molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: قول الزور - عبد العزيز بن الطاهر بن غيث / طرابلس الأحد 11 ديسمبر - 8:25:09 | |
|
قول الزور
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث /طرابلس
الخطبة الأولى
أما بعد: فلا زلنا ـ إخوة الإيمان ـ مع موضوع المعاصي وكبائر الآثام التي حذر منها الله عز وجل ورسوله ، ونتناول اليوم بإذن الله كبيرة قول الزور.
إن من أهم الأمور التي جاء الإسلام لمحاربتها وتبيين خطورتها وتحذير أتباعه منها الشهادات الباطلة والأقوال المزورة التي تقلب الحقائق وتأكل الحقوق بالباطل، وتضر بخلق الله لأن في هذا ظلما وأي ظلم، والله سبحانه قد حرم الظلم بين الناس، بل حرمه على نفسه، وهو رب العالمين وخالقهم الذي لا يُسأل عما يفعل، عن أبي ذر عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) أخرجه مسلم.
والكلمة التي تنطلق من اللسان قد يظنها البعض يسيرة مأمونة العواقب، فإذا بها تضر من قيلت فيه في الدنيا فتسلبه حقا أو تعرضه إلى ظلم وغبن، وتضر قائلها في الآخرة فيجد عاقبة هذه الكلمة خسرانا وعذابا أليما عند من لا تضيع عنده الحقوق ولا يغفل عن الأحرف والكلمات، بل هي محفوظة عنده في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، يقول سبحانه: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويقول رسوله الكريم : ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)) أخرجه البخاري عن أبي هريرة.
لهذا شدد شرعنا المطهر على ذم قول الزور وشهادة الزور وقائلهما، وتوعده وعيدا عظيما، بل قرن سبحانه في كتابه العزيز بين قول الزور والشرك فقال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِه [الحج:30، 31]، هذا أمر باجتناب الأوثان التي تعبد من دون الله أو تتخذ وسائط، وهو أعظم ذنب عُصي به الله سبحانه، وبعده مباشرة أمر سبحانه باجتناب قول الزور أو شهادة الزور، تلك الشهادة الكاذبة التي لا أساس لها، وهذا الترتيب والجمع بين الشرك وقول الزور يوضح لنا ـ عباد الله ـ خطورة قول الزور، وشدة تأثيره على دين المسلم وعاقبته، لهذا فإن رسول الله الحريص على الأمة والذي جاء ليدلنا على طريق الله ويحذرنا من سبل الشياطين التي يضلون الناس بها وضح لنا هذه الخطورة لهذا الذنب الجلل، وقرنه هو أيضا بالذنوب العظيمة ومن بينها الشرك، كل ذلك لنتبين جلية الأمر، ولنعلم خطورة هذا الذنب، يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي بكرة: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) وكان متكئا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ مع أي الذنوب ذُكر قول الزور لتعلموا خطره، لقد ذكر مع الشرك بالله وعقوق الوالدين، هاتين الكبيرتين اللتين رتب عليهما شرعنا المطهر عقوبات قاسية، وفي هذا الحديث ـ إخوة الإيمان ـ فوائد وأمور تبين لنا عظمة أمر قول الزور الذي يستهين المسلمون به ولا يعدونه ذنبا عظيما، بل هو عندهم من صغائر الذنوب التي يتجاوز الله عنها، وهذا فهم سقيم وحسبان باطل.
