molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: شخصية أسماء بنت أبي بكر - عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي الجمعة 2 ديسمبر - 4:41:58 | |
|
شخصية أسماء بنت أبي بكر
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الخطبة الأولى
من المسلَّمات أن أثرَ القدوة العمليّة لا يعدلها شيء في هذا الباب، فكثيرًا ما تكون المبادئ صحيحة، لكن يحول دون الالتزام بها عدم وجود القدوات في المجالات المتعدّدة، يجسدون المبادئ والأخلاق بأفعالهم لا بأقوالهم، منفّذين لا منظِّرين، وصدق القائل:
ما أقبح التزهيد من واعظ يزهِّد الناس ولا يزهَد
ولقد اصطفى الله لنبيه رجالاً ونساءً رباهم على عينه، وجعلهم منارات هدى يستضاء بها عبر التاريخ، وكلما خلا زمانٌ من القدوات ـ وفعلاً قد خلا زماننا من أمثالهم ـ وعُقمَ النساء أن يلدن أمثال عمر وخالد والمثنى رضي الله عنهم، فما بقي إلا التشبه بهم، كما قيل: وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاحٌ
قدوتنا اليوم امرأة لكنها ليست كالنساء، وقفت مواقف رجولية يعجز عنها الرجال بل عما دونها، قال المتنبي:
ولـو أن النساء كمن فـقدنا لفضِّلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ولا التـذكير فَخـرٌ للهلال
قدوتنا صحابية جليلة كريمة عزيزة أبيّة، ورِثت العزةَ والكرامة من أبيها، وصدق الله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]، وانظر إلى أثر البيت في التنشئة على مبادئ الإسلام وقيَمه، نشأت في بيتٍ أهلُه أعزّاء لا يعرفون الذلّ، كرماء لا يعرفون البخل، شجعان لا يعرفون الجبن، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا تأخذهم في الله لومة لائم، قال أبوها: (أينتَقَص الدين وأنا حيّ؟!)، وذلك يوم ارتدّت العرب بعد وفاة رسول ، وقال بكل عزيمة: (والله، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه). وردّ أخوها على مروان بن الحكم لمّا دعا إلى بدعة وسوّغها بالزعم أنها سنةُ أبي بكر وعمر، فقال: (بل سنّة هرقل وقَيصر). وسترى مواقفها هي كذلك أمام الكفرة والظلمة.
إنها إمرأةٌ جمعت فضائلَ شتى ومزايا جمّة، فأبوها الصديق، وزوجها حواريُ الرسول، وابنها شهيدُ الحق، وهي صاحبة اللقب الشريف: ذاتُ النطاقين، أتدري ما ذاتُ النطاقين؟ أي: ذات الوعاءين، جعلت نطاقها قسمين: أحدهما لحمل طعام رسول الله، والآخر لنقل شرابه يوم اختفى في غار ثور، فقال رسول الله: ((أبدلك الله بنِطَاقِكِ هذا نطاقين في الجنة)).
أما مزاياها ومناقبها:
1- فأولها: أنها من السابقين إلى الإسلام، فقد كان إسلامها بعد سبعة عشر شخصًا دخلوا في الإسلام، وحسبك بها من منقبة عظيمة، قال عنها الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10، 11]، وقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].
2- هي الأمينة المؤتمنة، فقد ائتمنها رسول الله على حياته ثقة بأمانتها، فاتخذ رسول الله قراره الخطير وهي شاهدة، لمّا قرر رسول الله الهجرة وجاء إلى بيت أبي بكر ليخبره قال له: ((أخرج عني من عندك))، فأجاب أبو بكر: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، فلم يعترض رسول الله إقرارًا منه بت+ية أبي بكر لهما، وهذه إشارة من الرسول أن أسماء وعائشة قد ارتفعتا ـ رغم صغر سنهما يومئذ ـ إلى مستوى المسؤولية، فلا حرج من شهودهما اتخاذ القراراتِ الخطيرةِ والمصيريةِ.
وليس أدلّ على هذه الثقة من رضاه لتكون مسؤولة عن تموينهما في فترة الاختفاء واشتداد الطلب لهما من أعدائهما، وهذا أكبر دليل على أمانتها وحفظها للأسرار، بل حتى مع تعرضها للتعذيب تأبى الخيانة، وإليك هذا الدليل: لما علم المشركون بخروج الرسول جنّ جنونهم، وفقدوا صوابهم فهاجوا وماجوا، وفي مقدمتهم عدوُ الله أبو جهل، جاء هائجًا كالثور إلى منزل أبي بكر فقابلته قدوتنا، فلما فتح له الباب، قال: أين أبوك؟ ومتى خرج؟ وإلى أين سار؟ لقد زادته هيجانًا بردها الهادئ: لا أعلم، ازداد غيظًا وأقسم باللات والعزى مهددًا لئن لم تفصحي لنؤذينك، فجاء جوابها أثبت من الأول: لا أعلم، وافعل ما بدا لك، ما كان من النذل الطاغية إلا أن لطمها لطمةً أطارت خرصها من إذنها، وسال دمها ال+ي الطاهر، لكنها لم تبال ولم تضعف، بل زادها قوة وثباتًا، ولمَ نستغرب من ثباتها وأمانتها؟! أليست ابنةَ الصديق؟!
