molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: عقوق الوالدين - عبد العزيز بن الطاهر بن غيث / طرابلس السبت 10 ديسمبر - 4:46:20 | |
|
عقوق الوالدين
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث /طرابلس
الخطبة الأولى
وبعد: فقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن أعظم معصية هي معصية الشرك، وتناولنا بعض مظاهره، واليوم نتكلم عن معصية لا تقل خطورة عن معصية الشرك، فقد قرن الله سبحانه وتعالى بينها وبين الشرك في كتابه فقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقرن بينهما أيضا رسول الله فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟! الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور)) أخرجه الشيخان عن أبي بكرة.
نتكلم اليوم عن عقوق الوالدين، هذا الذنب العظيم وهذه الجناية الخطيرة التي تتصدع بها البيوت وتنهار بها الأمم وتحجب بها الرحمات عن الخلق، فما هو العقوق؟
العقوق كما في شرح الترمذي: يقال: عق والده يعقه عقوقا إذا آذاه وعصاه وخرج عليه، وأصله من العق وهو الشق والقطع، فالعقوق في مجمله هو أي أذى يلحق بالوالدين من ولدهما.
وكثير منا إذا سمع لفظة: (الأذى) أو (العقوق) أو غيرها من هذه المعاني يقول: أنا لا أعق والديّ ولا أؤذيهما، ولكن ـ يا عبد الله ـ لست أنت من يحدد الأذى والعقوق، إنما يحدده الشرع ثم يحدده والداك، فهما أدرى بما يؤذيهما، فقد يؤذيهما لفظ أو حركة تذمر أو نظرة، فما بالك بالسب والشتم أو رد الكلام أو الهجران أو تقديم الزوجة والأولاد عليهما؟! فالله المستعان على هذا الأمر العظيم.
ولننظر كيف حدد الشرع هذا الأذى، يقول تعالي: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23]، أفّ كلمة تذمر وتأفف نهى الله عنها في حق الوالدين، كلمة صغيرة تتكون من حرفين، فما بالك بالعظيم من الكلام؟! لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من تقسو عليهما بالكثير من الكلام؟! لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من تصرخ في وجهيهما؟ لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من ترفع صوتك فوق صوتيهما؟! هل هذا هو جزاء شقائهما من أجلك ورعايتهما لك في الصغيرة والكبيرة؟!
إن الوالدين يتأذيان مما لا يخطر على بالك من أمور فاحذر، عن عمارة أبي سعيد قال: قلت للحسن: إلى ما ينتهي العقوق؟ قال: "أن تحرمهما وتهجرهما وتحد النظر إليهما".
تدبروا يا عباد الله، قولة "أف" من العقوق، وأن تحد النظر إليهما من العقوق، إذًا فهل يخلو بيت لدينا من العقوق؟! لا أظن أن بيتا لدينا يخلو من العقوق، اللهم إلا إذا كان هذا البيت بدون أبناء، وإذا كان الأمر كذلك فأين ستنزل رحمة الله؟! وعلى من ستنزل؟!
عقوق الوالدين سرى في مجتمعنا إلى درجة أنك إذا رأيت شخصا بارا بوالديه تعجبت، أصبح الوالد ذليلا أمام ولده بينما المولى يأمرنا بع+ ذلك، فبينما يخبر سبحانه بأن العزة لله وللرسول وللمؤمنين بقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين [المنافقون:8]، فإنه يستثني من هذا في الدنيا موقفا يخفض فيه الإنسان جناح الذل، وهذا الموقف هو موقفه أمام والديه حيث يقول سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].
فهل أنت ـ أيها المسلم ـ ذليل أمام والديك من أجل رضا الله، أم أنك تقف أمامهما بشموخ وترفض طلباتهما وهما اللذان يخفضان لك جناح الذل من الخوف؟! هذه الأسئلة لا بد أن نطرحها على أنفسنا، فالله سبحانه يقول: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، هذه وصية من الله، ووصايا الله واجبة التنفيذ، وإلا عرض الإنسان نفسه إلى سخط الله، والله سبحانه كرر من وصية الولد بوالديه ولم يفعل ذلك مع الوالدين؛ لأن الوالدين يعطيان كل ما عندهما من عطف وجهد ومال للولد دون وصية، فيجوعان من أجل أن يشبع، ويمرضان من أجل أن يشفى، ويشقيان من أجل أن يرتاح، أما الولد فرغم وصايا الله فإنه يجحد نِعَم الوالدين وفضلهما، وكأنه منذ أن ولد ولد مستغنيا عنهما، وكأنه ما تخبط في بطن أمه تسعة أشهر، وكأنه ما رضع من ثديها من أجل أن ينمو جسمه ويشتد عوده، وكأن والده ما شقي من أجله ليلا ونهارا، ينسى الولد كل هذا رغم وصايا الله سبحانه، ورغم أفضال الوالدين عليه، لهذا وصانا الله بالوالدين ولم يوص الوالدين بنا.
