molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الحياء - عبد العزيز بن الطاهر بن غيث / طرابلس الإثنين 12 ديسمبر - 0:59:50 | |
|
الحياء
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث /طرابلس
الخطبة الأولى
أما بعد: نتكلم اليوم عن خَصلة إيمانيةٍ عظيمة وصفةٍ حميدة يحبها الله، نتكلم عن أدب إسلامي أصبح غريبًا علينا عزيزًا لدينا، وصار من الذكريات التي يُحكى عنها، نتكلم عن الحياء والاستحياء، هذا الأدب الذي إذا ضاع ارتُكِبت الذنوب واقتُرفت الآثام وكثرت المعاصي، هذا الخُلُق الذي إذا غاب جرحت المشاعر وأُوذيت الأسماع والأبصار وتدهورت الأخلاق، هذا الخلق الذي هو مانع وحاجز عن كثير من التردي والفجور.
الحياء صفة جليلة اتصف بها الخالق جل في علاه، فمن صفاته تعالى أنه حييٌّ، يقول : ((إن ربكم حيي كريم، يستحي أن يبسط العبد يديه إليه فيردهما صفرا)) أخرجه أبو داود عن سلمان. كما أن الحياء كان خلقا نبويا تخلق به رسول الله ، لقد وصف بقدر من الحياء لم يوصف به غيره، فعن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه. متفق عليه.
الحياء ـ أيها الناس ـ أمر ضروري لا يصلح العيش إلا به، فإذا ضاع الحياء أصبح الناس كالدواب التي لا تفقه شيئا ولا تجد غضاضةً في أي أمر تقوم به، إذا ضاع الحياء أصبح الناس هَمَجا لا وازع يزعهم عن أي مقبوح أو مذموم من الأفعال، فكيف يعيش الناس وكيف تكون حياتهم إذا لم تكن لهم حدود يوقف عندها وأمور يستحيا منها؟! لا شك أن الحياة عندها تكون حياة بهيمية، وتكون ضنكا وضِيقا لكل مسلم، وهذا ليس بغريب؛ فغياب الحياء ليس بالأمر الهين، فالحياء من الإيمان، يقول كما عند مسلم من حديث أبي هريرة: ((الإيمان بضع وسبعون ـ أو: بضع وستون ـ شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))، بل إن الحياء قرين الإيمان، فذهابه ذهاب الإيمان، وذهاب الإيمان ضياع كل شيء، يقول كما في صحيح الجامع من حديث ابن عمر: ((الحياء والإيمان قُرِنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر))، لهذا ينبغي أن نولي الحياء اهتماما خاصا، يجب أن نستعيد هذا الخلق الضائع الذي نسيناه وابتعدنا عنه، يجب أن نستعيد الحياء في علاقتنا مع خالقنا ونستعيده في بيوتنا ونستعيده في شوارعنا ومؤسساتنا.
والحياء ـ إخوة الإيمان ـ يكون من الله ومن الناس، فالله سبحانه هو أول من يجب أن يستحي المسلم منه، فهو الخالق الرازق المنعم، صاحب الفضل الأعظم على الإنسان، أهل النعمة والثناء الحسن، فكيف يمكن أن يُستحيا من أحد قبله؟! وكيف يصح أن يُستحيا من أحد أكثر مما يستحيا منه سبحانه وهو القريب الرقيب الذي لا يخلو الإنسان من نظره أبدا، وهو سبحانه مطلع عليه في كل شأن من شؤونه؟! يقول سبحانه: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس: 61]، فالإله المطلع علينا في كل أمورنا هو الأحق بهذا الحياء سبحانه، يقول : ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس))، فلا بد أن يستحي الإنسان من الله، فلا يعصيه ولا يخالف أمره ولا يواجهه بالفواحش والمعاصي، يقول سبحانه: مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 13، 14].
بل إنه لا يكتفي بأن يوجهنا إلى أهمية الحياء من الله، بل يطلب منا أن نستحي من الله حقَّ الحياء، يقول : ((استحيوا من الله حق الحياء))، قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله، قال: ((ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) أخرجه الترمذي عن ابن مسعود.
