molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الغيبة (1) - سلطان بن حمد العويد الأحد 13 نوفمبر - 6:10:47 | |
|
الغيبة (1)
سلطان بن حمد العويد
الخطبة الأولى
أما بعد, فيا أيها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في خطب سابقة عن بعض آفات اللسان، وهو القول على الله بغير علم، والفتوى بغير علم، والخوض في مسائل الشريعة بالهوى، وحديثنا اليوم عن مرض هو أكثر شيوعًا، بل هو مرض العصر، وآفة الآفات لم يسلم منه الصالحون فضلاً عن الطالحين، إنه الغيبة، فاكهة المجالس!
وقبل الشروع في المقصود فإني أحذر نفسي، وأحذر إخواني المسلمين من أن يكون قولنا وسماعنا لموضوع الغيبة من باب رفع الرصيد الثقافي أو العلمي، إياك إياك أخي المسلم أن تعتقد أن الحديث موجه لغيرك، أو أنك أنت سالم من هذا المرض، فتسمع عن رسولك أن سامع الغيبة دون إنكار إنما هو مشارك للمغتاب، قولوا لي بربكم: أينا اليوم يسلم من قول الغيبة أو سماعها، لما كان موضوع الغيبة من أهم الأمراض، ومن أكثرها خطرًا وشيوعًا؛ سنتحدث عن هذا المرض بشيء من التفصيل، وقد نستمر في موضوع الغيبة أكثر من خطبة واحدة.
يقول المولى جل وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ٱلظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12] هل من وقفة يا عباد الله؟ هل من وقفة مع هذه الآية؟ إن الله تعالى يقول وينادينا بنداء الإيمان: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْالمؤمنون أيها الإخوة مراتب، فخف على نفسك يا عبد الله أن تكون ممن آمن بلسانه ولم يخالط الإيمان قلبه، ثم بعد ذلك أطلق لسانه يرتع في أعراض المسلمين، فقد روى البراء بن عا+ عن نبينا أنه قال: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
تأمل أخي المسلم، تأمل معي في هذه الآية العظيمة جيدًا، لقد شبه الله جل جلاله المغتاب بالذي يأكل لحم أخيه المسلم، ومتى؟ بعد أن مات، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ "مثل الله الغيبة بأكل الميتة؛ لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي إذا اغتيب لا يعلم بغيبة من اغتابه". ما أبشع ذلك المنظر! وما أسوأ تلك الصورة! إنها صورة المسلم المنهمك في أكل لحم أخيه المسلم الذي فارق الحياة.
جاء عن رسولنا في أمر الغيبة ما تقشعر منه الأبدان، وترتعد منه الفرائص، وقبل ذكر النصوص عن نبينا نُذَكِّر إخواننا المؤمنين ـ بعد أنفسنا ـ بأن الله لا يُخدع ولا يتحايل عليه؛ لأن بعض المسلمين بل أكثر المسلمين الواقعين في الغيبة ربما فسروا أقوالهم وأفعالهم بأنها ليست غيبة، فنقول لهم: إن معنى الغيبة ليس فيه خلاف حتى نختلف في معناها؛ لأن الذي عرف الغيبة وفسرها هو رسول الله ، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) قيل: أريت إن كان في أخي ما أقول، قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)).
وعن المطلب بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((الغيبة: أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه)) حديث صحيح في السلسلة الصحيحة.
