molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الموت- سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 7:16:10 | |
|
الموت
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أكبر واعظ هو الموت الذي قدره الله على خلقه وكتبه على عباده، وانفرد جل شأنه بالبقاء والدوام، فما من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره إلا والموت نازل به وهو خاضع لسلطانه، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185]. إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس، حقيقة أن الحياة على هذه الأرض موقوتة ومحدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتمًا، ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه المطهرين ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه رسولنا محمد ، كيف لا وقد نعاه الله إلى نفسه صراحة وذكّره بدنو أجله تلميحًا وأعلم الناس ببشريته وأنه لا بدّ له من مفارقة الحياة الدنيا؟! قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30، 31]، وقال جل جلاله: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ [الأنبياء: 34]، وقال عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر]، وقال سبحانه وبحمده: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144].
إذًا فالموت حتمٌ لا محيص عنه ولا مفرّ منه، قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78]، يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت المؤمنون ويموت الفاسقون والمنافقون والكافرون والملحدون، يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص، يصل الموت للجميع تحت الماء وفوق الهواء وفي السماء، لا ينجو منه ملائكة ولا إنس ولا جان ولا طير ولا حيوان ولا دابة على الأرض، الكلّ يموت، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185]، كل نفس تذوق الجرعة وتفارق هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]، فكم شهدت الدنيا كثيرًا وكثيرًا ممن عمروها من الأمم السابقة أكثر مما عمرناها نحن، الذين كانوا فيها أعزة أقوياء أغنياء منعّمين يأمرون بما يشاؤون من إصلاح وأمر ونهي، فتعجلتهم أحداثها قبل ذلك، أو طوتهم المنون فحيل بينهم وبين ما يشتهون، لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وأصبحوا مرتهنين لأعمالهم، ينتظرون وضع الموازين من لدن أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الذي لا يظلم مثقال ذرة: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]، والذي يقول وقوله الحق: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
كم شهدنا نحن وفقدنا من أقران كانوا بالأمس معنا وآخرين يكبروننا سنًا، لقد كانوا زينة المجالس وبهجة القلوب وأنس النفوس، الصالحون منهم يذكروننا بالله وأيامه، فأين هم اليوم؟! قد ضمتهم اللحود وخلت منهم ثغَرُ الإصلاح ومواطن الركوع والسجود، ولو نطقوا لقالوا: يا إخواننا تزودوا فإن خير الزاد التقوى، فنحن سلفكم وأنتم في الأثر، ولقد جاءكم من الأنباء ما فيه مزدجر. وفقدنا آخرين من المسلمين تختلف طبقاتهم في العمل الصالح مما يراه الناس، فأين هم الآن؟! إنهم في الحياة البرزخية التي لا بد لكل بني البشر من الحياة فيها حتى تقوم الساعة.
إن القبر أول منازل الآخرة، ومن مات فقد قامت قيامته الصغرى، وإن العبد إذا قُبر عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، ويفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، وأما الكافر فيضرب بمطارق من حديد، ويضيّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، قال الله عز وجل: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99،100]، وقال تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [ق: 19]، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 11]، كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 26-30]، فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة: 83-87].
عن البراء بن عا+ رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وبيده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: ((تعوّذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ويجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اُخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان))، قال: ((فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منه كأطيب نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض))، قال: ((فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوها إلى الأرض في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: رسول الله، فيقولان: ما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته، فينادي منادٍ من السماء أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة))، قال: ((فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره))، قال: ((ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الحسن يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة، ربّ أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي)) وذلك لفرحه ولما يرى من النعيم فهو يتمنى قيام الساعة. قال: ((وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة، سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اُخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتَفرّقَ في جسده، فينتزعها كما ينتزع السّفّود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الريح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فلا يفتح له))، ثم قرأ رسول الله : لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40]، ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ثم تطرح روحه طرحًا))، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31]، ((فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍٍ من السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يَسُوؤُكَ، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربّ لا تقم الساعة))؛ وذلك لأن عذاب القبر أهون عليه، ولأنه يعرف نزله في الآخرة وأنها النار وبئس القرار، فهو لا يرغب في قيام الساعة.
ولننظر إلى العبد الكافر والمنافق والذي ليس مثبَّتًا ولا موفَّقًا للخير هل تنفعه بلاغته في الدنيا؟! هل تنفعه شهاداته ولو كان معه جميع الشهادات العالمية في الدنيا؟! وهل يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة؟! أين شهاداته؟! أين بلاغته؟! أين فصاحته؟! أين جاهه؟! أين سلطانه؟! أين ماله؟! إنه لا يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة ولو كان أعلم أهل الأرض، أما المؤمن وإن كان من أجهل الناس ولا يحمل شهادة ولا يقرأ ولا يكتب فإن الله يثبته ويلهمه الجواب، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبي الله : ((إن العبد إذا وُضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم))، قال: ((فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟)) قال: ((فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة))، قال نبي الله : ((فيراهما جميعًا)). قال قتادة: وذكر أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا ويُملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، ثم رجع إلى حديث أنس قال: ((وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري،كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) أي: الجن والإنس. وفي حديث آخر: ((فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه فلا يزال فيها معذبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)). وإن للقبر ضغطة وضمَّة لا ينجو منها أحد، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجيًا منها لنجا سعد بن معاذ)).