3- من مناقبها أنها كانت معينةً لأبيها في نيل رضا الله، ذابةً عن عرضه أن يمسَ بغير حق، ولو كان من أقرب الناس إليها كأبيه وجدها، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، والعبرة بعموم اللفظ.
وقال القائل:
وظلم ذوي القرى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
فكم صد ذوو القربى عن الطاعة والثبات، ما هو الموقف الذي أخذ منه هذه المنقبة؟ كما هو معلوم عن أبي بكر أوقف كل ماله، بل ونفسه وأولاده لخدمة الإسلام، ولذلك حمل كل ماله في هجرته، فجاءها أبوه وجدها أبو قحافة وقد كف بصره، فقال: والله، إني لأراه قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه، أيّ تثبيط هذا؟! وأي إثارة للمشاعر هذه؟! فهل أثر ذلك في أسماء وخاصة جاءت ممن لا شكّ في حرصه ونصحه لها؟! انظر وتعلّم واقتدِ، عمدت إلى كيس وملأته حجارة ووضعته في المكان الذي كان أبوها يحفظ نقوده، ثم وضعت يده عليه، فقالت: إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، لعن الله الدنيا وقد لعنها رسول الله في عدة أحاديث، كم ثبّطت وأسقطت ونكّست هامات كانت شامخة، نسأل الله الثبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
الخطبة الثانية
4- من مناقبها: أن ولاءها للإسلام كان واضحًا وخالصًا لا دخن فيه ولا لبس، لم تصرفه للطين والتراب، أو الجنس والعرق، كلا، لم توال كافرًا وإن كان أقرب الناس إليها، ولو كانت أُمها التي حملتها وأرضعتها. لمّا فرّق بينهم الإسلام. نعم، ولوكانت أمها، فكيف بمن دونها؟!
اسمع: في مسند أحمد عن عبد الله بن ال+ير عن أبيه قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقُرَظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها، فسألت عائشةُ النبي ، فأنزل الله تعالى: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها. لمّا بيَّن لها رسول الله أن البر والصلة لا دخل له في الولاء الممنوع للكافر أجابتها، أما قبل ذلك فلا؛ لأنها من أهل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، ولماذا تستغرب؟! أليست ابنة الصديق؟!
5- ومن مناقبها: الجراءةُ والصراحةُ وتأييدُ الحقِ ولو كان مُرًا، ففي أيام فتنةِ ابنِها مع الحجاج انْفَضَّ عنه أهلُ المصالحِ والنفعيون والمرتزقةُ، فدخل على أُمّه أسماءَ وقد بلغت المائة من عمرها وعَميت، فقال لها مستشيرًا: يا أماه، خذلني الناس، ولم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدّفع أكثرَ من صبر ساعة، والقومُ يعطونني ما أردتُ من الدّنيا، فما رأيُكِ؟ أي: أن الأعوان خذلوه، والأعداء طمّعوه بالدنيا الفانية الملعونة، فماذا كان جوابُ الحكيمةِ صاحبةِ المبادئ؟ لقد أجابته ـ مع كبرِ سِنها وضعفِ جسمها وذهاب بصرها ـ بنفسية أبيها يوم الردّة عندما رأى تخاذلاً عن قتال المرتدين: (والله، لأقاتلنهم ما استمسك السيف بيدي)، قالت: أنت والله ـ يا بنيّ ـ أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض إليه، فقد قُتل عليه أصحابُك، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكتَ نفسك وأهلكت من قُتل معك، وإن قلتَ: كنتُ على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرارِ ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟! القتل أحسن.
هل سمعتم منطقًا أفضل من هذا في هذا الباب؟! هكذا يكون المستشار أمينًا ولو كانت المشورة مُرّة، فالرسول يقول: ((المستشار مؤمتن))؛ أي: في كتم ما استشير عليه وفي الاجتهاد في إبداء النصح.
إذا المرءُ أرعى واستشارك فاجتهد له النصحَ وأمره بما كنت آتيا
ولقد كانت نعم النّاصح مع إدراكها للعاقبة، فأعجبه ردّ أمّه وقال: هذا ـ والله ـ رأيي الذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت البقاء فيها، وما فعلت ما فعلت إلا غضبًا لله، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرةً مع بصيرتي.
وهناك مناقبُ كثيرة، كالكرم والعفة والشعر والشجاعة المادية، لكني أختمها بشجاعتها الأدبية، فقد ورثت جراءة أبيها وأخيها في الصدع بالحق ومواجهة الظلمة، فلما قتل الحجاج عبد الله بن ال+ير ذكروا أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر فقال لها: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله قد أذاقه من عذاب أليم وفعل به وفعل، فقالت له: كذبت ـ كيف لا تواجه الحجاج وقد واجهت زعيمَ الكفر؟! ومَن الحجاج بجانب أبي جهل؟! ـ قالت: كذبت؛ كان برًا بالوالدين صوامًا قوامًا، ولكن ـ والله ـ لقد أخبرنا رسول الله أنه سيخرج من ثقيف كذابان، الآخر منهما شرّ من الأول، وهو مبير. وقال الحجاج لأسماء بعد قتل عبد الله: كيف رأيتني صنعت بابنك؟ ـ انظر إلى هذه الصفاقة والجراءة على صحابي ابن صحابي ابن صحابيّة حفيد صديق الأمة ـ فقالت له ـ ما دام أن الجراءة وصلت إلى هذا الحد ـ: أفسدتَ عليه دنياه، وأفسدَ عليك آخرتَك.
| |
|