ومع هذا التعريف النبوي الصريح ـ الذي لا مجال فيه للّبس ـ نقول للمغتاب الذي يقول: إني لم أذكر فلانًا إلا بما فيه فلماذا تنكرون علي؟! نقول: إنك الآن تعترف بأنك مذنب مغتاب، فهذه غيبة واضحة، والرسول لم يجامل ولم يتسامح في موضوع الغيبة حتى مع أقرب الناس إليه، انظر إلى هذا الحديث: عمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما، من أقرب أصحاب النبي إلى نفسه عليه الصلاة والسلام، روى الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضًا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجلٌ يخدمهما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعامًا، ـ الأصل أن يكون الخادم قد استيقظ وهيأ الطعام لمن يخدمه، لكن هذا الرجل لم يصنع ـ قام أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يجداه قد استيقظ، فقال أحدهما لصاحبه: (إن هذا ليوائم نوم بيتكم) يعني قالوا: كأن هذا الرجل نائم في البيت لم يعد لنا شيئًا فكأنه نائم في البيت (إن هذا ليوائم نوم بيتكم) فأيقظاه فقالا: إئت رسول الله فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، ـ يطلبان الإذن ليأكلا ـ فقال رسول الله : ((قد ائتداما)) ففزع أبي بكر وعمر رضي الله عنها فجاءا إلى رسول الله فقالا: يا رسول الله، بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: ((قد ائتداما)) فبأي شيء ائتدمنا؟ قال : ((بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إن لأرى لحمه بين أنيابكما)) وفي رواية قال: ((إني أرى لحمه في ثناياكما)) فقالا ـ أي أبو بكر وعمر ـ فاستغفر لنا يا رسول الله، قال: ((هو فليستغفر لكما)) حديث صحيح.
أيها الإخوة المؤمنون، ماذا قال أبو بكر؟ وماذا قال عمر؟ تكلم أحدهما والآخر يسمع، لم يقولا إلا كلامًا يسيرًا, نحن نقول اليوم أعظم منه، قال أحدهما: (إن هذا ليوائم نوم بيتكم) أي إن نومه ونحن في سفر كأنه نائم في البيت، وفي هذا تعريض له بكثرة نومه، فإن أكثر ما نقول أيها الإخوة المؤمنون أشد من هذا، ومع ذلك لا نشعر أبدًا بأننا قد أخطأنا.
هاكم أيها الإخوة المؤمنون، هاكم جملة من أحاديث رسول الله ؛ علَّها توقظ القلوب، علَّها توقظ القلوب وتخيف الأفئدة والله المستعان، روى الحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم)) أشد من الربا عرض الرجل المسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي : (حسبك من صفية كذا وكذا) تصف صفية رضي الله عنها زوج النبي وضرة عائشة، تصفها، قال بعض الرواة: إن عائشة تعني أنها قصيرة، ما أكثر ما نقول: فلان قصير، فلان طويل، فلان متين، وفلان فيه وفيه، فقال ـ بعد أن سمع قولها ـ: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح.
وروى أبو داود وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله : ((لما عرج بي ربي عز وجل ـ يعني إلى السماء ـ مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) حديث صحيح.
وعن جابر قال: كنا عند النبي فهبت ريح منتنة فقال : ((أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)) ما أنتنها والله من ريح، وهذا حديث حسن..
وعن أبي هريرة قال: جاء الأسلمي ـ الذي زنا في عهد النبي ـ فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: (أتيت امرأة حرامًا) وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله ، فذكر أبو هريرة الحديث إلى أن قال : ((فما تريد؟)) يعني الأسلمي، ما تريد بهذا القول؟ قال: يا رسول الله أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله أن يرجم فرجم، فسمع النبي أثناء الرجم رجلين من الأنصار، ماذا قالا؟ يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، قال أبو هريرة فسكت رسول الله ، ثم ساروا، قال أبو هريرة: ثم سار عليه الصلاة والسلام ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: ((أين فلان وفلان؟)) يعني الأنصاريين، قالا: نحن ذا يا رسول الله، قال لهما: ((كلا من جيفة هذا الحمار)) فقالا يا رسول الله: غفر الله لك من يأكل من هذا! فقال رسول الله : ((ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفًا أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها)) رواه ابن حبان، وهو حديث صحيح.
ماذا يقول المسلم بعد هذه النصوص؟ لعله يدور في ذهنك أخي المسلم تساؤل فتقول: لعلي أعتزل الناس، لعلي لا أخالط أحدًا أبدًا حتى أسلم من قول الغيبة ومن استماعها، فنقول لك: لا، ولكن اعرف طريق النجاة ثم اسلكه وجاهد نفسك، والله جل وعلا يقول: وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
فالانزواء والعزلة ليسا حلاً شرعيًا لترك الغيبة.
