للمسلمين الذي يحمله تلك الفئة الضالة هو أحد الأسباب التي انطلق منها أولئك الْمُخَرِّبُونَ والمفسدون في الأرض والذين لم يفهموا الإسلام على حقيقته وشَوَّهُوا وَضَاءَتَهُ وبَهَاءَهُ بتصرفاتهم الرَّعْنَاء وغَيَّرُوا المنكرات بِأَنْكَرَ منها وأبشع، ومنها: الهجماتُ الشرسةُ التي شنَّها أعداءُ الإسلام من داخل ديار المسلمين ومن بلاد الكفر على المسلمين في أنحاء العالم، فلو أنّ تلك الفئة الضالة لديهم العلم والبصيرة والحكمة والصواب لما أقدموا على تغيير المنكرات التي أَفْضَتْ إلى ارتكاب منكرات عظيمة في حق الإسلام والمسلمين في جميع بقاع الأرض، قال الله جل جلاله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 108].
وَذَكَرْتُ العلمَ والبصيرةَ والحكمةَ والصوابَ ولم أَذْكُرِ الإخلاصَ الذي قد يكون لديهم ولدى كثير منهم والغيرة أيضًا على انتهاك المحرمات؛ لأنهما هما اللذان دَفَعَا إلى تغيير المنكرات، ولكن على غير علم وبصيرة وحكمة وصواب. فكان الذي شهده العالم منذ سنوات في أقطار مختلفة من قِبَل أولئك الذين ضَلَّلَهُمْ قادتُهم بأنهم مجاهدون في سبيل الله عند قيامهم بتلك التفجيرات لتغيير المنكرات، ولم يستطيعوا التفريق بين الجهاد في سبيل الله وبين تلك الأعمال التي لا يجدون لها دليلاً في القرآن الكريم أو في سنة رسول الله . والأدلة التي ذكرتها في خطبة سابقة حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فيها أي إشارة إلى قتل أي إنسان من المسلمين أو الكفار، بل هي الغيرة عند انتهاك الحرمات وارتكاب المحرمات والموبقات والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والنصيحة الواجبة التي تفرض على المسلم القيام بها أداءً لها وقيامًا بواجب الأمانة وخروجًا من الإثم الذي قد يلحق الشخص عند التقصير في عدم القيام بما أوجب الله عليه، فهل يفهم أيُّ عاقلٍ من المسلمين لديه علم وبصيرة بأن الرسول أمر في الأحاديث التالية بقتل صاحب المنكر، أم أنه تَحْرِيكُ الْغَيْرَةِ في نفوس المسلمين لتغيير المنكرات وعدم السكوت عليها متى ظهرت أمام الناس وفي المجتمع وذلك بالطرق الحكيمة والبعيدة عن الفوضى والْغَوْغَائِيَّةِ التي يرتكبها وارتكبها مَنْ شَوَّهَ صورة الإسلام الناصعة وسمعة المسلمين؟!
إن جميع الآيات والأحاديث الواردة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تدل على أهمية هذه الشعيرة العظيمة في الإسلام؛ ليقوم كلٌّ بدوره ابتداءً من نفسه وأسرته ومن تحت رعايته إلى إخوانه المسلمين وإلى المجتمع، ولكن ضمن الحدود والأُطُرِ التي وضعت القيود لهذا الأمر وغيره في الإسلام، وليس تبعًا للرغبات والأهواء ونزوات النفوس واتباع خطوات الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: 21].
قال رسول الله : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه الإمام مسلم رحمه الله، وقال رسول الله : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا اسْتَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوْقَهُمْ فقالوا: لو أنا خَرَقْنَا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا)) رواه البخاري والترمذي وغيرهما. معنى ((القائم على حدود الله)): المُنكِر لها القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه، ومعنى ((استهموا)): اقترعوا، ومعنى ((أخذوا على أيديهم)) أي: منعوهم من الخرق.