هذا هو الاستحياء من الله حق الحياء كما يبينه أعرف الخلق بالله ، أن نحفظ الرأس وما وعى، نحفظ هذا الرأس فلا نطأطئه ولا نسجد به ونذله إلا لله، وما وعى أي: ما وعى هذا الرأس واحتوى من جوارح، فقد جعل الله في الرأس أخطر الجوارح والحواس: البصر والسمع والنطق، لا بد أن نحفظ هذه الحواس من أن تستعمل فيما حرم الله سبحانه. وأن نحفظ البطن وما حوى، فالبطن يحوي المعدة مستودع المأكل والمشرب، ويحوي القلب، ويحوي الفرج، فالمعدة ينبغي أن لا يوضع فيها وأن لا تغذى إلا بالمطعم والمشرب الحلال، والقلب ينبغي أن يكون متجها لله مسترشدا بنوره، والفرج ينبغي أن لا نستعمله إلا فيما أحل الله لنا. ثم يأمرنا إذا أردنا أن نستحي من الله حق الحياء أن نذكر الموت والبلى، فإذا ذكر الإنسان الموت والبلى وأنه سيعود إلى هذه الأرض التي خلق منها وإلى هذا التراب الذي ابتدأ منه عندها سيحجم عن كثير من الظلم وكثير من الفسق والكفر، وعندها سيعلم أنه مخلوق ضعيف أمام هذا الخالق القوي، ومخلوق عاجز أمام هذا الخالق القادر، ومخلوق محتاج وفقير أمام هذا الخالق الغني، فيستحي من هذا الإله حق الحياء. ثم يبين لنا أن مصداق هذا الحياء ترك زينة الحياة الدنيا وإيثار الآخرة عليها.
والإنسان ـ إخوة الإيمان ـ مطالب كذلك بالاستحياء من الناس؛ لأن في ذلك إحسانًا للمسلمين وحجبًا للأذى عنهم، وفي ذلك تعاون على البر والتقوى ومنع لانتشار رذائل الأخلاق، فلا يمكن أن يتوقّع خير من إنسان لا يستحي من الناس ولا يهمه أن يرتكب أمامهم رذائل الأمور والأخلاق، فالحياء ضروري للمسلم، وقد سرد لنا القرآن الكريم قصة موسى مع المرأتين وكيف سقى لهما، وتطرق القرآن إلى هذا الحياء من الناس حيث يقول سبحانه: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، يقول ابن كثير في تفسيره: "فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء أي: مشي الحرائر، جاءت مستترة بكم درعها، قال عمر رضي اللّه عنه: جاءت تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَع من النساء ولاّجة خرّاجة، ومعنى السلفع: الجريئة من النساء السليطة الجسور".
فالاستحياء من الناس إذًا أمر مرغوب، وقدوتنا في هذا الاستحياء من الناس رسول الله الذي كان يستحي من الناس كما أسلفنا حتى يظهر ذلك على وجهه، وها هو وهو الرسول الموحى إليه من ربه يستحي من أحد أصحابه وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه، فيقول كما عند مسلم من حديث عائشة: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!))، فالحياء من الناس خلق عظيم لا ينبغي أن نقصر فيه، ولا ينبغي أن نواجه الناس بما يُستحيا منه، فقد أنذرنا رسول الله من هذا إنذارا عظيما، لو فقهه المتجرئون لعلموا فضل الحياء وخطورة فقده، يقول : ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة.
