molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: وقفات مع حديث: ((يا عبادي)) (2)- خالد بن محمد بابطين السبت 5 نوفمبر - 5:53:36 | |
|
وقفات مع حديث: ((يا عبادي)) (2)
خالد بن محمد بابطين
الخطبة الأولى
أيها الإخوة المؤمنون، في الأسبوع الماضي كانت لنا وقفتان مع الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاست+وني أَكْسُكُمْ. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
أيها الإخوة، نستكمل الوقفات في هذه الخطبة فنقول:
الوقفة الثالثة: مع قوله تعالى: ((يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)).
إن أعظمَ نعمة ينالهُا العبد هي نعمةُ الهداية، لذلك جاء ذكرها في الحديث في مقدّمة النعم التي امتنّ الله بها على عباده، فذُكِرَتْ قبل نعمة الطعام ال+اء، وجاء في سورة الشعراء ذكر مقالة إبراهيم عليه السلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78-80]، فاتفقت الآية والحديث على هذا المعنى، ولا غرو فهما من مشكاة واحدة.
عباد الله، ما أحوج العبد إلى طلب الهداية ابتداء، بل واستدامتها طوال حياته، وفي أم الكتاب والسبع المثاني قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، تتكرّر كل يوم سبع عشرة مرة دون النوافل، فهي تذكير وأيّ تذكير بالحاجة الملحّة إلى طلب الهداية واستدامتها. وحدّثت أم سلمة أن رسول الله كان يكثر في دعائه يقول: ((اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قالت: فقلت: يا رسول الله، أَوَإنّ القلوبَ لتَقَلَّب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله بشرًا من بني آدم إلا إن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدنا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب))، قالت: فقلت: يا رسول الله، ألا تعلّمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: ((بلى، قولي: اللهم ربَّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني)) رواه الإمام أحمد.
ولذلك ـ أيها الإخوة ـ فإنّ المأسوفَ عليه حقًا والمغبونَ أشد الغبن لَمَن حرم هذه النعمة وحيل بينه وبين التلذّذ بمناجاة الله تعالى والقرب منه، قال بعض السلف: مساكينُ أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره. ومرَّ عمر بن الخطاب ذات يوم بدير راهب فناداه فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟! قال: ذكرت قولَ الله عزَّ وجلَّ في كتابه: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3، 4].
عبد الله، تأمل كم من الناس من ضلَّ عن هذا الخير وهديتَ أنت إليه، فهل استشعرتَ عِظَمَ هذه النعمةِ وجلال هذه المنة؟! وهل تذكّرت أن ذلك محضُ فضل وامتنان من الكريم المنان، لم تنله عن حقّ واستحقاق على ربك سبحانه؟!
ما للعباد حق عليه واجب كلا ولا سعي لديه ضائع
إن نعِّموا فبفضله أو عذبوا فبعدله فهو الكريم الواسع
عباد الله، نعمة الهداية ذاق طعمها إبراهيم بن أدهمَ فقال: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف". نعمة الهداية تلذّذ بها شيخ الإسلام بن تيمية ولله درّه حين يقول: "والله، إنه لتمرّ بالقلب ساعات يرقص فيها طربًا فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش رغيد".
الوقفة الرابعة: الدعاء، وما أعظم شأنه في هذا الحديث الذي تكرّر في ثناياه مرارًا: ((فاستهدوني)) ((فاستطعموني)) ((فاست+وني)) ((فاستغفروني))، ولا غرابة في ذلك فإن حاجة العبد إلى ربه دائمة، فهو سبحانه الرزاق ذو القوة المتين، وما يصيب العباد من النعماء والخير فبفضله، ولا يمسهم شيء من الأذى والعنت إلا بعلمه وحكمته، ولا يُرفع عنهم ذلك إلا بإذنه، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]، ولا غنى للمسلم عن الضراعة واللجوء إلى خالقه في كلّ حال وفي كلّ زمان، أما في أزمان الفتن وضيق الحال وتقلّب الأمور فإن الحاجة تزيد، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]، ولو لم يكن في فضله إلا هذه الآية لكفى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]، قال : ((أفضل العبادة الدعاء))، فالدعاء تذلّل وخضوع وإخبات وانطراح على سدّة الكريم، قال : ((الدعاء هو العبادة))، قال الخطابي: "معناه أنه معظم العبادة أو أفضل العبادة"، وصح عنه أنه قال: ((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء))، وفي سنن البيهقي عنه : ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء))، فأضعف الناس رأيًا وأدناهم همّة وأعماهم بصيرة من عجز عن الدعاء.
