molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: تفسير سورة ق (2) - سعيد بن يوسف شعلان الأحد 13 نوفمبر - 4:49:22 | |
|
تفسير سورة ق (2)
سعيد بن يوسف شعلان
الخطبة الأولى
وبعد, وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18].
عباد الله, يخبر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات الكريمة أنه سبحانه هو المتفرد بخلق جنس الإنسان ذكورهم وإناثهم وأنه يعلم أحوالهم ما يُسِّرُ وتوسوس به نفسه وأنه أقرب إلى خلقه من حبل الوريد الذي يسري فيه دم الإنسان، وإذا كان الله تبارك وتعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد فهذا يفيد شدة العلم والإحاطة والقدرة على ذلك الإنسان, لأن حبل الوريد وهو أقرب شيء لنفسه لأنه من بدنه. الله عز وجل أقرب إليه من هذا الشيء الذي هو أقرب شيء إليه والمراد بقرب الله في هذه الآية قربه تعالى بملائكته, يدل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية: إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ.
لئلاً يوهم ذلك حلولاً أو اتحاداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم أن يقول الله تعالى أنه قريب جداً من الإنسان ويراد بذلك القرب بالملائكة من أمثلة ذلك قوله تعالى في سورة الواقعة عن المحتضر عن الذي يشهد آخر أنفاس حياته ويجود بها عند الموت يقول تعالى: فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85].
أي ونحن أقرب إلى ذلك الميت منكم بملائكتنا الذين يحضرون الميت.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة القيامة لرسوله محمد: لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ [القيامة:16-18] أي فإذا قرأه عليك رسولنا جبريل عليه السلام فاتبع قرآنه.
وعليه أيها الإخوة المسلمون:
فإن الله تبارك وتعالى يبين في هذه الآية أنه لا يخفى عليه شيء وأن السر عنده كالعلانية، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر, عالم بما يُعلن وما يُسر.
والآيات المبينة لهذا المعنى في القرآن كثيرة جداً منها قوله تعالى في سورة البقرة: وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ [البقرة:235].
وقوله تعالى في سورة الأعراف: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:7].
وقوله في سورة يونس: وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
وقوله تعالى في سورة هود: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ [هود:5].
ولا تكاد يا أخي المسلم تقلب أو تنظر في صفحة من صفحات المصحف إلا وجدت آية بهذا المعنى, أي إلا وجدت إخباراً من الله تعالى بأنه عالم بك محيط بك قادر عليك.
واعلموا رحمكم الله تعالى أن الله جل وعلا ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآية الكريمة ومثلها القرآن.
وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلاً ليكون كالمحسوس، هو أنكم تعلمون أن الله عز وجل عالم بكل ما تعملون رقيب عليكم ليس بغائب عما تعملون، مطلع على سركم وعلانيتكم، كل هذا عند الله عز وجل من غير تعب ولا لغوب ولا إرهاق يلحق الله عز وجل وحاشاه.
وأما المثال لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم حتى يصير كالمحسوس عند أولئك الذين لا يرهبون ولا يخافون إلا ما يرون بأعينهم أو يسمعونه بآذانهم، ومن هنا افترق الناس إلى مؤمن وكافر, مؤمن مصدق بما أرسلت به جميع الرسل وإن لم يرَ ربه ولا ناره ولا جنته ولكنه يستدل على عظمة الله وقدرته بآثار القدرة ودلائلها الكثيرة المبثوثة في هذا الكون، حتى المؤمنون يختلفون فيما بينهم فمنهم من هو شديد الإيمان جداً بهذه الأمور الغيبية ومنهم من هو دون ذلك حتى يصيروا إلى أدنى مستوى ممكن في الإيمان بالغيب, ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب".
المثال يقول فيه العلماء: لو فرضنا أن مَلِكاً قتالاً للرجال سفَّاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً وسيافه قائم عند رأسه والنِطع (أي الفراش من الجلد الذي يُبسط ليوقف عليه من يُراد قتله حتى لا يسيل دمه على الأرض) والنِطع مبسوط للقتل وسيفه يقطر دماً وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يَهمُّ بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه وهو يعلم أنه ناظر إليه مطلع عليه, حاشا وكلا, بل جميع الحاضرين يكونون خائفين, وجلةً قلوبهم, خاشعة عيونهم ساكنةً جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك.