وفي نهاية الحديث الآخر بعد أن تلا رسول الله هذه الآية وهي قول الله عز وجل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، إلى قوله تعالى: فَاسِقُونَ [المائدة: 78-81]، ثم قال : ((كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
فهل يفهم أحد من هذه الأحاديث بأن تغيير المنكر هو بالسلاح وقتل مرتكبي المنكرات، أو هو المنع لهم من ارتكاب المعاصي والوقوف ضد ارتكابها والْحَيْلُولَة دون الاستمرار فيها؟! هل هو القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سفينة الحياة التي يركبها الْبَرُّ والفاجِرُ والمسلمُ والكافرُ وفق سنة المدافعة بين الإسلام والكفر والحق والباطل، أم هو قتل الآخرين والتخلّص منهم بأسرع وقت ممكن حتى تبقى الحياة على هذه الأرض دون ذنوب وآثام؟! هل يريدون تطهير المجتمعات بأسرها من المنكرات الظاهرة والباطنة والقضاء على الشر والفساد حتى لا يبقى شرٌّ في الأرض ولا يبقى إلا الخير وأهل الخير وبذلك يكونون مخالفين ومُحَادِّينَ لله فيما أَقَرَّهُ سبحانه وبحمده من أن هذه الحياة الدنيا لا بدّ فيها من الصراع بين الحق والباطل والمدافعة بين الفريقين حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟! وأدلة ذلك كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وتأتي في حينها إن شاء الله تعالى. هل في هذه الآيات التالية أو الآية التي سبق ذكرها عن بني إسرائيل بأنهم: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة: 79]، أو قول الله عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]، وقول الله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، أو قول الله سبحانه وبحمده: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71]، هل في هذه الآيات أدنى إشارة إلى حمل السلاح وقتل الناس المرتكبين للمعاصي؟! هل ورد فيها (تقتلون الذين لا ينتهون عن المنكرات) أو على أقل تقدير (تضربونهم أو توسعونهم ضربًا وحرمانًا) أم أنها العبارات التالية: ((وينهون عن المنكر)) ((وتنهون عن المنكر))؟! هل ورد استعمال اليد في تغيير المنكر في آية أو حديث غير هذا الحديث الذي رَتَّبَ تَغْيِيرَ المنكر وحَدَّدَهُ بثلاث مراتب: باليد أولاً، وإن لم يستطع فباللسان ثانيًا، وإن لم يستطع فبالقلب ثالثًا وأخيرًا، فاللسان يستطيعه أُنَاسٌ ولا يستطيعه آخَرُونَ كما ورد في حديث رسول الله ، وهناك مواقف لا يستطيعها بعض المسلمين حتى في بيوتهم فضلاً عن الأماكن العامة، بل إنه لا يجوز أن يتعدى أحد على صلاحية غيره حتى في البيوت؛ لأن المسؤوليات مَنُوطَةٌ بأشخاص حتى في البيوت، ليست فوضى، أما القلب فباستطاعة أي مسلم أن تتحرك فيه الغيرة على انتهاك محارم الله في أي مكان وموقع في هذه الأرض، ولا يُعْذَرُ أحدٌ في ذلك لأن الرسول لم يعذر أحدًا، بل نفى عنه الإيمان كما جاء في الحديث الآخر قوله : ((وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان)) أي: إذا لم يُنْكِرِ الْمُنْكَرَ بقلبه فليس لديه إيمان في قلبه؛ لأنه فَقَدَ الإحساسَ وتَبَلَّدَتْ مَشَاعِرُهُ فاستحقَّ هذا الوصف، ولكن تغيير المنكر باليد ليس لكل أحد وفي كل مكان وبأي وسيلة، بل إن اليد يستعملها المسلم في بيته لتغيير المنكر بإزالته والوقوف ضدّ ارتكابه ومع أهله وأولاده ومن تحت يده وفي إدارته ومصنعه ومتجره وعمله الذي يقوم هو على شؤونه وإدارته، وليس معنى التغيير هنا باليد أنه على إطلاقه أي: بالضرب على كل منكر، بل هو بإزالة المنكر باليد دون إلحاق الضرر بِمُرْتَكِبِ المنكر، وهذا يكون في مواقف كثيرة يعرفها الجميع، أما استعمال اليد في الأماكن العامة والأسواق والمتنزهات وغيرها فلا يُقْدِمُ عليه مسلم لئلا يُغَيَّرَ المنكرُ بِأَنْكَرَ منه، وحتى لا تشيع الفوضى في المجتمع، وإنما هناك جهات مسؤولة عن ذلك خاصة في بلاد الحرمين حيث وجود جهة مسؤولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجود أجهزة متعددة لعدد من المنكرات أيضًا مثل مكافحة المخدرات والرشوة وغيرها من المنكرات التي تُحارب من الجميع.
