molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: في ظلال الثقة - أمير بن محمد المدري الخميس 27 أكتوبر - 5:35:47 | |
|
في ظلال الثقة
أمير بن محمد المدري
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى كما أمر، واتركوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، وأعلموا أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
سنعيش ـ عباد الله ـ وإياكم في ظلال الثقة بأنواعها.
الثقة بالله ـ أيها الأحباب الكرام ـ هي خلاصة التوكل على الله، وهي قمة التفويض إلى الله، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر: 44].
الثقة ـ أيها المسلمون ـ هي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك.
الثقة هي التسليم المطلق للملك جل وعلا، هي الاستسلام لله عز وجل؛ فهو الأعلم بما يصلحنا، وهو الأعلم بما ينفعنا وما يضرنا، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
الثقة بالله هي كما قال شقيق البلخي: "أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحك شيئًا دون الله"، يعني: في طاعته واجتناب معصيته. وقال بعض السلف: "صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء".
الثقة بالله تعالى هي التي شجّعت أم موسى، وفي ذلك يقول تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]؛ إذ لولا ثقتها بربها لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه، وينطلق به الموج إلى ما شاء الله، لكنه أصبح في اليمّ في حماية الملك جلّ وعلا ورعايته، وما كان جزاء هذه الثقة العظيمة؟ قال تعالى: فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون [القصص:13].
الثقة بالله نجدها جليّة عندما انطلق موسى ومن معه من بني إسرائيل هاربًا من كيد فرعون، وتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدونًا، فقال بنو إسرائيل وهم مذعورون مستسلمون: لا مهرب ولا نجاة إنا لمدركون؛ فرعون وجنوده من خلفنا والبحر من أمامنا، لكن موسى الواثق بالله وبمعية الله أراد أن يبعد الخوف والهلع ويضع مكانه السكينه والطمأنينة، فأجاب بلسان الواثق: قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، إن معي ربي يساعدني ويرعاني ويحفظني ولن يسلّمني، فما كان جزاء هذه الثقة العظيمة؟ جاء الفرج من الله جل وعلا: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]. ونجّى الله موسى وبني إسرائيل من كيد فرعون.
عباد الله، الثقة بالله تنجلي جليّة واضحة في سيرة نبينا محمد ، فهو سيد الواثقين بالله فبينما هو في الغار والكفار بباب الغار قال أبو بكر خائفًا: يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فقال بلسان الواثق بالله: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)). وعندئذ تنجلي قدره ذي العزة والجبروت؛ فيرد قوى الشر والطغيان، ويُسجِل القرآن هذا الموقف، قال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وفي عزوة الأحزاب نرى صورة المؤمنين الواثقين بربهم وبتأييده وعونه، قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
ها هو النبي يلقن الأُمة درسًا في الثقة بالله، فيقول لابن عباس: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)).
إن المسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن ُيتركه ولن يُضيعه، إذا ما تخلى عنه كل من في الأرض فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس.
والإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأنه لا حول لأيّ قوّة في العالم ولا طول لها إلا بعد أن يأذن الله. الإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا الكون وما فيه من أنواع القوى ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله، تجري بأمر الله وتتحرك بقضائه وقدره، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقا [الجن:13].
الواثق بالله تراه دائمًا هادئ البال ساكن النفس، إذا ادلهمت وزادت عليه الخطوب والمشاكل فهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولسان حاله: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
عباد الله، من أنواع الثقة الثقة بالنفس، فعلى المسلمين أن يثقوا بأنفسهم ثقة ليس فيها خور ولا ضعف، قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، قال الألوسي: "فلا تهنوا ولا تحزنوا أيها المؤمنون؛ فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه".
الثقة بالنفس، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. لماذا الخور والضعف والهوان؟! نحن الأعلون مبدأ، والأعلون سندًا، والأعلون منهجًا، ربنا الرب الكريم العظيم، ورسولنا النبي الرحيم، وكتابنا القرآن الحكيم.
ها هو إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه في واد غير ذي زرع في صحراء خالية، لا ماء ولا طعام ولا جيران، فتقول زوجته: يا إبراهيم، لمن تتركنا؟! لمن تدعنا يا إبراهيم؟! فلم يجب، فقالت: يا إبراهيم، آلله أمرك بهذا؟ فأشار نعم، قالت: إذا لن يضيعنا. والكريم جل وعلا حقًا ما ضيّعهم.
قيل لإبراهيم بن أدهم: ما ِسر زهدك في هذه الدنيا؟ فقال: "أربع: علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به أحد سواي فانشغلت به، وعلمت أن الموت لا شك قادم فاستعددت له، وعلمت أني لا محاله واقف بين يدي ربي فأعددت للسؤال جوابًا"، وقال عامر بن قيس: "ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنا فيه: قرأت قول الله تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [الأنعام:17] فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضرا لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعه عني، وإن أراد أن يعطيني شيئًا لم يقدر أحد أن يأخذه مني، وقرأت قوله تعالى: فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152] فاشتغلت بذكره جل وعلا عمّا سواه، وقرأت قوله تعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6] فعلمت وأيقنت وازددت ثقة بأن رزقي الله لن يأخذه أحد غيري".
أسال جل وعلا أن يجعلنا وأياكم من أهل الايمان والتقوى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالى جواد كريم.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، ومن أنواع الثقة الثقة بثواب الله؛ فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله، أي تسبيحه أو تحميده أو صدقه أو حركة يتحركها لعز الإسلام فسيكتب الله له الأجر على ذلك، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120].
عباد الله، هل نحن واثقين كل الثقة فيما عند الله من جزاء وجنة ونعيم؟! إذًا لماذا لا نعمل لننال ذلك الجزاء؟! قال الربيع بن خيثم: "إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب الله: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَـٰعِفْهُ لَكُمْ [التغابن:17]، وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
ومن أنواع الثقة الثقة بنصر الله، فالله وعدنا بنصره إن كنّا مؤمنين ونصرنا دينه ورفعنا رايته، فالمسلم يوقن بأن الله ناصره وناصر دينه مهما طال الزمن، ومهما قويت شوكة الباطل، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، وقال تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51].
هذا وصلوا وسلموا على المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله، فمن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرا...
| |
|