ولا شك ـ ولله المثل الأعلى ـ أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علماً وأعظم مراقبة وأشد بطشاً وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك وحماه في أرضه محارمه، التي تشبه محارم الملك هل يجرؤ أحد النظر إليها والسّياف قائم والدم يسيل والملك ينظر, الذي يشبه هذه المحارم محارم الله في أرضه, ما حرمه الله تعالى على خلقه، والله تعالى قد أخبرنا على لسان رسوله في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما: أن حمى الله في أرضه محارمه, ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، والله تعالى يغار كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين عن النبي : ((وغيرة الله أن يأتى المؤمن ماحرم الله)).
فإذا لاحظ الإنسان الضعيف الفقير المحتاج إلى الله، إذا لاحظ أن الله ليس بغائب عنه وأنه مطلع على ما يقول ويفعل وينوي, لان قلبه وخشى الله تعالى وأحسن عمله لله جل وعلا.
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى: أن الله جل وعلا بين بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملاً ولم يقل أيهم أكثر عملاً كما قال في سورة هود: وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7].
وقال في سورة الملك: ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ليختبركم أيكم يحسن العمل باعتبار أنه يستحضر أن ربه يراه ويطّلع عليه.
هذه هي الحكمة التي خلق الله تعالى الخلق من أجلها الابتلاء في إحسان العمل، ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها أن يُبتلى بإحسان العمل أن يختبر بإحسان العمل، فإنه يهتم أشد الاهتمام بالطريقة الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النبي عن هذا ليعلمه لأصحابه رضي الله عنهم فقال: أخبرني عن الإحسان ، أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه فبين النبي أن الطريق إلى ذلك هو مراقبة الله تعالى واستحضار أنه سبحانه وتعالى مطلع لا يخفى عليه شيء.
فقال : ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
هذا هو الإحسان وفي قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ تنبيه من الله جل وعلا لمن كذب بالبعث وكفر به على بعض ما هو من أعظم آيات قدرته، وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد, وهو خلق الإنسان، فإن خلق الإنسان من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد, وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية لأعضائها وصفاتها بما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلام والعلوم والإرادات والصناعات، كل ذلك من نطفة ماء، فلو أنصف العبد ربه لاكتفى بفكره في نفسه واستدل بوجود نفسه على صدق جميع ما أخبر به الرسل عن الله تعالى وعن أسمائه وصفاته، وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
ثم يخبر الله تبارك وتعالى في الآيتين التاليتين:
إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
يخبر أنه عن يمين الإنسان وشماله ملكين يكتبان أعماله وأقواله, الذي عن يمينه يكتب حسناته، والذي عن شماله يكتب سيئاته, كل منهما قعيدٌ لذلك متهيءٌ لما أعد له ملازم لذلك، عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ.
وما ينطق العبد من خير أو شر يكتبه الملك ويسجله عليه رَقِيبٌ عَتِيدٌ كل من الملكين موصوف بذلك، رقيب أي: حفيظ، عتيد :أي حاضر، وليس كما يظن البعض أن اسم أحدهم رقيبٌ والآخر عتيد.
والآيات المبينة لكتب الحفظة لأعمال العباد كثيرة جداً.
منها قوله تعالى في سورة يونس: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس:21] أي: إن ملائكتنا.
وقال تعالى في سورة مريم : كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ [مريم:79].
وقال في سورة الزخرف: سَتُكْتَبُ شَهَـٰدَتُهُمْ وَيُسْـئَلُونَ [الزخرف:19].
وقال فيها أيضاً : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوٰهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80] أي: ملائكتنا عندهم يكتبون.
وقال في سورة الجاثية: وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً أي: يوم القيامة ترى كل أمة جاثية على الركب وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَـٰبِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29,28].
وقال في سورة الانفطار: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ كِرَاماً كَـٰتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الإنفطار:10-12].
إلى غير ذلك من الآيات, ومما يجب أن يُعلم هنا أنه لا حاجة لله تعالى لكتب الأعمال فهو عالم لا يخفى عليه سبحانه منها شيء.
وكأن الحكمة من أمره سبحانه وتعالى للحفظة بكتابة الأعمال حكم آخر كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة كما وضحه الله تعالى في سورة الإسراء بقوله: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14,13].
