molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: القرآن وفضله - سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 7:53:36 | |
|
القرآن وفضله
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن من أعظم ما يتقرب به المؤمن من أنواع الذكر والطاعات قراءة القرآن الكريم وخاصة في هذا الشهر العظيم، قال رسول الله : ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)) رواه مسلم، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن أَلِفٌ حَرْفٌ، ولاَمٌ حرف، ومِيمٌ حرف)) رواه الترمذي، وعن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أما إني سمعت رسول الله يقول: ((ستكون فتن كقطع الليل المظلم))، قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، لا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يَخْلَق من كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تَنْتَهِ الجِنُّ إِذْ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم))، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن هذا القرآن مأدبة الله، فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيُستعتب، ولا يَعْوَجُّ فيُقَوَّمُ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَقُ من كثرة الرَّدِّ، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ)) رواه الحاكم وقال: "صحيح".
إن تلاوة كتاب الله من أعظم القربات، والذي يعلّم القرآن ويتعلمه خير المؤمنين، وتلاوة القرآن نوعان:
تلاوة حكمية وهي تصديق أخباره وتنفيذ أحكامه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وهذا النوع هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن الكريم، ويكون ذلك بالتدبر والتأمل في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]، وقال جلَّ جلاله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]؛ ولهذا كان السلف الصالح رضي الله عنهم يتعلمون القرآن ويصدقون ويؤمنون به ويطبقون أحكامه؛ لذا كانوا رضي الله عنهم يتعلمون من النبي عشر آيات ثم لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. وهذا النوع من التلاوة هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة.
أما النوع الثاني: فهو التلاوة اللفظية، وهي قراءته وتلاوته، والمسلم الذي يتقن تلاوته ويجيدها أفضل ممَّن هو أقلّ منه إتقانًا مع اقتران الإخلاص والصواب بهذا وبغيره من الأعمال والأقوال الصالحة، قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 121]، قال رسول الله : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم. نعم، إن خير المسلمين في التعلم والتعليم الذي يتعلم كتاب الله ويعلمه الناس. وعن الذي يقرأ القرآن والذي لا يقرؤُهُ من المؤمنين والمنافقين قال رسول الله : ((مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأتْرُجَّةِ ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حُلْوٌ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحَنْظَلَةِ ليس لها ريح وطعمها مرٌّ)) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
وتعلمه وتعليمه وتدارسه في بيوت الله أفضل من غيرها، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله ونحن في الصُّفَّةِ فقال: ((أَيُّكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطْحَانَ أو إلى العَقِيقِ فيأتي منه بناقتين كَوْمَاوَيْنِ في غير إثم ولا قطيعة رَحِمٍ؟)) فقلنا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك! قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلّم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاثٌ خيرٌ من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ ومن أعدادهن من الإبل؟!)) رواه مسلم. الكَوْمَاء: الناقة العظيمة السنام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
وهذا لا يعني أن نترك البيوت مهجورة من قراءة القرآن ولكن ذلك أعظم أجرًا، وإلا فينبغي المحافظة على قراءة القرآن في أي مكان يتيسر للإنسان ما عدا الأماكن المستقذرة والحالات التي يكون فيها المسلم أو المسلمة على غير طهارة مثل الجنابة للجنسين أو الحيض والنفاس للمرأة على خلاف بين العلماء فيهما. وقد ورد الترغيب في قراءة سورة البقرة في البيوت لأن فيها آية الكرسي التي صحّ عن رسول الله أن من قرأها في ليلة لم يَزَلْ عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، قال رسول الله : ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان يَفِرُّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة)) رواه مسلم والنسائي والترمذي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبرائيل عليه السلام قاعد عند النبي سمع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه، فقال: ((هذا باب من السماء فُتِح لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فَسَلَّمَ وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعْطِيتَهُ)) رواه مسلم والنسائي والحاكم، وكان أُسَيْد بن حُضَيْر في الليل يقرأُ القرآن وفَرَسُهُ مربوطةٌ عنده وله ابْنٌ قريب منها، فَجَالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، فقرأ فجالت الفرس مرة ثانية فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس مرة ثالثة فخاف أن تصيب ابنه يحيى فانصرف، ثم رفع رأسه إلى السماء فإذا هي مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح أخبر النبي بذلك فقال رسول الله : ((تلك الملائكة تستمع لك، ولو قرأت لأَصْبَحَتْ يراها الناس ما تستتر منهم)) رواه البخاري ومسلم.
وقد ورد الترغيب في حفظ كتاب الله تعالى وأن الماهر بالقرآن الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا تَشُقُّ عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه مع السفرة الكرام البررة، وأن الذي يتتعتع فيه ويتردد في تلاوته لمشقته عليه إما لصعوبة اللغة إن كان القارئُ أعجميًا أو كان عربيًا وهو عليه شاقٌّ فله بذلك أجران، أَجْرُ التَّعْتَعَةِ وأجر التلاوة، وتكون مَنْزِلَةُ صاحب القرآن ومَنْزِلُهُ يوم القيامة عند آخر آية يقرؤها، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين))، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْقَ، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالاً فتصدق به آناء الليل وآناء النهار)) رواه البخاري ومسلم. قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي ومجازي، فالحقيقي هو تَمَنِّي زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، أما المجازي فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي عليها غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد من الحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما".
وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ويقدّم من كان أكثر أخذًا للقرآن عن غيره في الحياة والممات، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن لله أهلين من الناس))، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)) رواه النسائي وابن ماجة والحاكم، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: ((أيهما أكثر أَخْذًا للقرآن؟)) فإن أُشِيرَ إلى أحدهما قدّمه في اللَّحْدِ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران))، وضرب لهما رسول الله ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: ((كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجّان عن صاحبهما)) رواه مسلم والترمذي، وقال : ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ـ أو: غيايتان، أو: كأنهما فرقان من طير صَوَافّ ـ تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)) رواه مسلم.
وقد ورد الترغيب في سور معينة من القرآن لفضلها وإن كان القرآن كله كلام الله عز وجل وقراءة حرف منه في أي سورة كانت يؤجر عليه المسلم الحرف بعشر حسنات، ولكن سور وآيات معينة جاءت الأحاديث عن رسول الله بفضلها، ومن أراد نصوصها فعليه الرجوع إلى مكانتها، ومنها الفاتحة التي هي السبع المثاني والقرآن العظيم، والزهراوان البقرة وآل عمران وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وسورة الملك وعشر آيات من أول الكهف أو آخرها وقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص] والفلق والناس ويس، وغير ذلك من السور والآيات التي وردت بها الأحاديث الشريفة عن رسول الله .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن مما يجب علينا أن نعلمه ونَعِيَهُ تمامًا هو الهدف والغاية من تلاوة كتاب الله تعالى أو استماعه من غيرنا، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]. إذًا فالغاية هي التدبر والتعقل والتفكر فيما يتلى من آيات القرآن الكريم، وليتذكر أصحاب العقول السليمة والأفهام المستقيمة ويتبعوا أحكامه بفعل المأمورات وترك المنهيات والعمل به وتطبيقه في جميع مجالات الحياة، وليبتغي به من يتلوه أو يستمعه يبتغي به ما عند الله من الأجر العظيم في التلاوة والاستماع كما وردت بذلك الأحاديث.
وإنَّ مما يُعِينُ على تدبُّرِهِ وفَهْمِهِ قراءتَهُ وتلاوتَهُ كما أنزل وترتيلَهُ حسب أحكام التجويد التي وضعها علماء القراءات لِصَوْنِ اللسان من الخطأ والتحريف في كتاب الله، وكما هو منقول بالتواتر والتلقي، قال تعالى: وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل: 4]، وقال تعالى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان: 32]، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء: 106]، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 121]. وقد أوردت كتب التفسير بيان معنى الترتيل وأنه يعني: بَيِّنْهُ وتَأَنَّ فيه وتلبّث في قراءته وتمهَّل في ذلك، ومنها تجويد حروفه ومعرفة الوقوف. سُئلتْ أُمُّ المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة الرسول فإذا هي تنعتها وتصفها بقولها: قراءة مفسّرة حرفًا حرفًا. وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كان عليه الصلاة والسلام يقرأ السورة حتى تكون أطول من أطول منها؛ كناية عن بلوغ الغاية في التأنِّي والتّؤدَةِ، وعن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة الرسول فقال: كانت مدًّا ثم قرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ اللهِ ويمدّ الرَّحْمَنِ ويمدّ الرَّحِيمِ، وكان يقطِّع قراءته آية آية يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثم يقف ثم يقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم يقف وهكذا، وكان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس صوتًا بالقرآن، فعن البراء بن عا+ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله قرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه، وقال رسول الله : ((حسّنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا))، وفي حديث آخر: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وفي رواية: ((زينوا أصواتكم بالقرآن))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن))، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري: ((لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) رواه البخاري ومسلم.
ولكن يا ترى، هل هذا التغني على إطلاقه كما فهمه بعض الجهال من المسلمين في زمننا هذا؟! أو هل هو الهَذُّ والهَذْرَمَةُ حيث هَمُّ القارئ الوصول بسرعة إلى آخر الآيات أو السورة التي يتلوها؟! أو هل هو تحسين الصوت دون معرفة وتطبيق لأحكام التجويد أو كأنه يقرأ في جريدة أو مجلة أو أي كتاب عادي، أو هو الدعوة إلى قراءته على آلات الطرب، أو إعطاء أصوات بدون آلات ولكنها مشابهة للأغاني كما هو حاصل من بعض المقرئين؟! أو هل هو التقليد والتمثيل لأصوات بعض المقرئين أو الأئمة وعبادة أصواتهم؟! فالإمام منهم تجده شريطًا مسموعًا مُسَجَّلاً عليه قراءةُ أحدِ هؤلاء المشايخ، فهو لا يهمُّه إلا تقليد صوت أحدهم لنبرة صوت المُقَلَّد ورخامته ورقته وارتفاع صوته وانخفاضه وترعيده وتشديده ووقوفه وتطبيقه لأحكام التجويد، فهم يكلفون أنفسهم ويحمّلونها ما لا تطيق بمحاولة تقليد صوت من أرادوا تقليده وتمثيله وعدم الخروج عن صوته، حتى أصبح همّ أحدهم عبادة الصوت ويخاف من الشطط والخروج عن صوته فيفلت الزمام من يده، فهذه بلية عظيمة في هذه الأيام، ولئن كنا نعيب على الذين يتلاعبون بكتاب الله في المآتم فإن شرّ من يتلاعب بكتاب الله في صلاتنا أعظم خطرًا وأشد إثمًا.