والآن أيها المسلمون، أين نحن من الحياء؟! وأين الحياء منا؟! أين نحن من أمر كله خير ونحن نزعم أننا نبحث عن الخير؟! يقول : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) متفق عليه، وفي رواية لمسلم: ((الحياء كله خير))، أين نحن من هذا الخير؟! لقد أصبح الحياء ـ كما قلنا ـ كالتاريخ القديم الذي يحكى عنه، الأشكال التي نراها في الشوارع للرجال والنساء والألفاظ والكلام الذي يردّد ويقال لم يترك للحياء مكانا بيننا، أين نحن من الحياء وقد تعرى الرجال والنساء ولبسوا المكشوف والشفاف والضيق من اللباس دون حياء وتشبه بعضهم ببعض؟! أمن الحياء أن تخرج نساؤنا وبناتنا كاسيات عاريات بسراويل ما كنا نعرفها ولا نألفها تكاد تتمزّق فوق أجسادهن؟! أمن الحياء أن يجوب الشاب الشوارع كاشفًا عن أفخاذه ويدخل البيت على أبيه وأمه وأخواته وهو بهذا الشكل المزري؟! أما علم هؤلاء أن الله سبحانه يقول: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27]؟! أما علموا أن رسول الله يقول: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك))؟! أين نحن من الحياء وقد جاهر الكثير من المسلمين بالمعاصي والآثام؟! يتباهون بذكر ذنوب اقترفوها وسترهم الله، ولكنهم يأبون إلا أن يهتكوا هذا الستر، والرسول يتوعدنا إن فعلنا هذا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) متفق عليه.
فاتقوا إخوة الإيمان، وحافظوا على حيائكم تفلحوا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، لا يُفقد الحياء في مجتمع إلا فشت فيه المعاصي واجترأ الناس فيه على كبائر الذنوب ونُزعت البركة من هذا المجتمع؛ فالحياء خلق جليل وقيد رباني مهم يمنع من انحدار المجتمعات وارتكاسها، هذا القيد بوجوده تعتدل الأمور وبغيابه تختل، يقول كما عند ابن ماجة من حديث أنس: ((ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه))، فغياب الحياء يشين الأمور ووجوده يزينها.
وأهمية الحياء أمر عرفه الناس من لدن النبوة الأولى، وسار على هذه القاعدة وهذا الخلقِ الرباني جميع أنبياء الله عليهم السلام، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) أخرجه أبو داود، قال الخطابي في المعالم: "معناه أن الحياء لم يزل أمره ثابتًا واستعماله واجبًا منذ زمان النبوة الأولى، فإنه ما من نبيٍ إلا وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه، وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم، وذلك أنه أمر قد علم صوابه وبان فضله واتفقت العقول على حسنه، وما كانت هذه صفته لم يجرِ عليه النسخ والتبديل" انتهى.
لهذا اهتم الإسلام بأمر الحياء وجعله ركيزة مهمةً وخُلُقا عظيمًا من أخلاق هذا الدين السمح الذي رضيه الله سبحانه لعباده ولم يرض لهم غيره، بل جعله خلق الإسلام، وهذا يكفي لبيان أهمية الحياء، يقول فيما أخرجه ابن ماجة من حديث أنس: ((إن لكل دين خُلُقا، وخلق الإسلام الحياء))، فكيف سيحفظ المسلم إسلامه إذا فرط في خلق الإسلام، وكيف سيُرضِي ربه سبحانه ونبيه إذا نزع عن نفسه جلباب الحياء الذي تخلق به أنبياء الله وأصفياؤه.
فتخلق بالحياء أيها المسلم، وتجمل به، وعوِّد النفس عليه، ولا تسترسل في اتباع الهوى، فالله سبحانه ناظر إليك مطلع على سرك وعلانيتك، فاحذر أن تجعله أهون الناظرين إليك.
وإذا خلـوت بريبـة فِي ظلمـة والنفس داعيـة إلَى الطغيـان
فاستحي من نظر الإلـه وقل لهـا إن الـذي خلق الظلام يـراني
وازرع ـ أيها المسلم ـ خُلُق الحياء والأدب وغيره من الأخلاق الحسنة والشمائل الطيبة في أهلك وبنيك، فهي أفضل تَرِكةٍ وأفضل ميراث، يقول : ((خير ما أعطي الناس خلق حسن)) أخرجه أحمد عن أسامة بن شريك.
اللهم احفظ علينا ديننا وحياءنا وحشمتنا، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
| |
|