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى في هذه الآية: "عَدَلَ واللهِ عليك من جعلك حسيب نفسك". عدل فيك وعدل عليك من جعلك حسيب نفسك أقرأ وحاسب نفسك هل ظُلمت شيئاً، هل كُتب عليك شيء لم تعمله، هل بُخست شيئاً؟ هل نسيَ الملائكة شيئاً من الحسنات لم يكتبوه، كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.
والدليل على أنهم لا يُظلمون ولا يُكتب عليهم شيءٌ لم يعملوه ولا يبخسون شيئاً أن المجرمين كما جاء في الآية التاسعة والأربعين من سورة الكهف يقولون عند قراءة الكتاب: يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن هذه الآية: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ, تفيد كتابة الأعمال والأقوال المستوجبة للجزاء فقط, ولا تفيد كتابة الأفعال والأقوال الجائزة.
ذهب الحسن وقتادة إلى أنها تفيد كتابة كل شيء, وسياق الآية يؤيد ما قاله الحسن وقتادة؛ لأن كلمة قَوْل مسبوقة بـِ مِنْ, وهي نص في العموم, وهي نكرة في سياق النفي, وهو يفيد العموم أيضاً, مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ أي قول.
لكن قول ابن عباس رضي الله عنهما، أرجح لأنه يقدر نعتاً محذوفاً وهو (ما يلفظ من قول مستوجب للجزاء إلا لديه رقيب عتيد).
ولذلك التقدير شواهد في القران الكريم منها قوله تعالى في سورة الكهف: وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79], ونعت السفينة هنا محذوف تقديره (يأخذ كل سفينة صحيحة لاعيب فيها غصباً) ، ويدل لهذا التقدير قوله قبلها: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا، لماذا؟ حتى لا يأخذها الملك فهو لا يأخذ إلا السفينة الصحيحة التي لاعيب فيها.
ويدل لذلك قوله تعالى في سورة الإسراء: وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا [الإسراء:58], ونعت القرية هنا محذوف تقديره ظالمة, أي: وإن من قرية ظالمة إلا ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً، ويدل لذلك التقدير قوله تعالى فيما حكم به وقضى به في سورة القصص, أنه سبحانه لا يهلك إلا الظالمين فقال: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ [القصص:59], فبين سبحانه وتعالى أن سبب الإهلاك الظلم، وهذه الآيات كافية جداً يا عباد الله في مراقبة الله جل وعلا والحذر من آفات اللسان والامتناع من العصيان، لكن الغفلة شديدة وعظيمة, نعوذ بالله من الغفلة.
ومع هذا فهذا المعنى مُبين في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد قال فيه الترمذي: حسن صحيح, من حديث محمد ابن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده علقمة ابن وقاص عن بلال بن الحارث المزني الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له رضوانه إلى يوم يلقاه وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عليه سخطه إلى يوم يلقاه))، ولهذا الحديث شاهد من حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات, وإن العبد ليتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم)), أعاذنا الله وإياكم.
أي إن العبد ليتكلم بالكلمة الطيبة التي يرضاها الله عز وجل ولا يشعر بأن أثرها عند الله عظيم وأن الله يبارك فيها ويجزي عليها جزاءً عظيماً فيرفعه الله بها درجات وهو لا يدري، قال كلمة طيبة وهو لا يدري ما وراءها من الأجر، وإن العبد ليتكلم الكلمة السيئة أيضاً التي تسخط الله عز وجل وهو مستهتر بها مستخف بها لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم والعياذ بالله.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا وإياكم من آفات اللسان ووقوع الجوارح في العصيان وأن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم النبيين وأشرف المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد, فقد ذكر الله تعالى في الآيات التاليات القيامة الصغرى والقيامة الكبرى، أما الصغرى فهي الموت، وأما الكبرى فهي البعث، وسأكتفي اليوم بالكلام على القيامة الصغرى فقط وفيها قوله تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
جاءت أيها الانسان شدة الموت وغشيته بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه، ذلك ما كنت عنه تحيد، أي تفر، جاءت فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص.
جاءكم يا بني آدم الموت، فمنكم من يموت مريضاً، ومنكم من يموت قتيلاً، ومنكم من يموت محترقاً، ومنكم من يموت غريقاً، ومنكم من يموت في هدم، ومنكم من يموت في فراشه إلى غير ذلك من أنواع الميقات.
