molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الأمن وعبرة من التاريخ - سعيد بن محمد الغامدي السبت 12 نوفمبر - 9:49:02 | |
|
الأمن وعبرة من التاريخ
سعيد بن محمد الغامدي
الخطبة الأولى
عباد الله، أمام الأحداث المؤسفة التي تقع في بلاد المسلمين من حولنا، أذكر نفسي وإياكم بنعمة جليلة، هذه النعمة هي مطلب كل أمة وغاية كل دولة، من أجلها جندت الجنود، وفي سبيلها قامت الصراعات والحروب.
إنها نعمة الأمن، التي كانت أولَ دعوةٍ لأبينا إبراهيم، حينما قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، فقدّم إبراهيم نعمة الأمن على نعمة الطعام والغذاء؛ لعظمها وخطر زوالها. ووالله، إن أشهى المأكولات وأطيبَ الثمرات لا تُستساغ مع ذهابِ الأمن ونزولِ الخوف والهلع.
إن نعمة الأمن تمثل ثلث متاع الدنيا للإنسان؛ لأن متاعها في نعم ثلاث: الصحة والأمن والطعام؛ فنعمة الأمن مع العافية والرزق هي الملك الحقيقي للدنيا، أخرج الترمذي وابن ماجه عن عبيد الله بن محصنٍ الأنصاري عن النبي قال: ((من أصبح منكم آمنا في سربه -أي: نفسه- معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)) حسنه الألباني.
عباد الله، الأمن والإيمان قرينان، فلا يتحقق الأمن إلا بالإيمان، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. وإذا تخلى أبناء المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم أحاطت بهم المخاوف، وانتشرت بينهم الجرائم، وهذه هي سنة الله في خلقه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
وإن فقدان هذه النعمة يفقد الحياة كل معنى جميل وكل طعم رائق، فتصبح جحيما لا يطاق، لا يعرف المرء حين يصبح فيها هل يمسي، أو حين يمسي هل يصبح، فلا هو يأمن على مال، ولا أهل ولا عرض، تراه معذب القلب مشتت البال، لا يقر له قرار ولا يهنأ له عيش، كما وصف الله تعالى حال المسلمين في مكة: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
إن الأمن الذي نعيشه ونتفيأ ظلاله إنما هو منحة ربانية ومنة إلهية، مربوطة بأسبابها ومقوماتها، والتي من أعظمها إقامة شرع الله وتنفيذ حدوده وتحقيق عقيدة التوحيد ومناصرتها والدعوة إليها.
وقد منَّ الله على هذه البلاد بنعمة الأمن والشريعة الإسلامية، فولاة أمرها -وفقهم الله- جعلوا دستورها كتابَ الله وسنةَ رسوله ، ترجعُ إليهما المحاكمُ الشرعية في أمور الناس التي يختلفون ويتنازعون فيها، ولكن بعض الناس ممن لم يُقدِّر النِّعَم حقَّ قدرها، وممن تأثَّر بما يرى ويسمع من المُؤثِّرات الضارَّة، وممن أغمضَ عينيه عن الحقائق، وصمَّ أُذنَيْه، ولم يتفكَّر في عواقب الأمور؛ يريدون أن تتغيَّر البلاد ومن عليها، ويسعَون لفتح أبوابٍ من الفتن تُهلك الحرثَ والنَّسْلَ، وتجلِبُ الكوارِثَ على البلاد والعباد، حيث دعوا إلى ثورةٍ على راية "لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله"، وعلى الخروج على دولة الحرمين.
عباد الله، المُظاهرات الغوغائية لا محل لها في بلادنا بلاد التوحيد؛ لأن الشريعة الإسلامية هي المُهيمِنة على البلاد، وهناك فرقٌ بين من يدعو إلى التوحيد وبين غيره، وبين من يُشفِقُ على شعبه ويُحبُّ لهم الخيرَ ويُقدِّم لهم ما ينفعهم وبين من يقتُل شعبَه.
فلا تقيسوا بلادكم بغيرها، والواجبُ أن نكون عند القلاقل والفتن يدًا واحدةً لنُحافِظ على ديننا ووحدة وطننا ومصالحنا؛ فإن المُتربِّصين يتمنَّون اليوم الذي تختلفُ فيه الكلمةُ ليركبوا الموجَة، ويُنكِّلوا بالدين، ويُقطِّعوا أوصال البلاد، فإنهم ينظرون إلى اختلاف الكلمة كما تنظُر النُّسُور إلى اللحم، ولكم عِبَرٌ كثيرة في تاريخ المسلمين.
وإن من تلك العبر التي سطرها التاريخ ما وقع في ولاية ثالث أمراء بني أمية في المغرب الحكم بن هشام الربضي، فقد كثر المنتسبون في زمانه إلى العلم حتى كان بقرطبة أربعةُ آلاف ممن يتزيا بزي العلماء، ثم انحرفت سيرة الحَكَم وأظهر الفسوق والفجور.
