molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - عبد الرحمن بن علي العسكر السبت 3 ديسمبر - 10:16:44 | |
|
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد الرحمن بن علي العسكر
الخطبة الأولى
أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيُّها النَّاسُ ـ حَقَّ التَّقْوَى، اتَّقُوهُ وَرَاقِبُوهُ حَتَّى تَسِيرُوا عَلَى نُورٍ مِنهُ وَهِدَايَةٍ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ كِتابُ اللهِ المَنْبِعُ الملَيءُ بِالهُدَى وَالحَقِّ، بِهِ يِجِدُ المُسِلمُ نُورًا يُضِيءُ لَهُ طِريقَهُ، وَبِهِ يَجِدُ العَاصِي مَا يَحضُّهُ عَلى التَّوَبةِ وَالرُّجُوعِ وَيُخَوِّفُهُ مِنَ التَّمادِي، وَيَجدُ فِيهِ الكَافِرُ مِنَ الوَعيدِ مَا فِيهِ ذِكْرَى وَتَنْبيه، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22].
إِنَّ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لآيَاتٍ جَدِيرَة بِأَنْ يُوقَفَ عِنْدَهَا طَوِيلاً، وَيُعَادَ النَّظرُ فِيهَا ويُكَرَّرَ التَّأمُّل، يَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].
إِنَّ آيَاتِ القَصَصِ فِي القُرْآنِ جَديرَةٌ بِأنْ يُلْقَى عِندَهَا عَصَا التِّرْحَالِ، وَأَنْ تُعَادَ وَتُكَرَّرَ وَتُؤْخَذَ مِنهَا الدُّرُوسُ وَالعِبرُ، وَيَنْبَغِي أَن لاَّ تَمْضِي دُونَ عِبَرَةٍ وَعِظَةٍ، وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120].
عِبادَ اللهِ، إِنَّ أَكْثرَ مَنْ وَرَدَ الحَديثُ عَنهُمْ فِي القُرْآنِ هُم بَنو إسْرَائيلَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِي قَصَصٍ تُفْزِعُ مَنْ فِي قَلبِهِ إيمَانٌ وَمَنْ يَخَافُ اللهَ، وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةٌ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ، أقَضَّتُ مَضَاجِعَ وَحَرَكَتْ قُلوبًا وََأسَالتْ عُيُونًا، يَقُولُ الله سبُحَانَهُ: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف: 163-166].
عِبادَ اللهِ، إِنَّ حَاصِلَ مَعْنَى هَذِهِ الآيَاتِ هُوَ أَنَّ اليَهُودَ زَعَمُوا لِرَسُولِ أَنَّ بَنِي إسْرَائيلَ لَمْ يَكُنْ فِيهمْ عِصْيَانٌ وَلاَ مُعَانَدَةٌ وَلاَ مُخَالَفَةٌ لَمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنهُ، فَأَمرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْألهم عَنْ هَذه القَرْيةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى البَحْرِ وَهِيَ قَريةُ أَيْلَةَ، وَكَانَ أَهلُ هَذِهِ القَرْيَةِ مِنَ اليَهُودِ، وَكَانُوا أَهلَ صَيدٍ، فَكَانَ اللهُ قَدْ أَمرَهمْ أَنْ يَتَجَنَّبُوا الصَّيْدَ يَومَ السَّبْتِ، وَسُمِحَ لَهمْ أَنْ يَصِيدُوا بَقِيَّةَ الأَيَّامِ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللهُ الحِيتَانَ أَنْ تَغيبَ عَنْ شَاطِئِ البَحْرِ طُولَ الأُسُبوعِ وَلاَ تَخْرُجَ إلاَّ يَومَ السَّبْتِ، ذَلِكَ اليَومُ الَّذِي مُنِعَ الصَّيدُ فِيهِ، فَمَلُّوا مِنْ هَذَا الوَضْعِ فَارْتَكَبُوا المَعْصِيةَ مِنْ أَجلِ الحُصُولِ عَلَى الصَّيدِ، فَحَفَرُوا حُفَرًا عِندَ جَانِبِ البَحْرِ، فَإِذَا سَقَطَتْ فِيهَا الحِيتَانَ يَوم السَّبْتِ أغلقُوا عليهَا بأحجارٍ، فإذا