وبعد هذه النصوص الواضحة لم يسع علماء الإسلام إلا أن يجمعوا إجماعًا بأن الغيبة من كبائر الذنوب.
يقول القرطبي رحمه الله: "والإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى".
نسأل الله جل وعلا أن يعافينا وإياكم من الغيبة إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد, فيا عباد الله، لماذا يغتاب المسلم إخوانه المسلمين؟ ولماذا ينهش لحومهم وهو يعلم حرمة الغيبة؟! وهو يسمع التشبيه القرآني الفظيع للغيبة!.
لا بد أيها الإخوة من وجود أسباب تؤدي إلى وقوع المسلم في هذا الذنب العظيم.
أول هذه الأسباب: ضعف الإيمان، وضعف اليقين بموعود الله، وبدون الإيمان بالغيب وتخلخل عقيدة المسلم تجاه الإيمان باليوم الآخر، صارت الغيبة نوعًا من أنواع المحرمات الكثيرة التي تساهل المسلمون فيها أيما تساهل، لقد صار المؤمن الصادق لا يستغرب الغيبة من بعض المسلمين، لماذا؟ لأنهم وقعوا في ما هو أشد منها, من تضييع للصلوات وتضييع للمسئوليات ومجاهرة بأعظم المنكرات، نسأل الله العافية.
ومن أعظم أسباب الغيبة أيضًا: التشفي، وإظهار الغيظ، ما ضرك أخي المسلم حينما تغتاظ من أحد إخوانك المسلمين الذين لم يحضروك، لم يكونوا معك في نفس المكان، لو كظمت غيظك عنه، فإن الغضب والله مهلكة في كثير من الأحيان، إذا غضبت أمسك لسانك، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، تذكر قول الله جل وعلا: وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَٱلضَّرَّاء وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَـٰفِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
تذكر قول رسولك : ((من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء)) حديث صحيح.
ومن الأسباب أيها الإخوة، الحسد، الحسد نسأل الله المعافاة منه، فإنه ربما أثنى الناس على شخص كان هذا الممدوح من الذين يلقون قبولاً عند الناس، ومحبة واحترامًا، فإذا سمع الحاسد ذلك احترق قلبه، فلا يجد إلا الغيبة ينفس بها عن حسده وحقده، فقاتل الله الحسد وأهله، وإنه من المؤسف حقًا أن يدخل الحسد حتى بين المنتسبين للعلم، والمنتسبين للدعوة إلى الله، فتجد بعضهم يطلق لسانه في أعراض العلماء والدعاة والمصلحين، بغير حق وبغير برهان, ولكنه الحسد أحرق قلبه فظهر الأثر على اللسان.
اعلموا أيها المسلمون أن كلام الحاسدين، في غيرهم بغير حق إنما هو رفعة للمتكلم عليهم، وبرهان صادق واضح على وضع القبول لهم في الأرض.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسودِ
وقال الآخر:
لا مات أعداؤك بل خلدوا حتى يروا فيك الذي يكمدوا
لازلت محسودًا على نعمة فإنما الكامـل مـن يحسـد
ماذا على الحاسد أيها الإخوة، ماذا عليه لو كف لسانه عن إخوانه، ولكن لخبث نفسه وضعف يقينه، وضعف توكله وإيمانه بالقضاء والقدر، أطلق لسانه في إناس رفع الله شأنهم وأحسن أمرهم، وامتلأت قلوب الناس بمحبتهم، كون الحاسد لم ينل مثل ما نالوا، هذا أمر بيد الله، إن الله عز وجل يؤتي فضله من يشاء سبحانه وتعالى، فلماذا يحسد المسلم أخاه المسلم؟! وإذا حسده لماذا لا يسكت؟! هل يزيد الأمر سوءًا بأن يغتاب، والله ما يضرون المحسود، وصدق الذي قال:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيـه فالقـوم أعداء له وخصوم
كضرار الحسناء قلن لوجههـا حسدًا وبغيًا إنـه لذميـم
ومن أسباب الوقوع في الغيبة: إرادة المغتاب أن يرفع نفسه عند السامعين، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا بالإنتقاص من الآخرين، سبحان الله، فيقول مثلاً: فلان جاهل، لماذا؟ ليبرز هو علمه، ويقول: فلان بخيل؛ ليبرز كرمه، وهكذا، وهذا المغتاب يجمع بين خطيئتين هما الغيبة والعجب والرياء والسمعة. نسأل الله العافية.