من هذه الأمور المستفادة من هذا الحديث والتي تبين خطورة هذا الذنب وعظمته أن رسول الله بادر أصحابه بالكلام قبل أن يسألوه فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟))، وحرصه على إنبائهم بهذا الأمر قبل أن يسألوه عنه يدل على أهمية هذا الأمر وخطورته وتأثيره على دنيا الإنسان وآخرته. ومن هذه الأمور أنه عندما أراد ذكر قول الزور جلس بعد أن كان متكئا، وهذا دليل آخر على عظمة هذا الأمر. ومنها أيضا تكراره لجملة: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟))، ثم تكراره لجملة: ((ألا وقول الزور))، حتى قال الصحابة رضوان الله عليهم: ليته سكت. هذا توضيح وتجلية للأمر لا مزيد عليها ولا إضافة، ومع هذا لا زلنا نسمع عن أقوال ملفقة ووشايات كاذبة يقوم بها من لا يخافون الله ولا يخشون عقابه، ليضروا بها الأبرياء ويروعوا الآمنين، ولا زلنا نسمع عن شهادات الزور التي تُغتصب بها الحقوق وتؤكل بها الأموال بالباطل ويُجرَّم بها البريء ويُبرَّأ المجرم، وهذا الأمر يكثر في الأمة إذا آذنت هذه الدنيا بالرحيل كما أخبر بذلك رسول الله ، فكثرته من علامات الساعة وأمارات القيامة التي ذكر رسول الله في أحاديثه عددا منها، يقول في أحد هذه الأحاديث: ((إن بين يدي الساعة: تسليم الخاصة ـ أي: لا يسلم الرجل إلا على من يعرفه ـ، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم)) أي: كثرته. أخرجه أحمد عن ابن مسعود.
لقد ركن الناس إلى الدنيا، حتى أصبحت غاية الإنسان هو أن يصل إلى أهدافه التي رسمها لنفسه بأي وسيلة: كذب أو تلفيق أو شهادة زور أو اغتصاب حقوق أو غيرها، وكأنه لن يفارق هذه الدنيا إلى لقاء ربه ومولاه، وكأنه لن يوسد التراب وحده في ظلمة القبر ووحشته، ولكن لا بد أن يعلم قائلو الزور والبهتان ولا بد أن يعلم المفترون ولا بد أن يعلم من يشهد بالزور أو يُشهد له بالزور أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن الله هو الحق ولا يقبل إلا الحق، فالحقائق قد تقلب في الدنيا ولكن عند الله وفي الآخرة فإن الأمور لا بد أن تكون كما يريد ويرضى رب العالمين وخالق الخلق أجمعين وقاهرهم، لهذا حذر رسول الله من أنه قد يأتيه متخاصمان فيحكم لأحدهما بأمر ليس من حق هذا الخصم بناء على أقواله، فعلى هذا الخصم أن لا يأخذ ما حكم به رسول الله له لأن العبرة عند الله بحقيقة الأمر لا بالحكم البشري المبني على ظواهر الأمور، أخرج أبو داود عن أم سلمة قالت: قال رسول الله : ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ـ أي: أبلغ في حجته وأفطن ـ فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار))، هكذا يُبرئ نفسه ويُبرئ كل قاض بين الناس بالعدل إذا بذل جهده، يبرئه من أي خطأ مبني على تدليس الأمور أو التلاعب بالألفاظ، ويضع المسؤولية الكاملة على الخصم الكاذب الذي يعلم تمام العلم هل الحق له أم عليه، بل إنه يبين أن هذا الحق الذي قد يحكم به لغير صاحبه هو قطعة من النار، عليه أن لا يأخذها حتى لا يعذب بها، فالحق لا يثبت بفصاحة المحامين وتدليس الوراقين وتزويرهم، وإن ثبت فإنه لا يدوم ولا ينفع صاحبه، وتكون حسرته وعاقبته الوخيمة يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، بل إن قول الزور والعمل به فوق الضرر الذي يلحقه بالإنسان في الدنيا والآخرة فإنه يحبط أعمال المسلم وعباداته، ويجعلها عديمة النفع في ميزان رب العالمين، أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه))، فما فائدة الصوم إذا لم يحفظ المسلم لسانه؟! وكيف يمتنع المسلم عن الطعام والشراب ولا يمتنع عن قول الزور وعن أكل لحوم الناس؟!