قال عز وجل: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8]، وقال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14]، وقال عز وجل: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [فصلت: 25].
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة على من لا نبي بعده، سيدنا وحبيبنا ورسولنا رسول الثقلين الإنس والجن محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فالمؤمن يغار عند انتهاك حرمات الله من قِبَلِ أيِّ مخلوقٍ آخرَ مسلمٍ أو كافرٍ، والواجب أن تكون هذه الْغَيْرَةُ مُنْضَبِطَةً ومُقَيَّدِةً في حدود الشرع، وليست تبعًا للهوى وما تشتهيه الأنفس، ولا بدّ أن يغضب المسلم لله عز وجل ويَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ عندما يرى المنكرات وتتحرّك فيه الغيرة الإيمانية المقيدة بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله محمد ، الغيرة التي تُصْلِحُ ولا تُفْسِدُ ولا تُؤَدِّي إلى مفسدة أكبر ولا إلى ارتكاب محرمات وموبقات أخرى من قبل مرتكب المعصية ولا من قِبَل المسلم نفسه كما حصل لأولئك الذين أساؤوا لأنفسهم أولاً قبل أن يسيئوا للإسلام والمسلمين والمنتشرين في كثير من أقطار الأرض وليسوا في هذه البلاد لوحدها ولهم تنظيماتهم السّريّة وقياداتهم الشيطانية التي كفّرت المسلمين وولاة أمرهم من العلماء والحكام على حد سواء، واعتقدوا بأنهم سائرون على النهج الصحيح والطريق المستقيم وأنهم مجاهدون في سبيل الله، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم مع أنهم مُخْتَبِئُونَ، ومن قام منهم بتلك العمليات التخريبية التدميرية إما أن يكون قد فَجَّرَ نفسه وقتلها وأوردها المهالك وارتكب الكبائر والذنوب الموبقة قبل موته، أو أنه فَارٌّ وهَارِبٌ ومُخْتَبِئٌ ومرتكبٌ لكبائرَ أخرى من الذنوب.