ومن أسباب الغيبة يا عباد الله، موافقة القرناء والجلساء ـ مجاملة لهم ـ ممن يتفكهون في أعراض المسلمين ويلهون ويلعبون بالأعراض، فيخشى المغتاب إذا أنكر عليهم أو قطع كلامهم، أو لم يوافقهم ويبتسم في وجوههم أن يستثقلوه وينفروا منه ولا يحبوا مجالسته.
ومن الأسباب أيضًا: الفراغ القاتل, ولا يليق بمسلم أبدًا أن يكون فارغًا، فلا يجد المغتاب أحيانًا ما يشغل به نفسه إلا الغيبة، نسأل الله المعافاة.
ومن أسباب الغيبة: التقرب والتزلف لدى الوجهاء والأغنياء والملأ، وذلك طمعًا في عطاياهم وإرضاء أهوائهم، وهذا ذنب عظيم.
ومن أعظم الأسباب، وأكثرها شيوعًا في المجتمعات الإسلامية الغيبة من أجل اللعب والهزل وما يسميه الناس بالتنكيت، وهذا فسق، ليس تنكيتاً، هذا فسقٌ لا يليق إلا بأراذل الناس، فمتى أيها الإخوة كانت الغيبة المحرمة سببًا في الترويح عن النفس، وفي إذهاب الملل والسآمة كما يقولون، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كلام متين نفيس له في هذا الأمر، في المجلد الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى، فقال رحمه الله: "فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة، وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم".
وقال رحمه الله: "ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله".
إذاً أنت تغتابه. هذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
ما أكثر ما يقول بعض الناس: والله لا نريد أن نغتابه لكن فيه كذا، إذاً اغتبته، اسكت من الأصل، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "يقول ذلك الرجل: ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين أو رجل جيد لكن فيه كيت وكيت", هل كلمة جيد مقدمة فقط؟ مقدمة حتى يبدأ الذي بعدها، يقول: رجل جيد لكن فيه كيت وكيت. يقول شيخ الإسلام: "وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله"، ماذا يقصد؟! يقول شيخ الإسلام: "وإنما قصده استنقاصه وهضم جنابه، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقًا، وقد رأينا منهم ألوانًا كثيرة من هذا وأشباهه".
ثم قال عليه رحمة الله: "ومنهم من يقول: لو دعوت الله البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه كيت وكيت، أو يقول: فلان بليد الذهن قليل الفهم، وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته وأنه أفضل منه" قصده مدح نفسه وإثبات معرفته هو وأنه أفضل من المغتاب.
ومنهم من يحملهم الحسد على الغيبة؛ فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب ديانة وصلاح، أو في قالب حسد، يقول شيخ الإسلام: "وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر، ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت، ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت، وكيف فعل كيت، فيخرج إثمه في معرض تعجبه.
ومنهم من يخرج الاغتمام، فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له، وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطوي على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عنده أعدائه ليتشفى به".
سبحانه الله، انظر إلى هذا الكلام، يقول شيخ الإسلام: ربما يأتي المغتاب ويذكر الذي اغتيب عند أعدائه ليتشفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب، والمخادعات لله ولخلقه.
قال رحمه الله: "ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر، والله المستعان" انتهى كلامه رحمه الله.
أيها الإخوة المؤمنون، ما حكم استماع الغيبة؟ وما موقف المسلم إذا سمع أحدًا يغتاب، ولو كان أقرب الناس إليه، لو كان أبوه المغتاب، ماذا يقول؟ هل هناك علاقة بين الغيبة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ومتى تباح الغيبة؟ هل هناك حالات تباح فيها الغيبة؟ وكيف يتوب المغتاب؟ وكيف تعالج الغيبة في المجتمع وفي الأنفس إلى غير ذلك من التساؤلات.
هذا ما سنبينه إن شاء الله تعالى في خطبة قادمة، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
| |
|