ولا شك ـ إخوة الإيمان ـ أن العقوق بجميع أنواعه متمثل فينا، ومنتشر انتشار النار في الهشيم، ففي مجال الضرب ضَرَب بعض الناس آباءهم، وفي مجال الطرد طُرِد الآباء والأمهات من البيوت ووضعوا في دور الرعاية وأبناؤهم أحياء يرزقون، ومن الناس من يتقاسمون ضيافة والديهم، فلا يتحمّل كل واحد منهم والده أو والدته أكثر من أسبوع، وإذا خرج والداه من بيته إلى بيت أخيه أو أخته تنفّس الصعداء، وكأنه أزاح حملا ثقيلا من على صدره، هذا بدل أن يتنافس كل منهم من أجل أن يبقي والديه لديه، وفي مجال السب والشتم فحدث ولا حرج، وفي مجال النفقة ينفق الإنسان منا على زوجته وأولاده وبيته الآلاف من الدنانير، وإذا أراد أن يعطي لوالديه أعطاهما دنانير معدودة يخرجها بصعوبة، ويظن أنه قد وفاهما حقهما، لا، ما وفّيتهما حقّهما، فلا تخدع نفسَك يا عبد الله، ولا تتعب نفسَك بكثرة العمل إذا كنت عاقّا لوالديك، بل سارع إلى إرضائهما والإحسان إليهما؛ لأن عقوقهما من الكبائر ومن المحرمات، يقول : ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) أخرجه الشيخان عن المغيرة بن شعبة.
فيا من تعق أمك من أجل زوجتك أو أبنائك، أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تحملك ثقيلا؟! وأين كان هؤلاء عندما كانت أمك تصرخ من آلام المخاض لتخرج أنت إلى هذه الحياة؟! أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تطعمك الطعام لقمة لقمة وتمضغه وتلينه لك ولا تمل ولا تسأم بل تناغيك وتلاعبك؟! أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تسهر الليل لمرضك وتحزن إن حزنت وتفرح إن فرحت؟! أفتنسى كل هذا بمجرد أن تكبر ويشتد عودك؟! وصدق الله سبحانه: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]. فاتقوا الله عباد الله، وفروا من العقوق فراركم من الشرك؛ لأن العقوق من الذنوب المهلكة.
وللعقوق أسباب نذكر بعضا منها بعون الله، ولعل من الغرابة أن يكون الوالدان اللذان يتعرضان إلى العقوق هما أحد الأسباب الرئيسية فيه، حيث إنهما هما اللذان قاما بتربية هذا الابن العاق وتنشئته، فالابن لا يولد عاقا منحرفا بل يولد صفحة بيضاء، يولد على الفطرة كما قال رسول الله ، ووالداه هما اللذان يقومان بالتأثير عليه وتوجيهه، يقول كما في صحيح الجامع من حديث الأسود بن سريع: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)).
فالتربية السيئة أحد أهم أسباب العقوق، فغالب تربيتنا لأبنائنا فيها خلل، فمنا من يربي ابنه على الدلال الزائد، ومنا من يربيه على الشدة الزائدة على حدودها، ومنا من يربيه على الإهمال بل ويترك تربيته للشارع، ثم إذا كبر الابن وكان عاقا لا يعرف حقوق الوالدين تعجب الوالدان من هذا رغم أنهما هما اللذين زرعا في الابن من حيث لا يشعران هذا الأمر. فيا من تريد ولدا بارا يريحك في كبرك، عليك بتعهده منذ الصغر، تعهده بالتربية كما يتعهد الفلاح النبتة يوما بيوم حتى تصير شجرة مثمرة.
ومن أسباب العقوق غياب الوازع الديني لدى الأبناء، وغياب أهمية بر الوالدين لديهم، فالكثير منا لا يراقب نفسه وتصرفاته وأخلاقياته على ضوء الإسلام، وهل هي ترضى الله عز وجل أم لا؟ بل كلنا يحصر الإسلام في الشعائر فقط، لهذا فهو لا يراقب نفسه في أمر بر الوالدين، ولا يهتم بهذا الجانب، فيضيع حق الآباء والأمهات، وهذا عند الإنسان المصلي المحافظ على أركان دينه، أما عند الإنسان المفرِّط في دينه فالوضع أسوأ من ذلك.