جاءَ يومُ الأحدِ استخرَجُوها وباعوهَا وقالوا: لم نَصِدْ يومَ السبتِ، حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ بَينَهمْ وَمُشِيَ بِهِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَعْلَنَ الفَسَقَةُ بِصَيدِهِ، فَنَهَضَتْ مِنهُم فِرْقَةٌ وَنَهَتْ عَنْ ذَلِكَ وَجَاهَرَتْ بِالنَّهْيِ وَاعْتَزَلَتْ، وَفِرْقَةٌ أُخْرَى لَمْ تَعْصِ وَلَكِنَّهَا لَم تَنْهَ عَنْ هَذِهِ المَعْصِيِةِ، بَلْ إِنَّهم قالُوا للنَّاهِينَ عَنهَا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا. وَكَانَ مِمَّا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنًَّ المُنْكِرِينَ عَلَيهمْ اعْتَزَلُوا أصَحابَ المَعَاصِي حَتَّى إِنَّهمْ قَالُوا: لاَ نُسَاكِنُكُمَ أَبَدًا، فَبَنَوا جِدَارًا بَينَهمْ يَفْصِلُهمْ عَنْهُمْ.
فأصْبَحَ النَّاهُونَ ذَاتَ يَومٍ فِي مَجَالِسِهمْ وَلَم يَخْرُجْ مِنْ أَصْحَابِ المَعَاصِي أَحدٌ، فَقَالُوا: إنَّ للِنَّاسِ لَشَأنًا، فَعَلَوا مِنْ عَلَى الجِدَارِ فَنَظَرُوا فَإِذَا أَصْحَابُ المَعْصِيَةِ وَالسَّاكِتينَ عَنهَا قَدْ قَلَبَهُم اللهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، فَفَتَحُوا البَابَ وَدَخَلُوا عَلَيهمْ، فَعَرفَتِ القِرَدَةُ أَقَارِبَهمْ مِنَ الإِنْسِ وَلَمْ تَعْرِفِ الإنْسُ أَقَارِبَهم مِنَ القِرَدَةِ، فَجَعَلَ القِرْدُ يَأتِي قَرِيبَهُ مِنَ الإِنْسِ فَيَشُم ثِيَابَهُ وَيَتَحَسَّسُهُ وَيَبْكِي، فَيَقُولُ لَهُ الإِنْسِيُّ: أَلمَ نَنْهَكُم؟! فَيَقُولُ القِرْدُ بِرَأسِهِ: نَعمْ. هَكَذَا ذَكَرَ أَهلُ التَّفْسِيرِ هَذِهِ القِصَّةَ وَأسْنَدُوهَا إِلى بَعضِ التَّابِعيِنَ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ النَّاظِرَ فِي قَصص بَنِي إسْرَائِيلَ لَيَرَى عَجَبًا، لَقدْ كَانَ لليَهودِ فِي أوَّلِ أمرِهم شَأنٌ عَظِيمٌ، أثَنَى اللهُ عَلَيهمْ وَمَدَحَهُمْ: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 30-32]، وَلَكِنّ النِّعَمَ لاَ تَدُومَ، وَالشَّرَفَ لاَ يَبْقى مَتَى خَالَفَ النَّاسُ أَمرَ اللهِ سُبْحَانَهُ، والنَّقْصُ أوَّلَ مَا جَاءَ إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ بَسَببِ تَرْكِ الأمْرِ بالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ، فَفِي مُسْنَدِ الإمَامِ أَحمدَ والسُّنَنِ ـ وَهَذَا لَفظُ أبِي دَاودَ ـ عَنْ عَبدِ الله بِنِ مَسْعودٍ رَضَيَّ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ : ((إنَّ أَولَ ما دخلَ النقصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرجلَ فَيَقُولُ لَهُ: اتقِّ اللهَ ودَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لاَ يَحلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلقَاهُ مِنَ الغَدِ فَلاَ يَمْنَعَهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وَقَعِيدَه، فَلَّما فَعَلُوا ذَلِكَ ضَربَ اللهُ قلُوبَ بَعضِهمْ بِبَعْضٍ))، ثُمَّ قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]. يَقُولُ شَيخُ الإسْلاَمِ مَحمدُ بن عَبدِ الوَهَّابِ رَحمهُ اللهُ: "كُلُّ مَا ذُمَّ بِهِ اليَّهُودُ والنَّصَارَى فِي القُرْآنِ فَإِنَّهُ لَنَا".
وَلأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهمُا: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوبِيخًا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 63]. وَيَقُولَ الضَّحَّاكَ: "مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَقْوى عِندِي مِنهَا: أَنَّا لاَ نَنْهَى" رَوَاهُمَا ابن جَرِيرٍ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الأَمرَ بالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَر مِنْ أوْجَبِ الأَعْمَالِ وَأهَمِّ أُمورِ الدِّينِ، ولا قوامَ لدينِ الإسلامِ إلا بالأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكَرِ، وفي القيامِ بهذا الأمرِ منَ الفَضائِلِ الكَثيرةِ وَتَحْصيلِ المنَافِعِ العَامَّةِ والخَاصَّةِ وَدَرْءِ المَفَاسدِ مَا يَدعُو كلَّ عَاقِلٍ إلى الاهْتِمَامِ بِهِ، فَبِهِ تَعْلُو كَلِمَةُ اللهِ وَيَظْهَرُ دِينهُ، وَبِتَرْكِ ذَلِكَ يَضْعفُ الإسْلاَمُ وَأهْلُهُ.
يَقُولُ ابنُ عَقِيلٍ رَحمهُ اللهُ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ القَرْنِ الخَامِس: "مِنْ أَعظمِ مَنَافِعِ الإسْلاَمِ وَآكَدِ قَواعِدِ الأدْيَانِ الأَمرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ وَالتَّنَاصُحُ، فَهَذَا أَشَقُّ مَا يَحمِلُهُ المُكَلَّفُ؛ لأنَّهُ مَقَامُ الرُّسُلِ حَيثُ يَثْقُلُ صَاحِبُهُ عَلَى الطّبِاعِ وَتَنُفُر مِنهُ نُفُوسُ أهْلِ اللَّذَاتِ، وَيَمْقَتُهُ أهَلُ الخَلاَعَةِ، وَهُوَ إِحياءٌ للسُّنَنِ وَإِمَاتَةٌ للبِدَعِ"، إِلى أَنْ قَالَ: "لَوْ سَكَتَ المُحِقُّونَ ونَطَقَ المُبْطِلُونَ لَتَعوَّدَ النَّشْءُ عَلَى مَا شَاهَدُوا وَأَنْكَرُوا مَا لَم يُشَاهِدُوا، فَإِذَا أحْيَا المُتَدَيِّن سُنَّةً أَنْكَرَهَا عَلَيهِ النَّاسُ وَظَنُّوهَا بِدْعَةً".
لاَ بُدَّ مِنَ الأَمرِ بِالمَعْرَوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ إِذَا أرَدْنَا نَجَاةً وَسَلاَمَةً مِنَ العُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 116، 117]. رَوَى ابنُ جَرِيرٍ بِسَندِهِ عِنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: دَخلتُ عَلَى ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا وَالمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: ما يبكِيكَ يَا ابنَ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ: هَؤلاَءِ الوَرَقَاتِ، وَإِذَا هُوَ فِي سُورَةِ الأعْرَافِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ تَعْرِفُ القَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ؟ فَقُلْتُ: تِلْكَ أَيْلَةُ، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لاَ أسْمَعُ الفِرْقَةَ الثَّالِثَةَ ذُكِرَتْ مَعَهُمْ، نَخَافُ أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُمْ؛ نَرَى فَلاَ نُنْكِرُ، فَقُلْتُ: أَمَا تَسْمَعُ اللهَ يَقُولُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ [الأعراف: 166]، فسُرِّيَ عَنْهُ وَكَسَانِي حُلَّةً.
