molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: تفسير سورة العصر - سعيد بن سالم سعيد السبت 12 نوفمبر - 6:29:59 | |
|
تفسير سورة العصر
سعيد بن سالم سعيد
الخطبة الأولى
عباد الله، يقول الله عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. إن المتدبر لآيات القرآن العظيم لهو في خير كبير؛ إذ يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، وبأي شيء يطلبها، ويستبين له طريق النار وبأي شيء يحذرها، أما من أغفل كتاب الله وهجره فما له من ذلك الخير من نصيب.
ومن السور التي نقرؤها مرارا وتكرارا وأكثر الناس في غفلة عن معانيها سورة العصر، يقول تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ. قال عنها الشافعي رحمه الله: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"؛ وما ذلك إلا لما احتوته هذه السورة من بيان لأصول الدين وفروعه، وبيان لسبيل المؤمنين المؤدي للربح والفوز بالجنة والنجاة من النار.
وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم المعاني العظيمة لهذه السورة، فاتخذوها وصية لهم وإخوانهم، فعن عبيد الله بن حفص قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترقا إلا أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر. وما ذلك إلا تذكيرا بها وبما احتوته من المعاني الموصلة للربح والسعادة.
عباد الله، قال تعالى: وَالْعَصْرِ، هذا قسم من الله بالعصر، وهو الدهر كله الذي هو محل الحوادث من خير وشر، وعصر الإنسان هو عمره ومدة حياته الذي هو محل ال+ب والخسران.
ولله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، فأقسم بالليل والنهار والشمس والقمر، فله ذلك، وأما نحن العباد فلا يحق لنا ذلك، بل من حلف بغير الله فقد أشرك، فعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلا يَحْلِفُ ويقول: لا وَالْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)).
والشرك عاقبته وخيمة ومصيره أليم، وقد انتشر في زماننا الحلف بالآباء وبالأمانة وبالنبي ، وكل ذلك لا يجوز، وهو محرم وإن تعودته الألسنة، قال النَّبِيّ : ((مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت)).
فهذا هو القسم فما جوابه؟ وعلى ماذا أقسم الله؟ وإنما يقسم الله على شيء لبيان عظمة وأهمية المقسم عليه، قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ أي: إن جنس الإنسان في خسارة، فيشمل المؤمن والكافر، والخسارة مراتب متعددة، فقد يكون الإنسان في خسارة مطلقة كحال من خسر الدنيا والآخرة، وقد يكون خاسرا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسارة على بني الإنسان، إلا من اتصف بصفات أربع، وهي قوله تعالى: إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، فاستثنى الله من أهل الخسارة من آمن به وصدق، ولا يكون الإيمان به إلا بمعرفة الله عز وجل بربوبيته، وأنه الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، وبألوهيته وأنه المستحق للعبادة وحده دون سواه، وبأسمائه وصفاته، ومعرفة رسوله المعرفة التي تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق وتصديقه فيما أخبر وامتثال أمره فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتقديم حبه على النفس والمال والولد، ومعرفة دين الإسلام وذلك بتعلم أحكامه وتعاليمه ومن ثم العمل بها، فمن عرف ذلك فقد آمن وصدق، ومن خالف وأعرض فهو المتصف بالخسارة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن مما يضاد الإيمان بالله الشرك، وهو أن تجعل مع الله ندا في العبادة وهو خلقك، وهو ذنب عظيم، مخلد صاحبه في النار، لا يغفر الله له ولا تناله شفاعة الشافعين، قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48].
ولا يقتصر الشرك ـ عباد الله ـ كما يفهم الكثير على عبادة الأصنام فحسب، بل هو أوسع من ذلك؛ فمن استعاذ بغير الله فقد أشرك، ومن تعلق قلبه بغير الله في دفع ضرر كمرض وفقر ونحوه أو جلب خير كرزق وولد ونحو فقد أشرك، مثل من يعلق التمائم على صدور الأطفال أو في أيديهم أو في السيارة أو في البيت؛ لدفع العين والحسد فهذا من الشرك، والذهاب إلى السحرة والكهان والمشعوذين، وحضور جلسات الزار للاستعانة بالجن، وقراءة الأبراج في الصحف، هذا من الشرك، والحلف بغير الله شرك، وغيرها كثير لا يتسع المقام لذكرها من صور الشرك.
فاحذروا ـ عباد الله ـ الشرك بالله، فهو سبب للخسارة العظمى في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
الخطبة الثانية
قال تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، بعد الإيمان ثنى الله بالعمل الصالح، وهو جوهر العبادة وأساسها، فالعمل الصالح شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده الواجبة والمستحبة. والعمل الصالح من لوازم الإيمان بالله، فكلما زاد عملك زاد إيمانك، وكلما قل عملك قل إيمانك، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وبعض الناس يظن أنه يكفي مجرد الإيمان في القلب ولا حاجة للعمل، وهذا باطل، بل الإيمان مقترن بالعمل، والعمل دال على الإيمان، فمن صلح باطنه بالإيمان صلح ظاهره بالعمل الصالح، ومن فسد باطنه ونقص إيمانه فسد ظاهره وترك العمل، فلا تجد الإيمان في القرآن إلا وهو مقرون بالعمل الصالح، وهذا كثير لمن تأمل وتدبر.
عباد الله، وللعمل المقبول عند الله شرطان:
أحدهما: الإخلاص لله تعالى، بأن تؤدي العمل لله وحده، ترجو ثوابه وتخاف عقابه، فمن أراد بالعمل غير الله رد عليه عمله ولو كان كأمثال الجبال، فقد صح في الحديث عن النبي أنه يؤتى يوم القيامة بالرجل قارئ القرآن والمنفق في سبيل الله والمجاهد قتل في المعركة، فيقذفون في النار؛ وما ذلك إلا لأنهم أرادوا الناس بعملهم دون الله، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)) رواه مسلم. فرب عمل قليل تكبره النية الصالحة، ورب عمل كبير ترده النية السيئة.
وثاني الشروط في العمل المقبول عند الله: أن يكون موافقا لما جاء عن النبي ، وهو شرط المتابعة، فنحن لا نعبد الله إلا بما شرع الله في كتابه وفي سنة نبيه ، وما عدا ذلك فهو مردود على صاحبه، عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ))، وفي رواية: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).
ثم قال تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، فالتواصي بالحق هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعد أن آمنت بالله وعملت الصالحات توجب عليك أن تدعو غيرك لذلك، فتدعو أهل بيتك زوجتك وأولادك وجيرانك ووالديك وغيرهم لهذا الدين الحق.
وفي الدعوة إلى الله أجر عظيم لمن تأمل ذلك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)) رواه مسلم. فإذا دعوت رجلا للإسلام فكل عمل صالح يعمله يصب في ميزان حسناتك دون أن ينقص من أجره شيء، وكذلك إذا علمت أحدا من الناس علما وعمل به كان لك مثل أجره دون أن ينقص منه شيء.
والتواصي بالصبر وهو حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط من أقدار الله عز وجل، وبالصبر يستطيع العبد مواصلة سيره إلى الجنة، فهو يحتاج إلى الصبر في الإيمان بالله، وفي العمل الصالح، وفي الدعوة إلى الله، فرأس كل ذلك هو الصبر.
قال السعدي رحمه الله: "فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه ـ أي: بالإيمان والعمل الصالح ـ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره ـ وهما التواصي بالحق وبالتواصي بالصبر ـ، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم".
| |
|