ومن كبائر الذنوب التي ارتكبها المفسدون قبل انتحارهم التَّزْوِيرُ في الوثائق الرسمية وغيرها وسرقةُ أموال الناس أو اختلاسُها وإنفاقُها في غير الطرق التي أرادها الْمُودِعُون لها في تلك الصناديق، والكذبُ والبهتانُ وسوءُ الظن بالمسلمين إلى غير ذلك من الموبقات، هذا قبل ارتكاب الجريمة، أما عند الإقدام على الجريمة فَقَتْلُ الشخص منهم لنفسه، وسبق أنْ عَلِمْنَا الدليلَ من الكتاب والسنة على حُرْمَةِ هذا العمل والعقوبة المترتبة على ذلك، وقَتْلُ المسلمين والأنفس المعصومة من غير المسلمين، وإفسادُ الأموال العامة وتدميرُها في الفنادق والمجمعات السكنية والطائرات والسفن وغيرها، ويعتقدون بأن عملهم ذلك هو غَيْرَةٌ لله وتَغْيِيرٌ للمنكرات في بلاد المسلمين وبلاد الكفار على حَدٍّ سواء، وقد جهل أولئك أنَّ اللهَ أَغْيَرُ منهم ومِنَّا ومن كل البشر عمومًا عندما يرتكب العاصي أي معصية تغضب الله وخاصة تلك المحرمات والمنكرات المعلنة، ولكنه سبحانه وبحمده يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ وإذا أَخَذَ فإنَّ أَخْذَهُ أليمٌ شديدٌ، وها نحن نشاهد الظلم والطغيان والفساد على مستوى الحكومات والدول، ولكنها أخذت تتهاوى وتتساقط تلك القوى الظالمة التي عَاثَتْ في الأرض فسادًا ابتداءً من الشيوعيين ومرورًا بالبعثيين وانتهاء بالدولة الغاشمة المستبدة التي أخذت تتصرف في العالم كَالثَّوْرِ الْهَائِجِ مُعْتَزَّةً بتقنياتها الحديثة وإمكاناتها المادية والاقتصادية، ولكنها إن شاء الله وبإذنه عز وجل قد قَرُبَ سُقُوطُهَا؛ لأنه ما من شيء يبلغ نهايته في الظلم والطغيان إلا ويسقط سقوطًا ذليلاً مهينًا بإذن الله تبارك وتعالى، ومعها بإذن الله دولة اليهود في أرض فلسطين التي تستمد طغيانها من تلك الدولة الماردة الشريرة، وهم أولياء بعض كما ذكر الله ذلك في محكم التنزيل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. وليس أدّل مما علمناه من أمر الزعماء الطغاة المعاصرين وآخرهم من سكن الجحور عدة شهور بعد التقلب بين ردهات عشرات القصور. أعود للقول بأن الله أغير من المؤمنين عندما يرتكب العباد المحرمات والآثام والموبقات، وهو أعلم وأحكم سبحانه يمهل ولا يهمل، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله : ((إن الله تعالى يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) رواه مسلم، وقال رسول الله : ((المؤمن يغار، والله أشد غيرًا)) رواه مسلم، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش)) رواه البخاري واللفظ له ومسلم، وفي الحديث الذي ذكرناه سابقًا عن غَيْرَةِ سعد بن عبادة رضي الله عنه وعندما بلغ ذلك رسول الله فقال: ((تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين)) رواه الإمامان البخاري مسلم رحمهما الله واللفظ للبخاري، معنى العذر أي: الأعذار والإنذار قبل الأخذ بالعقوبة، ولهذا بعث الله المرسلين، قال الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]، وقال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61]، وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف: 57-59]، وقال رسول الله : ((إن الله لَيُمْلِي للظالم، فإذا أَخَذَهُ لم يُفْلِتْهُ)) ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] متفق عليه.
إذًا المسلم ليس مأمورًا بِإِرْغَامِ الْبَشَرِ على الهداية أو أنه يرتكب الموبقات من أجل ارتكابهم للمحرمات، ولا يجوز له أن يقدم على ما أقدمت عليه تلك الْفِئَةُ من أعمال تخريبية باسم الإصلاح وتغيير المنكرات، ولكنها سُنَّةُ الْمُدَافَعَةِ بين الحق والباطل والخير والشر والمؤمنين والكافرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا في حدود كتاب الله وسنة رسوله محمد .
وحول الهداية وما أُمِرْنَا به نَحْوَ غَيْرِنَا يكون الحديثُ إن شاء الله تعالى في خطبة قادمة، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272]، وقال سبحانه وبحمده: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 99-101]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118، 119].
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ورسولنا محمد وآله، ورضي الله عن صحابته الأطهار، وأولهم الخلفاء المهديون الأربعة...
| |
|