molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: نعيم الجنة - عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي الجمعة 2 ديسمبر - 4:39:19 | |
|
نعيم الجنة
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الخطبة الأولى
أيّها الإخوة، في سنن أبي داود وابنِ ماجه أن النبي قال لرجل: ((كيف تقول في الصلاة؟)) قال: أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي : ((حولها ندندن)). إي وربي، ونحن حولها ندندن، فلها ومن أجلها نصوم ونصلي ونتصدق ونبذل ونجاهد وندعو ونتحمل ونصبر، أليس كذلك؟! بلى.
إنها الجنة وما أدراك ما الجنة؟! ما صفاتها؟! ما نعيمها؟! ما أحوال أهلها؟! مهما قلنا عنها فلن نوفيها حقّها ولن نستطيعَ وصفها، ورغمَ ما وُصف لنا في القرآن وفُصّل في السنة فإن نعيمَها ما زال مبهمًا لنا؛ لأن فيها ما لا يوصف وما لا تستوعبه عقولنا، بل فيها ما لم يخطر على قلب بشر أصلاً، يقول تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17].
أخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن النبيّ قال: ((قال الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ذخرًا، بلْهَ ما أطلعكم الله عليه)). معناه: دع عنك ما أطلعكم عليه، فالذي لم يطلِعكم عليه أعظم، وكأنه أضرب عنه استقلالاً له في جنب ما لم يُطلِع عليه، وحتى ما ذُكر لنا مما نعلمه فإن حقيقتَه ولذته ومتعته تختلف تمامًا عما نظن ونعتقد، يقول ابن عباس : (لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء).
أيها الإخوة، إنه لا وجه للمقارنةِ بين نعيمِ الدنيا ونعيم الآخرة، ولكن نعقد هذه المقارنة السريعة اقتداءً بالقرآن، ثم لنعلمَ ضآلةَ هذه الدنيا الفانية التي كثيرًا ما نؤثرها على النعيم الحقيقي:
أولها: إن متاع الدنيا قليل من حيث الكمّ، فكم من آية نوّهت بذلك كقوله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، وقوله: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]. كم ننبهر عندما نسمعُ أو نرى ما يملكه ثريٌّ من الأثرياء، فضلاً عن ملك من ملوك الدنيا، فيسيل لعابُنا، فإن كان من أهل الدنيا كان لسان حاله بل مقاله كما قال الله: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79]، والعاقبة إمّا أن يحسده، وإما أن يتحسر. أما إن كان من أهل العلم بالآخرة قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، وتمثّل قول الله في الرد على أولئك المنبهرين بقارون: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ [القصص:80].
وإذا أردت ـ يا عبد الله ـ أن تدركَ حقارةَ الدنيا ونعيمها فتذكر حديث رسول الله الذي ذكر أن أدنى أهل الجنة نعيمًا من يملِك عشرةَ أمثالِ مُلكِ مَلِكٍ من مُلوكِ الدنيا، أخرج مسلم عن المغيرة أن رسول الله قال: ((سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، وكيف وقد نزل الناسُ منازلهم وأخذوا أَخَذَاتِهِم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلكِ ملِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: لك هذا وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال ـ أي: موسى ـ ربّ: فأعلاهم منزلة؟! قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17])).
الله أكبر، هذا أدنى أهلِ الجنة، ما أجد قولاً أتمثّله إلا قول علي يوم خاطب الدنيا الفانية وهو خليفة يملكها: (يا دنيا، غُري غيري، أليَ تزيّنتِ أم إليّ تَشوّفتِ، طلّقتُك ثلاثًا).
أمّا الكيف والنوعية فمهما اتّفقت الأسماءُ فشتان بين الثّرى والثريا، قارن على سبيل المثال بين خمر الدنيا والآخرة لتعلم ذلك، فقد ذكر الله الخمر ونزّهها من عيوب خمر الدنيا وما تسبّبه من أمراض وصداع وهذيان فقال: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15]، وقال: لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:47]، وقال: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، يقول ابن عباس : (في الخمر أربعُ خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال).
أيها الإخوة، نعيم الدنيا مهما فيه من متعة فهو مشوب بالمكدّرات والمنغّصات التي تقلّل من قيمته، فكم من صاحب ملايين شقِيَ ويتمنّى لو يأكل كِسرةَ خبز كما يأكل الفقير المعدم بلذة ومتعة.
الهَمُ والحُزنُ من أعظم المنغصات، لذلك كان الرسول يتعوّذ منه: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحُزن))، إذا كان كذلك فكم من الناس يُظن أنهم يعيشون في سعادة وهم يعيشون في كدر، فكم من مَلِك أو رئيس يعيش في همّ وغمّ يخشى على ملكه أن يزول، وكم من صاحب منصب مهموم يعيش في هلع وخوف يخشى أن يزول منصبُه، وكم من تاجر غنيّ يخشى الخسارة، فالهواجسُ وشبحُ الإفلاسِ تكدِّر عليه حياته، وكم من امرأة جميلة تخشى أن تذبلَ وتذهبَ نضارتُها فتلفظ لفظ النواة، وكم من فتًى صحيح البدن معافى يخشى الموتَ أو المرضَ، وكم وكم من أصناف الناس هم كذلك، يظَنّ أنهم سعداء في الظاهر وهم تعساء في الباطن.