هكذا يعلمنا رب العالمين ويعلمنا رسوله الكريم أن هذه الأمور الأخلاقية وهذه الحقوق التي تتعلق بعباد الله مهمة بحيث أن من يهملها يُعرِّض عباداته وأعماله الصالحة للخطر، فمتى نعي هذه الأمور؟! ومتى نحرص على أن نكون عبادا قائمين بالحق وعلى الحق، ساعين إليه باذلين كل ما نستطيع في سبيل إحقاقه وفي سبيل أن لا نضر بمسلم؟! متى نلجم أفواهنا قبل أن تلجم بلجام من نار يوم القيامة؟! إن رسول الله قد بين لنا أن المسلم الحق هو الذي يكف أذاه عن الناس سواء كان هذا الأذى باليد أو باللسان أو غيره، أخرج مسلم عن جابر أن رسول الله قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))، فإذا كان هذا هو المسلم بتعريف نبي الإسلام فكم من المسلمين حقق هذا التعريف وهذا الوصف ليستحق أن يكون مسلما حقا؟!
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم خطورة ما تجر إليه الألسنة من ذنوب وآثام على رأسها كبيرة قول الزور، ولنستمع إلى قول ربنا وهو يثني على عباده المبتعدين عن هذا الذنب وغيره من الذنوب التي حذر منها عز وجل، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم ْلَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْناَ لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:72-76].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإيمان، لا بد لكي نرضي ربنا سبحانه ونفوز بجنته وننجو من ناره وعقابه أن نأتمر بأوامره وننتهي بنواهيه، وأن لا نحقر من الذنوب والمعاصي شيئا؛ لأننا لا ندري أي الأعمال الصالحة قد يقبل منا وينفعنا، وأي الأعمال السيئة قد يوبق آخرتنا ويضرنا، فعدم احتقار المعروف مهما صغر وعدم احتقار الذنب مهما صغر أمر مهم في حياة المسلم، وهو من أهم صفات المؤمن الصادق الطامع في رحمة ربه عز وجل.
ومن الذنوب التي يجب أن لا نحتقرها آفات اللسان؛ ما نتلفظ به ونلقيه من كلام، يقول سبحانه: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، قال أكثر من واحد من السلف: "إن المنهيّ عنه في هذه الآية هو قول الزور".
ارتكاب هذا الأمر ـ إخوة الإيمان ـ مطعن في إيمان الإنسان، فالمؤمن هو من يكون صادقا فيما يقول، أمينا في شهادته، متثبتا متريثا في أقواله، أما عديم الإيمان أو ناقصه فإنه يلقي الكلام كيفما اتفق، ويشهد حتى ولو لم يُستشهد، وهذا هو الفارق الجوهري الذي بينه رسول الله عندما تكلم عن خير الناس وهم القرون الأولى من صحابة وتابعين وتابعيهم الذين كانوا يخافون الله حق الخوف ويتقونه حق التقوى وعن القرون التي بعدها والتي اختلطت فيها الأمور وابتعد فيها الناس عن جادة الحق، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)) أخرجه الشيخان عن ابن مسعود.
هذه ـ إخوة الإيمان ـ من الفوارق المهمة بيننا وبين سلفنا الصالح الذين أمرنا الله سبحانه باتباعهم بإحسان حتى ننال رضوان الله عز وجل الذي وعدنا به في كتابه، يقول سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
فلنتق الله عباد الله، ولنقيد ألسنتنا بشرع الله سبحانه وبذكر الله عز وجل، ففي ذلك السلامة كل السلامة، ولنعمل بوصية رسول الله للصحابي عقبة بن عامر عندما سأله عن النجاة فقال : ((املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) أخرجه الترمذي. فليسعنا ما وسع هذا الصحابي، ولنعمل بهذه الوصية الكريمة.
أسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه فلاحنا في الدنيا والآخرة، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
| |
|