فعلينا أن نتقي الله تعالى ونتذكر الموت ونتذكر يوم النقلة والرجوع إلى الله وماذا سَنَقْدُمُ عليه به، يوم أن نُودَعَ الثرى ويتخلى عنا الأهل والأصدقاء، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل: 111]، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر: 23، 24]، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]. نتذكر ذلك دائمًا ونأخذ من قوتنا وعزنا لضعفنا وذلّنا، ونأخذ من سعتنا وغنانا لضيقنا وفقرنا، نأخذ من عافيتنا وحياتنا لبلائنا وموتنا، نستعد ليوم تعنو فيه الوجوه للحي القيوم، وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه: 111]. علينا أن نتذكر أننا سائرون إلى الله، في كل يوم تغيب فيه الشمس نحن نسير خطوة، نحن نسير إلى الله، ولن يعود هذا اليوم بعمله إلا يوم القيامة يوم ينظر المرء ما قدمت يداه حيث يجد كل ما عمله محضرًا، قال الله جل جلاله وتعالى سلطانه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30]، فأين الفرار من الله إلا إليه؟! أين الفرار من الله إلا إليه؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر: 55-61].
الخطبة الثانية
الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، أحمده سبحانه خلق الموت والحياة ليبلو عباده أيهم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الله جلت قدرته لم يوجدنا في هذه الدنيا للدوام والبقاء فيها، ولكن للحياة الأبدية في الآخرة التي أول مراحلها الحياة البرزخية، فما من نفس خلقها الله تبارك وتعالى إلا وهي ذائقة الموت مهما طال عمرها أو عظم شأنها أو كثر مالها وولدها، وإنه ليجدر بالعاقل الذي علم أنه أُوجد في هذا الكون وخُلق لحكمة وأنه سيموت بعد هذا الإيجاد ولا يدري في أي أرض أو في أي ساعة يموت، وأنه لن ينفعه ويصحبه إذا انتقل من هذا العالم الدنيوي إلى ذلكم العالم الأخروي بعد الحياة البرزخية إلا ما قدمه في حياته من برٍّ وخيرٍٍ وهدى، يجب عليه أن ينظر دائمًا نظر المستزيد إلى ما قدمه لغده، إلى ما ينفعه عند الله ما دام حيًا سويًا صحيحًا شحيحًا يخشى الفقر ويأمل الغنى امتثالاً لأمر الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18]، يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ: 40]، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، وقول رسول الله : ((إذا مات ابن آدم تبعه ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان: المال والأهل، ويبقى واحد وهو العمل))، وقوله : ((إذا مات ابن آدم قالت الملائكة: ما قدّم؟ وقال الناس: ما أخّر؟)) وقوله: ((مَنْ ماله أحبّ إليه من مال وارثه؟)) قالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: ((مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر)). نعم، إن مال الإنسان هو الذي يقدمه لنفسه في أعمال الخير والصلاح ويكون له في آخرته حسنات.
وليتذكر المؤمن هذه الأحاديث الشريفة عن المصطفى ، وأنه إذا مات فإن المال لا يسير معه خطوة واحدة، فأين المراكب والسيارات الفخمة؟! وأين القصور الشامخة والردهات الفسيحة والبساتين الخضراء والمدائن الغناء؟! أين الأموال العريضة والخدم والحشم؟! أين المراتب والمناصب؟! لقد ترك كل ذلك وراء ظهره لأهله وورثته، وليس له إلا ما قدّم، ثم أين الأهل؟! إنّ أغلى ما يملكون أن يصحبوه ويشيعوه إلى قبره ولا يستطيع أحد أن يجلس معه ساعة داخل قبره، إذًا أين الأولاد؟! أين الزوجات؟! أين الوجوه الناضرة؟! أين الأجسام الناعمة والمترفة؟! إنهم يتخلّون عنك يا ابن آدم، ولا يبقى معك إلا عملك الذي قدمت لآخرتك، ويكون أنيسك في قبرك وتكون وحيدًا فريدًا كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94]، وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 47-49].
فتذكر ـ يا ابن آدم ـ الموت وأنك ستغادر هذه الحياة مهما طال عمرك ومهما بلغت من المناصب، فلن يطول بك البقاء في هذه الحياة الدنيا، قال رسول الله : ((أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل منهم من يتجاوز ذلك)). نعم، لو طاف طائف بعد مائة على ظهر الأرض لما وجد بها أحدًا ممن هم أحياء الآن إلاَّ ما ندر، سوف يتساقطون ويأتيهم الموت، سوف يتساقط الملوك والرؤساء والعظماء والوزراء والأمراء والعرفاء والعلماء والجهلاء والأغنياء والفقراء والأطباء والمعلمون والموظفون والمديرون والمتبخترون والمتكبرون والظالمون والمؤمنون والعمال والقادة والضباط والجنود والصعاليك والصغار والكبار والذكور والإناث، كل هؤلاء يتساقطون ويموتون، ولا يخرج أحدهم من هذه الدنيا إلا بلفائف من القماش ثم يُوارى في التراب ومعه عمله الذي يكون معه في قبره، ويكون في قبره في الحياة البرزخية إما منعمًا وإما معذبًا حتى تقوم الساعة، أين فلان؟! أين بنو فلان؟! أين القبيلة الفلانية؟! كلهم قد ذهبوا، كلهم قد ماتوا، كلهم قد غادروا، ونحن من أولئك المغادرين، قال تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم: 98].
فيا أيها المؤمنون، اغتنموا المهلة التي أعطاكم الله في هذه الحياة الدنيا قبل مفاجأة الأجل، إن المهلة كافية لكي يرجع كل منا إلى الله وينيب إليه ويتوب ويرجع عما أساء ويقدِّم لنفسه خيرًا، لنغتنم المهلة قبل فواتها وقبل أن تأتي ساعات الندم والحسرة ولات ساعة مندمٍ، وتذكروا دائمًا أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا، توبوا إلى الله وارجعوا إليه سبحانه، فالله يقبل توبة التائبين، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
| |
|