أما نعيم الآخرة فهو منزهٌ ومطهّرٌ من جميع المكدرات والمنغصات الحسية والمعنوية، فليس في الجنة أحقادٌ ولا ضغائنُ ولا حسدُ ولا مؤمرات بع+ الدنيا، فما من صاحب نعمة إلا وهو محسود أو محقود عليه، أما في الجنة فكلٌ راض وقانع بنصيبه، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، وفي الحديث قال رسول الله : ((إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذن لهم بدخول الجنة))، وجاء في الصحيحين في صفة أهل الجنة: ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد)).
وكذلك نُقُّوا من الشوائب الحسية فلا بول ولاغائط، ولا بصاق ولا مخاط، ولا عرق ولا روائح كريهة، أما الفضلات فقد أجاب عنها الرسول لمّا سئل عنها، ففي مسلم عن جابر قال: قال رسوالله : ((إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يتغوطون ولا يمتخطون))، قالوا: فما بال الطعام؟ سؤال بريء، فالإدخال يقتضي الإخراج، نعم هناك إخراج لكن ما هو؟ أجاب : ((جشاء كجشاء المسك)). لا إله إلا الله، تحوَّل الجُشاءُ المكروه في الدنيا إلى روائح عطريةٍ عبقةٍ كالمسك.
ونُقّوا من الحيضِ والنفاسِ، وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25]، قالوا: من الحيض ونحوه.
ونُزّهوا من النوم والنعاس، قال رسول الله : ((النوم أخو الموت، ولا ينام أهل الجنة))، والنوم دليل التعَب والحاجة للراحة، وأيّ تعب هذا في الجنة؟! اعلم أن الجنة ليس فيها إلا الراحة والمتعة، أما التعبُ والنّصبُ فقد ولّى زمانُه في الدنيا، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].
وكذلك زالَ الخوفُ من الهَرم والدمامة، فالجنة ليس فيها عجايز ولا دِمام، ما فيها إلا فِتيان جمال، يزدادون كلَ أسبوع نضارةً وجمالاً على جَمالهم الأصليِ الذي قال عنه الرسول في الحديث الصحيح عند أحمد والترمذي: ((يدخل أهل الجنة جردًا مردًا، كأنهم مكحّلون، أبناءَ ثلاث وثلاثين)).
أما الزيادة فقد روى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله : ((إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشَمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله، لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم ـ والله ـ لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً)).
أعوذ بالله بالله من الشيطان الرجيم، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
الخطبة الثانية
أيها الإخوة، أما الفرقُ الرابعُ بين النعيمين فإن متاع الدنيا زيادةً على أنه قليلٌ فهو زائلٌ وفانٍ، وإن لم يَزُل زُلتَ أنت عنه إذ لا خلودَ لأحد، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]. نظر ابن مطيع رحمه الله ذات يوم إلى داره فأعجبَه حُسنُها، ثم بكى فقال: "والله، لولا الموت لكنت بكِ مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرَّت بالدنيا أعينُنَا".
أما متاع الآخرة فهو دائم وخالد، فكم من آية قال الله فيها وهو يتكلم عن الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا، بل كثيرًا ما يزيد التأكيدَ بقوله: أَبَدًا، كما أخبرنا بأنه لا أهل الجنة يموتون ولا أهل النار، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:51-57]، وقال عن الآخرين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36].
وما يزال أهل الجنة يخافون أن يَحُولَ الموتُ بينهم وبين هذا النعيم، وما يزالُ عند أهل النار أملٌ في الخروج من عذاب الجحيم، حتى يقعَ حدثٌ عظيمٌ، فيزادُ أهلُ الجنةِ غبطة وأمانًا، ويزادُ أهلُ النارِ حَسرةً وندامةً، أتدري ما هو؟ اسمع كلامَ المعصوم في الصحيحين عن أبي سعيد قال: قال رسول الله : ((إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهلُ النارِ النارَ يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الحنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، ويقولون: هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبحُ، ويقال: يا أهلَ الجنة خلود ولا موت، ويا أهلَ النارِ خلودٌ ولا موت)).
أيها الإخوة، الحديثُ عن الجنة حديثٌ طويلٌ وذو شجون، فليس هو حديثٌ عن جنة واحدة بل عن جنان، كما قال رسول الله : ((يا أم حارثة، إنها ليست بجنة واحدة، ولكنها جنان كثيرة، وإن حارثةَ لفي الفردوس الأعلى)) أخرجه البخاري.
ونعيمُها ليس نعيمًا واحدًا، بل أنواع كثيرةٌ ومتعددةٌ ومتشعبة، مختلفةٌ ومتشابهة: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، فمنه المنظور ومنه المشموم، ومنه المأكول ومنه المشروب، ومنه المنكوح ومنه الملبوس ومنه المفروش، ومنه ومنه..
والناس في هذا النعيم متفاوتون كما بين السماء والأرض نوعًا وكمًا، ففي البخاري: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة))، وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي قال: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)).
| |
|