فليتق الله أولئك الذين يقومون على هذا العمل والتقليد والتمثيل، فإن لكل إنسان خلقه الله صوتًا يميزه عن غيره، فعليه أن يقرأ بصوته الذي وهبه الله إياه ويحسّن صوته بالقرآن ويطبق أحكام التجويد من غير إخلال ولا تعسف ولا تمطيط ولا إفراط ولا تفريط، وعلى كل مأموم أن يتقي الله ويعلم المقصود من تلاوة كتاب الله وسماعه ولا يعبد الأصوات بل يتدبر كلام الله ويطبقه في واقعه ويبتغي به ما عند الله من الأجر العظيم.
وأسوق بعض الأحاديث لنفسي ولإخواني المسلمين لعل الله ينفعنا بما نسمع ونقول:
قال رسول الله : ((اقرؤوا القرآن بِلُحُونِ العرب وأصواتها، وإياكم ولُحُونَ أهل الكتاب والفسق؛ فإنه سيجيء بعدي أقوام يرجّعون القراءة ترجيع الغناء والرهبانية والنَّوْحِ لا يجاوز حَنَاجِرَهُمْ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم))، وصدق رسول الله ، فهذا هو الواقع المؤلم اليوم في مجتمعات المسلمين إلا من رحم الله، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اقرؤوا القرآن وابتغوا به وجه الله تعالى من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القِدْح يتعجلونه ولا يتأجلونه))، وقال : ((تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله))، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((أكثر منافقي أمتي قرّاؤها)). ومن علامات الساعة التي أخبر بها الرسول قوله عن الذين يقدمون أحدهم للصلاة من أجل أن يطربهم بصوته قوله عليه الصلاة والسلام: ((وقوم يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنّيهم به غناءً)).
والتجويد هو عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ بريئة من الرداءة في النطق، وإعطاء الحروف حقها، وإخراجها من مخارجها من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف، وهو القراءة السهلة العذبة الحلوة اللطيفة التي لا مضغ فيها ولا لَوْك ولا تصنّع ولا تنطّع ولا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء بوجه من وجوه القراءة والأداء، قراءة تلذّ لها الأسماع وتخشع لها القلوب. ومما ينبغي التنبيه له والابتعاد عنه خاصة في مثل هذه الأيام من كل عام افتتان الناس بالأصوات والقدح في كثير من الأئمة بالغيبة والبهتان واستغلال هذا الوقت لتنفيس ما في الصدور المريضة.
ومما ينبغي ملاحظته احترام القرآن الكريم بعدم استدباره أو وضعه عند القدمين أو تناوله باليد اليسرى، ولو قُدِّمَ لأحد من أولئك رسالةٌ أو أي شيء آخر باليد اليسرى لتَأَفَّفَ ورآه عيبًا في نظره مع أنه منهي عنه شرعًا، فكيف بالقرآن الكريم أَخْذه وتناوله وإعادته لمكانه باليد اليسرى، أو الجلوس عليه وإن كان في الحقائب كما هو حال طلبة المدارس حيث يضع أحدهم الحقيبة أو بدون حقيبة ويجلس بمقعدته عليه أو على الكتب التي لا تخلو من آية أو حديث أو اسم من أسماء الله عز وجل، وهذا الحال هو المشاهد يوميًا أمام مدارس البنين على اختلاف مراحلها ويجب العمل على منعه، وكذلك منع استخدام الجرائد والمجلات التي تحمل آية قرآنية أو حديثًا شريفًا أو اسمًا من أسماء الله عز وجل سفرة للطعام كما هو الحال في بعض الإدارات والمحال التجارية أو وقاية من حرارة العيش كما هو الحال في بعض الأفران والمخابز أو فرشًا في الثلاجات للخضروات كما هو الحال في بعض البيوت أو تنظيفًا ووقاية في الورش ومحلات الزيوت أو غطاءً أو فرشًا لبعض الفواكه وغير ذلك من الاستخدامات التي يكون معها الامتهان لكتاب الله وأسمائه الحسنى وسنة رسوله مما يجب تنزيهها عن ذلك وغيره من صور الامتهان والازدراء أيًا كانت. ويجب على كل مسلم بحسب مكانته وقدرته على إزالة هذه الظواهر السيئة إنكارُ ذلك حتى تختفي وتنتهي بإذن الله عز وجل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
| |
|