ومن أسباب العقوق المعاملة السيئة من الآباء نحو الأبناء، مثل التفريق بين الأبناء في التعامل وفي العطاء، فهذا يولّد في أكثر الأحيان ردة فعل من الابن نحو الأب أو الأم، يقول فيما أخرجه الطبراني عن النعمان بن بشير: ((اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف))، ومعنى الحديث: أن على الأب أن يعدل بين أبنائه في عطائه لهم، حتى لا يفتح على أبنائه دواعي العقوق، وقد يفعل الوالد هذا الخطأ بحسن نية وبدون قصد، لكنه يفتح بابا للعقوق خاصة لدى المتسرعين والعصبيين من الأبناء، وهذا الخطأ من الآباء ليس مبررا للابن بأن يعصي أباه ويعقه، فالله أمر بالإحسان إلى الوالد في حال الشرك فكيف بما دونها من الحالات؟! يقول سبحانه: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
ومن أسباب العقوق الأساسية أن الأب أو الأم يكون في السابق عاقا لوالديه هو أيضا، فيبتليه الله سبحانه وتعالى بابن يعقه كما كان هو يعق والديه، والجزاء من جنس العمل، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، فعلى كل منا أن يتذكر وهو يعق والديه ويسيء إليهما أنه سيكبر وسيكون له أبناء، فهل يرضى أن يفعلوا به كما يفعل هو بوالديه؟! إن كنا لا نرضى بهذا فعلينا ببر الوالدين حتى يجازينا الله على ذلك بأبناء يبروننا ويكونون قرة لأعيننا وسندا نتكئ عليه عند الكبر.
أسأل الله أن يوفقنا إلى بر الوالدين والإحسان إليهما، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه الطيبين الشرفا.
إخوة الإيمان، أما عقوبة عاق الوالدين فهي عقوبة عظيمة على قدر هذا الذنب العظيم، ومن سمات ذنب العقوق أن فاعله ينال جزاءه في الدنيا قبل الآخرة، فالكثير من الذنوب قد يفعلها الإنسان ولا ينال عقوبتها في الدنيا، بل تكون عقوبتها أخروية، أما العقوق فإن آثاره السيئة يراها الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، يقول فيما أخرجه الطبراني عن أبي بكرة: ((اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين)).
وهذا أمر مشاهد في الحياة اليومية، بل أصبح من المسلّمات، فما من إنسان كان عاقا لوالديه مسيئا لهما إلا وجدت الله سبحانه وتعالى قد أنزل به المصائب والهم والفشل في كل ما يقدم عليه، وكانت حياته حياة نكد وضنك.
كما أن العاق لوالديه مستوجب لسخط الله عليه، وعندما نقول سخط الله فهي ليست كلمة سهلة نرددها، بل هي طامة عظيمة؛ لأنها تعني أن رب السماوات والأرض وخالق الكون الكبير المتعال ساخط عليك أيها العبد الضعيف، فهل لك قدرة على هذا؟! يقول كما في صحيح الجامع من حديث ابن عمر: ((رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما))، فاحذر من سخط الله يا من تفرط في وصايا الله التي أنزلها في كتابه وبلغها لنا على لسان نبيه، احذر فإن سخط الله من سخط الوالدين، بل إن رسول الله أخبر بخزي وخسار مضيع حق الوالدين، أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أوكلاهما ثم لم يدخل الجنة))، ومعنى ((رغم أنفه)) كُره وخُزي وذلّ، نعوذ بالله من ذلك. فالوالدان استنادا إلى هذا الحديث فرصة ذهبية للدخول إلى الجنة لمن عرف كيف يستغلها. فيا من أدركت والديك على قيد الحياة أو أدركت أحدهما، إنك في نعمة قد فقدها كثير من الناس الذين لم يدركوا والديهم أحياء أو مات والدوهم وهم صغار، إنك في فرصة فلا تضيعها، واجعل من والديك جسرا يوصلك إلى الجنة، فإن ضيعت هذه الفرصة فرغم أنفك وخاب سعيك.
ومن عقوبات العاق المُصِّر على عقوقه عدم دخوله الجنة، يقول : ((لا يدخل الجنة عاقّ ولا مدمن خمر ولا مكذّب بقدر)) أخرجه أحمد عن أبي الدرداء. فالعاقّ وفقا لهذا الحديث ممنوع من دخول الجنة؛ لأن المضيّع لحقّ الوالدين هو لما سواه من الحقوق أضيع، نسأل الله السلامة والسداد.
وعاق الوالدين كتبت عليه الشقاوة، فلا سعادة في حياته وإن ظنه الناس سعيدا؛ لأن السعادة ليست ما تراه العين من مال وغنى، بل السعادة شيء في القلب لا يتحصل عليه العاق، بل يكون شقيا شقاوة لا شقاوة بعدها، ورد في تفسير ابن كثير في سورة مريم قال أحد السلف: "لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا"، ثم قرأ: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]. نعوذ بالله من الشقاوة، ونسأله أن يوفقنا إلى بر والدينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك اللهم من سخطك والنار...
| |
|