molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: وقفات مع حديث: ((يا عبادي)) (1)- خالد بن محمد بابطين السبت 5 نوفمبر - 5:54:13 | |
|
وقفات مع حديث: ((يا عبادي)) (1)
خالد بن محمد بابطين
الخطبة الأولى
عن أبي ذر عن النبيّ فيما يرويه عن ربّه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاست+وني أَكْسُكُمْ. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
أيها المؤمنون، هذا الحديث القدسي العظيم الجليل خرَّجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر، وفي آخره قال سعيد بن عبد العزيز: "كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه"، ولذلك يحسن بنا في هذا المقام أن نقف مع هذا الحديث وقفات عل الله أن ينفعنا بها.
الوقفة الأولى: قوله تعالى: ((يا عبادي)) نداء تكرر في ثنايا هذا الحديث، نداء بوصف عظيم ونعت جليل، نداء بوصف العبودية لمستحقها الذي كلما ازددتَ في عبادته ذلاً وان+ارًا ازددتَ عنده وعند خلقه رفعة ومكانة، إنه وصف العبودية الذي هو أسمى الأوصاف وأشرفُها، وَصَفَ اللهُ به صفوةَ خلقه وخيرتهم وهم أنبياؤه وملائكته، فقال في شأن داود: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال عن سليمان: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، وقال عن أيوب: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وقال في المسيح الذي ادُّعيت فيه الإلهية والبنوة: إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59]، وأولُ ما نطق به عيسى في المهد أن قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30]، وفي شأن محمد فلقد وصِف في أشرف الأحوال وأعلى المقامات بهذا الوصف، اسمع إلى قوله تعالى عنه في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1]، وفي مقام الإيحاء قال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وقال: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، وقال عنه في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وفي مقام التحدي قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، وأما الملائكة فقال في شأنهم: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26، 27].
وحينئذٍ ـ أيها الإخوة ـ فلا غروَ أن يقول الفضيل بن عياض:
ومما زادني شـرفًا وتيهــا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمـدَ لي نبيًّا
أيها الإخوة، إن من مقتضى هذا الوصف العظيم أن يحتكِم العبد في أمره كلّه إلى الله ورسوله، وأن لا يتردّد في ذلك ولا يتباطأ فيه، بل ما هو أعلى من ذلك وهو التسليم المطلق لله ولرسوله ، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، قال ابن كثير رحمه الله: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول في جميع أموره، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا"اهـ.
وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، قال ابن القيم رحمه الله: "فدلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكم طلبي أو خبري فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام فيما قاله الشافعي"اهـ.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، قال ابن القيم: "فإذا كان الله سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه فأيّ تقديم أبلغ من تقديم الإنسان عقله على ما جاء به.. ثم قال: ومعلوم قطعًا أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به النبي فهو مِن أعصى الناس له وأشّدهم تقدمًا بين يديه، وإذا كان الله سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] فكيف بمن يرفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به؟!"اهـ.
ومن هنا نعلم ـ أيها الإخوة ـ خطورة التلاعب والعبَث بالنصوص والمسلَّمات والثوابت الشرعية كما هو حاصل كثيرًا عبر ما يُقرَأ أو يشاهد أو يسمع أو تلكوه الألسن في بعض المجالس العامة من أنصاف المتعلمين وأرباعهم، ناهيك أهل الجهل والهوى، وثالثة الأثافي ذلكم العبث الموجود في مواقع الإنترنت، حتى أصبح أولئك يتصدّرون للحسم والقطع في مسائل وقضايا لو عرِضت على عمر لجمع لها أهل بدر، فنسأل الله العفو والعافية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، الوقفة الثانية مع هذا الحديث: مع قوله تعالى: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)).
الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهو نوعان: أولهما ظلم النفس وأعظمه الشرك كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فَعَبَدَهُ وتألّهه، ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر، فالعبد حين يوبق نفسَه بالمعاصي فيوردها موارد العطب والهلاك يكون من أعظم الظالمين، زيّن له الشيطان سوء عمله فرآه حسنًا، فَدَأَبَ على المعاصي والآثام حتى صدق فيه قول الشاعر:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحتـه أتعبتَ جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وأما النوع الثاني من الظلم فهو ظلم الغير ومنهم الأولاد، فكم يقع من كثير من الآباء ظلم لهم، فهذا مشغول بتجارته، وذاك غارق في عقاراته وعماراته، وآخر مستهلك بوظيفته صباح مساء، ورابع لا يكاد يضع عصا الترحال عن عاتقه، وآخر يقطع ليله مع أصدقائه ونهاره في عمله، وسادس مشغول بزوجه الجديدة التي ملكت عقلَه وقلبه ووقته، حتى أضحى كثير من الأولاد أيتامًا وآباؤهم على قيد الحياة.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى لـه أمًّا تخلّت أو أبًا مشغولا
وليست المشكلة فحسب أنّ هؤلاء الأولاد لم يجِدوا من يربّيهم، بل المشكلة أيضًا أن هناك وسائلَ بديلة قامت بتربيتهم، فالإعلام بوسائله المتنوعة المؤثّرة يستلم الطفل أو الشابّ أو الزوجة منذ دخوله المنزل إلى أن ينام بكلّ برامجه وصوَره ومُسَلْسَلاته، حتى أصبح الإنسان يستطيع أن يشاهد مئات القنوات التي تصور له أوضاع الشعوب الأخرى وكيف يعيشون وما هي أنماط أخلاقهم وسلوكهم في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إننا نتساءل بكلّ ألم وحسرة: أين الأب الذي يسأل ولده كلّ يوم عن أمر صلاته وهل أداها في وقتها وحافظ عليها حيث ينادى بها؟! أين هو عنه حين يعكف ويشاهد ما يعرض عبر القنوات الإباحية أو يتداول مع أقرانه الصورَ الفاضحة، بل يرتادون أماكن لا يدري عنها الأب كمقاهي الإنترنت ويتنقلون بين المواقع السيئة؟! وكم ليلة أمضاها ونهارٍ قطعه خارج البيت مع أصحابه وأصدقائه وأنت بعيد عنه لا تدري متى ذهب أو جاء؟!
عباد الله، وثمة نوع آخر من ظلم الغير وهو الظلم بين الأزواج في إضاعة الحقوق والتفريط في الواجبات، حتى أضحت بعض البيوت جحيمًا لا يطاق، فكثرت المشكلات والخلافات، مما يؤدي إلى الطلاق وتفرق الأسرة وتشتّت الأولاد.
أين الزوج الذي يرعى الذمَم؟! أين صاحب الأخلاق والشيم؟! كم من الأزواج من يأخذ زوجته من بيت أبيها عزيزةً كريمةً ضاحِكة مسرورة ثم يردّها بعد أيام قليلة حزينة باكية ذليلة.
لقد كثر الطلاق اليوم حينما استخفّ الأزواج بالحقوق والواجبات وضيّعوا الأمانات والمسئوليات، سهرٌ إلى ساعات متأخّرةٍ، يُضحِك البعيد ويبكي القريب، يؤنس الغريب ويوحش الحبيب. كثر الطلاق اليوم حينما قلّ من الأزواج من يغفِر الزلّة ويستر العورة والهنّة، حينما قلّ من يخاف الله ويتقيه ويرعى حدوده. كثر الطلاق اليوم حين قلّت الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله. كثر الطلاق حينما أصبحت المرأة طليقة اللسان طليقة العِنان، تخرج متى شاءت وتدخل متى أرادت. كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات في كلّ صغير وكبير وجليل وحقير، حتى ينتهي الأمر إلى الطلاق والفراق.
أيها الإخوة، بقي في الحديث وقفات أخر، نسأل الله أن يمدّ في الأعمار لنتحدّث عنها في الجمعة القادمة إن شاء الله.
| |
|