عباد الله، ومن الآداب المهمة في الدعاء الجزم فيه واليقين على الله بالإجابة لقوله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه))، قال يحيى بن معاذ: "من جمع الله قلبه في الدعاء لم يردّه"، قال ابن القيم في شأن الدعاء: "إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوِي رجاؤه فلا يكاد يردّ دعاؤه". وصدق رحمه الله، أليس أرحم الراحمين يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، فادعه ـ يا عبد الله ـ دعاء المضطر المنقطِع من كل أسباب الدنيا، وتيقّن الإجابة حينئذٍ.
الوقفة الخامسة: الاستغفار، ((يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم)). لقد علم اللطيف الخبير ما في الخلق من ضعف وما هم عليه من قصور ونقص، ففتح لهم باب الأمل والرجاء في العفو والمغفرة، وأمرهم أن يلجؤوا إلى ساحات كرمه وخزائن فضله، فهو سبحانه رحيم بمن رجاه قريب ممن دعاه، والخطأ والتقصير مما جبِل عليه البشر، والسلامة من ذلك مما لا مطمعَ فيه لأحد.
قال : ((والذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء و الأرض ثم استغفرتم الله عز وجل لغفر لكم. والذي نفسي بيده، لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم))، وقال : ((قال إبليس: وعزّتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني)). وقد قال الله تعالى لأتقى الخلق: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].
ولذا كان ملازمًا للاستغفار آناء الليل وأطراف النهار حتى قال عن نفسه: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري، بل قال : ((ما أصبحت غداة قطّ إلا استغفرت الله فيها مائة مرة))، وقال ابن عمر كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: ((ربِّ اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم)).
أيها المؤمنون، هكذا شأن أرباب العزائم وأهل الإيمان الخلّص، يلجؤون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة والاستغفار، قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم وشهود أعمالهم، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:16، 17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، الوقفة الأخيرة مع هذا الحديث: مع قوله تعالى: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أدخل البحر)). غِنَى الخالق وفَقر المخلوق، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].
إن العبد العارف بالله تعالى ونِعَمه وآلائه عليه ليدرِك حقيقة فَقره إلى الله وغِنى الله عنه، قال ابن القيم: "ولقد شاهدت من شيخ الإسلام قدّس الله روحه من ذلك ـ يعني إظهارَ الافتقار إلى الله تعالى ـ أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء، وكان كثيرًا ما يتمثّل هذا البيت:
أنا المُكَدِّي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
ومعنى المُكَدِّي أي: قليل الخير. وكان إذا أثنِيَ عليه في وجهه يقول: "والله، إني إلى الآن أجدّد إسلامي كلّ وقت، وما أسلمت إسلامًا جيّدًا"، ثم قال ابن القيم: وكتب إليَّ في آخر عمرِه قاعدة في التفسير بخطّه وعلى ظهرِها أبيات بخطّه من نظمِه:
أنـا الفقيـر إلـى ربّ البريّـات أنـا المُسكين في مجموع حـالاتي
أنـا الظلوم لنفـسي وهـي ظالمتي والخير إن يـأتنا من عنده يـأتي
لا أستطيع لنفسي جلـب منفعـة ولا عن النفس لي دفع المضـرات
وليـس لي من دونه مولى يدبـرني ولا شفيـع إذا حاطت خطيئـاتي
إلا بإذن مـن الـرحمن خـالقنـا إلى الشفيـع كما جاء في الآيـات
ولست أملـك شيـئًا دونه أبـدًا ولا شريـك أنـا في بعض ذرات
ولا ظهيـر لـه كـي يستعيـن به كمـا يكـون لأربـاب الولايات
والفقر لي وصـف ذات لازم أبـدًا كمـا الغـنى وصـف لـه ذاتي
وهذه الحـال حـال الخلق أجمعهم وكلـهم عنـده عبـدٌ لـه آتي
فمن بغى مطلبًا من غيـر خالقـه فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله مـلء الكـون أجمعـه مـا كان منه وما من بعد قد ياتي
| |
|