كان مقتضى الحكم الشرعي الذي هو صريح النصوص الشرعية أن يبذل العلماء جهودهم في نصح الأمير وموعظته سرًا، مع الاشتغال بتعليم الناس دينهم، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الطاقة، والسكوت عن ذكر معايب الأمير بين العامة والخاصة؛ رعاية لمصلحة اجتماع الكلمة وبقاء الولاية وحقن الدماء والبعد عن أسباب الفتن، ولكن الذي حصل غير ذلك.
فقد غلبت عليهم العاطفة الدينية والغضب لحرمات الله، ولم يضبطوها بحكم الله العليم الحكيم الذي قضى به على لسان نبيه حين قال : ((ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة)) رواه مسلم، وحين قال : ((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية)) متفق عليه.
لكنهم لما رأوا ما يكرهون ما صبروا، بل نزعوا يدًا من طاعة، وائتمروا ليخلعوه، ثم جيشوا الجيوش لقتاله، وقدر الله أن بلغ الأمير خبرهم، فقبض على من قدر منهم، فقتل من العلماء سبعة وسبعين، ضرب أعناقهم، ثم صلبهم.
فهاجت العامة وتأهبت للخروج، ولم يعد ينقصها إلا شرارة لتشتعل نيران الفتنة، واتقدت الشرارة حين اختلف أحد موالي الأمير مع رجل من الرعية فقتل الرجل مولى الأمير وتح+ الناس طائفتين، واقتتلوا. فعلم أمير الأندلس الحَكَمُ فجمع جنوده، والتقى الصفان فهزمهم فولوا هاربين، والتقاهم جيش الأمير من خلفهم فأثخن فيهم حتى قتل منهم أربعين ألفًا، عندها أعلنوا الطاعة وأذعنوا وطلبوا العفو.
فعفا عنهم على أن يخرجوا من قرطبة ففعلوا. ثم هدم ديارهم ومساجدهم وآثارهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولم تنته المحنة عند هذا الحد، بل كان للمأساة فصل آخر في مدينة طليطلة، حيث نزلها ألوف من أهل الربض بعد تشريدهم منها، وكانوا لا يصبرون على ظلم الأمراء، بل كانوا يثبون عليهم ويخرجونهم، فولّى عليهم الحَكَم أحدَ الدهاة الفاتكين، فكاد لهم حتى قتل من أعيانهم خمسة آلاف رجل..
هذه واقعة واحدة من وقائع الخروج على ولاة الجور، اضطرب فيها الأمن، وسفكت الدماء، واختلفت القلوب، ودمرت الديار، وتشرد الألوف، وقتل كثير من الأخيار، وبعد ذلك كله بقي الأمير على كرسي الإمارة حتى جاءه الأجل الموعود، في وقت غير بعيد عن زمن الفتنة، بل كان بين موته وبينها أربع سنين فقط، كان الأمر قريبا، فلو صبر العلماء وأتباعهم حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر لكان خيرًا لهم وله وللإسلام والمسلمين، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
لقد جرّ تضييع أمر النبي الرعية بالصبر عند رؤية ما تكره من أمرائها، جرّ ويلات عظيمة على المسلمين على مدى تاريخهم الطويل. ومحنة الربض إحدى تلك الويلات والفجائع.
ومع ظهور شؤم الخروج على الأئمة في قديم الدهر وحديثه إلا أن الشيطان لا يزال يزيّن للكثيرين إثارة الفتن والقلاقل، فأين التسليم والانقياد الذي يقف بصاحبه عند حكم الله ورسوله ؟! وأين العقول التي تتعظ وتعتبر بما جرى لمن قبلها فلا تسلك طريق الهلكة الذي سلكوا حتى لا يكونوا عظة وعبرة لمن بعدهم؟!
الخطبة الثانية
الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلِّ من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد اصطفاه ربه واجتباه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، واخشوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله عز وجل مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير)) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
عباد الله، من المستفيد إذا قامت سوق الفوضى في بلاد المسلمين، واختلفت كلمتهم، وتنافرت قلوبهم، وسالت دماؤهم بأيديهم، وانشغلوا بالفتن عن الإصلاح، وعن الدعوة إلى الله، وعن الجهاد في سبيله، وعن الأخذ بأسباب العزة والرفعة والرقي؟! إن المستفيد هم أعداء الله من الكفرة المتربصين.
فيا عباد الله، اكرهوا الفتن وأهلها، وقاطِعوهم؛ ردَّ الله كيدَهم في نُحورهم، ووقانا والمسلمين شرورهم، ووقانا وحفِظَنا من شرِّ كل ذي شرٍّ.
قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
| |
|