العَاقِلُ ـ عِبادَ اللهِ ـ مَنِ اعْتَبَرَ بِمَنْ مَضَى مِمَّنْ زَالَ أمْرُهُم وَانْتَهَى خَبَرُهْم، لما خَالَفُوا أمْرَ اللهِ وَارْتَكَبُوا مَعَاصِي اللهِ، وَالسَّعِيد مَنْ وُعِظُ بِغَيرِهِ. رَوَى الإمام أحمدُ فِي الزُّهْدِ وَأبُو نَعَيمِ فِي الحِلْيَةِ مِنْ طَريقِهِ عَنْ جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُص وَفُرِّقَ بَينَ أَهْلِهَا فَبَكَى بَعْضُهم إلى بَعْضٍ رَأَيتُ أبَا الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فقلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاء، مَا يُبْكِيكَ في يَوم أَعَزَّ اللهُ فِيهِ الإسْلاَمَ وَأهْلَهُ؟! فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا جُبَيرُ، مَا أَهْوَنَ الخَلْقَ عَلَى اللهِ إذَا هُمْ تَرَكُوا أمْرَهُ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهم المُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فصَارُوا إِلَى مَا تَرونَ.
إِنَّهُ لَيسَ أُمَّةٌ مِنَ الأمَمِ بِمَنْجَاةٍ مِنَ العُقُوبَةِ العَاجِلَةِ، وَذَلِكَ حِينَمَا تَنْقَلِبُ عِندَهَا المَوَازِينُ، فَتُحْيَا البِدَعُ وتُمَاتُ السُّنَنُ، وَيُنْهَى النَّاسُ عَنِ الكَلاَمِ، ألاَ وَإنَّ تَتَبُّعَ رُخَصِ العُلَمَاءِ لاَ يُزِيلُ التَّحْرِيمَ، بَلْ قَدْ يَجْمَعُ عَلَى الفاعِلِ مَعْصِيَتَينِ.
اللَّهمَّ فَقِّهْنَا فِي الدِّين، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.
أقُولُ هَذَا القَولَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ حَقَّ حَمدِهِ، أفْضَلَ مَا يَنْبَغِي لِجَلاَلِ وَجْهِهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيهِ، هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لاَ شَريكَ له، أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وسَلَّم تَسْلِيمًا كَثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيُّهَا النَّاسُ ـ تَقْوَى تَقُودُكُم إلى فِعْلِ الأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي.
عِبادَ اللهِ، الأَمرُ باِلمَعْرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ : ((مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإن لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه، وذلكَ أَضْعَفُ الإيمانِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هَذَا الحَدِيثُ يَسْتَدِلُّ بِهِ النَّاسُ فِي تَرْكِهمُ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِعَدمِ قُدْرَتِهم، وَالحَقِيقَةُ أَنَّ هَذَا الحَديثَ لَمْ يَدَعْ لأيِّ شَخْصٍ مَقَالاً؛ فَإِنَّ مَنْ لَم يُنْكِرِ المُنْكرَ فَإِنَّ قَلْبَهُ خَال مِنَ الإِيمَانِ، يَقُولُ عَبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ مَعْروفًا وَلَمْ يُنْكِرْ مُنْكَرًا) رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ. فَمَنْ لَم يُنْكِرِ المُنْكَرَ بِقَلْبِهِ بَأَنْ يُبْغِضَهُ وَيَكْرَهَهُ وَيَمْقُتَ فَاعِلَهُ فَلَيسَ بِمُؤمِنٍ؛ لِقَولِ الرَّسُولِ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: ((وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلك مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنَ إيماَنٍ)). لِهَذَا كَانَ لِزَامًا عَلَى كُلِّ إنْسَانٍِ أنْ يُنْكِرَ المُنْكَرَ بِقَلْبِهِ، لاَ يَرْضَاهُ وَلاَ يُحِبُّهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ذَهَابِ الإيمَانِ المَذْكُورِ فِي هَذَا الحَدِيثِ.