ولا يدري منكم أحد بأي أرض تكون وفاته، جاءت شدة الموت وغشيته، وأياً كانت الميتة، فإنك يا ابن آدم إذا جاءك الموت ساء منظرك, وتغيرت رسومك, واستاء الناس بك بعد موتك، ومن قبلك منهم يُقبلك وهو يوشك أن يغمى عليه، لم يعد أحد يطيقك جسماً, ويزيد الجهال على ذلك بأن يأتوا بالقرآن ليقرؤوه في بيتك, اعتقاداً منهم أن روحك ما زالت في البيت، فهم يريدون أن يطردوها بقراءة القرآن. لم يعد يا ابن آدم أحد يطيقك أو يريدك لا جسماً ولا روحاً، ويسارع أهلك بتجهي+ إلى مثواك, وهكذا تنتهي رحلتك في هذه الحياة، استاء منك أحب الناس إليك, ومن كنت أحب الناس إليه, فاعمل عملاً صالحاً حتى إذا ما استاء الناس منك أكرمك الحي الذي لا يموت القيوم الكريم, فيقال لك في هذه اللحظة ما يقال لكل عبد صالح مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح: يأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَٱدْخُلِى فِى عِبَادِى وَٱدْخُلِى جَنَّتِى [الفجر:27-30].
إن أهلك والناس من بعد موتك يستاؤون منك استياءً عظيماً، كما يقول الشاعر عن الحي إذا نظر الميت:
وتُراع من ضحك الثغور وطالما فتنت بحسن تبسم وهتاف
أيها الحي إنك الآن إذا نظرت إلى فم الميت وهو مفتوح تخاف وتراع, ولطالما فتنك هذا الفم في الدنيا إذا كان فم فتاة ساقطة متبرجة, طالما فتنك بضحكه وتبسمه، الآن لماذا تخاف منه والفم هو الفم.
وأنت أيها الحاكم لطالما فتنتك الأفواه في الدنيا إذا ما انفتحت وهتفت وعلت الأصوات بالإعراب عن الاستعداد لفدائك والهتاف لك. الآن هذه الأفواه إذا ما رأيتها مفتوحة تراع منها ولا تطيق النظر اليها.
وتُراع من ضحك الثغور وطالما فُتنت بحسـن تبسم وهُتاف
هكذا يتغير الحال ويصير من حال إلى حال، كل الناس يستاؤون منك، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استاء منه أصحابه بعد موته أبداً، بل أصيبوا به مصيبةً عظيمة، وكانت الفجيعة به فجيعة شديدة.
دخل عليه أبو بكر رضي الله عنه عندما مات ولم يكن حضر ساعة الموت, وبلغه ذلك وهو بالسُنح, فعاد على فرس له سريع، ودخل عليه صلى الله عليه وسلم وكشف الثوب عن وجهه وأكب عليه يُقبله وهو يبكي ويقول: (طِبت حياً وميتاً) ما استاء منه أبداً، (والله يا رسول الله لا يجمع الله عليك موتين, أما الموتة التي قد كُتبت عليك فقد مُتها).
ولأجل هذا أحب قبل أن أستكمل تفسير الآيات أن أقف إن شاء الله في الخطبة القادمة بعد أسبوعين مع وفاة النبي صلى الله عليه وسلم محاولين أن نستخلص منها العبر والعظات الكثيرة الجمة.
فاذا كان موت رسول الله أمراً شديداً عظيماً مؤلماً موجعاً فهو في حاجة إلى أن نقف معه لنستفيد أموراً فيما ينبغي من توجيه العبادة لله وحده, مهما كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم فلا نغالي فيه كما غالت النصارى في عيسى, حتى أدى ذلك إلى تأليهه مع الله عز وجل أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
ومع سكرات الموت, معه نقف كذلك. وهو القائل فيها عندما كان يمسح وجهه من ركوة بين يديه يمسح العرق ويقول: ((لا إله إلا الله, إن للموت لسكرات)).
فارتقبوا هذه السكرات واعملوا العمل الذي يسعدكم عندها وينجيكم ساعتها.
أيها الإخوة الكرام, أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم والمسلمين بالقرآن العظيم والذكر الحكيم وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
| |
|