عِبادَ اللهِ، إنَّ الأمرَ بالمعرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لَيسَ قَاصِرًا عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، بَلْ كُلّ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ وَتَحْتَ مَسْؤولِيَّتِهِ، ((كُلكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))، وَلَو أَنَّ النَّاسَ أصْلَحُوا مَنْ تَحْتَ أيدِيهم أَوْ سَعَوا فِي إِصْلاَحِهِم لأَصْلَحَ اللهُ مَنْ فَوقَهُمْ، رَوَى النَّسائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاودَ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: ((إنَّ الناسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ ـ يَعْنِي: صَاحِبَ المَعْصِيَةِ ـ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعقابٍ منهُ)).
أَيُّهَا النَّاسُ، يَنْبَغِي للمُؤمِنِ أنْ يَلْتَمِسَ رِضَا اللهِ تَعَالَى عَلى كُلِّ شَيءٍ وَإنْ سَخِطَ عَلَيهِ النَّاسُ كُلّهُمْ، كَتَبَ مُعَاويَةُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنِ اكْتُبِي لِي كِتَابًا تُوصِينَنِي فِيهِ وَلاَ تُكْثِرِي عَلَيَّ، قَالَ: فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا إِلى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: سَلاَمٌ عَلَيكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلى النَّاسِ)) وَالسَّلاَمُ عَلَيكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيرُهُ بِسَندٍ صَحيحٍ.
إِنَّ المَلاَمَةَ لَتَزْدَادُ حِينَ يَتْرُكُ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلِيهِ، يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهِ فِي وَصْفِ حَالِ النَّاسِ مَعَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ: "وَمَنْ لَهُ خِبرَة بِمَا بَعثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَبِمَا كَانَ عَلَيهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رَأَى قِلَّةَ دِيَانَةِ النَّاسِ فِي جَانِبِ الأمْرِ والنَّهْيِ، وَأَيُّ دِينٍ وَأَيُّ خَيرٍ فِيمَنْ يَرَى مَحَارِمَ اللهِ تُنْتَهَكُ وَحُدُودَهُ تُضَاعُ وَدِينَهُ يُتْرَكُ وَسُنَّة رَسُولِهِ يُرغَبُ عَنْهَا وَهُوَ بَارِدُ القَلْبِ وَسَاكِتُ الِّلسَانِ؟! شَيطَانٌ أَخْرَسُ كَمَا أَنَّ المُتَكَلِّمَ بِالبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، وَهلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إِلاَّ مِنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ إذََا سَلِمَتْ لَهمْ مَآكِلُهُمْ وَرِيَاسَاتُهُمْ فَلاَ مُبَالاَةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ؟! وَخَيرُهُمُ المُتَلَمِّظُ المُتَحَزِّنُ، وَلَو أَنَّهُ نُوزِعَ فِي بَعْضِ مَا فِيهِ غَضاضَةٌ عَلَيهِ فِي جَاهِهِ أَو مَالِهِ لَبَدَّلَ وَتَبَدَّلَ، وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرَاتِبَ الإِنْكَارِ الثَّلاَثَةَ بَحَسْبِ وسْعِهِ، وَهَؤلاءِ مَعَ سُقُوطِهمْ مِنْ عَينِ اللهِ وَمَقْتِ اللهِ لَهمْ قَدْ بُلُوا فِي الدُّنْيَا بِأَعْظَمِ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ، وَهُوَ مَوتُ القُلُوبِ؛ فَإِنَّ القَلْبَ كلَّمَا كَانَتْ حَياتُهُ أَتَمَّ كَانَ غَضَبُهُ لِلهِ وَرَسُولِهِ أقَوَى وَانْتِصَارُهُ للدِّينِ أَكْمَلَ".
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَالْتَزِمُوا أَوَامِرَ اللهِ تَفُوُزوا وَتُفْلِحُوا.
وَصَلَّوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى...
| |
|