molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: وقفات من حياة عمر (2) - إسماعيل الخطيب الأحد 23 أكتوبر - 11:32:16 | |
|
وقفات من حياة عمر (2)
إسماعيل الخطيب
الخطبة الأولى
أما بعد:
لقد عرف سيدنا عمر بن الخطاب بمواقفه الحميدة تجاه كتاب الله وسنة رسوله، فلقد كان رضي الله عنه يهتدي بهديهما، ويسير على نهجهما، خصوصاً ما يتعلق بعقيدة التوحيد، التي هي عقيدة السلف والخلف الصالحين من هذه الأمة، فها هو عمر يقول بعد تقبيله للحجر الأسود: (قد علمت أنك حجر لا تضر ولا تنفع، أما والله لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)[1].
وهو درس من عمر يلقنه للمسلمين في كل عصر ومكان، يثبت في قلوبهم أنه لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يخفض ولا يرفع، ولا يعز ولا يذل إلا الله تعالى، فجميع النعم مصدرها وواهبها هو الله سبحانه: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وما بكم من نعمة فمن الله [النحل:54].
وقد نعى الله على الذين يعبدون الأحجار والأشجار بدعوى التبرك والتوسل فقال عز من قائل: أَفَرَءيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلاْخْرَىٰ [النجم:20، 21]، فهذه الأوثان الثلاثة هي أعظم أوثان أهل الجاهلية من أهل الحجاز، فاللات لأهل الطائف ومن حولهم من العرب، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال.
قال ابن كثير رحمه الله: اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف، له أستار وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها.
قال ابن جرير: "وكانوا قد اشتقوا من اسم الله فقالوا: اللات يعني مؤنثة من الله تعالى الله عن قولهم".
ولا منافاة بين ما ذكره البخاري وغيره من عبادتهم الصخرة التي كان يلت السويق عليها فسميت باسمه وعُبد قبره لما مات.
وأما العزى قال ابن جرير: "كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها" كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى، ولا عزى لكم، قال رسول الله : ((قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)).
ويتبين من الآية أيها المسلمون أن عبادة المشركين للات والعزى إنما كان بالتفات القلوب رغبة إليها في حصول ما يرجونه ببركتها من جر نفع أو دفع ضر، فصارت أوثاناً تعبد من دون الله وذلك من شدة ضلال أهل الكفر وفساد عقولهم كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَـٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ [يونس:18]، فصار عبادة القبور وعبادة الشجر والحجر هو شرك المشركين، وقد جرى ذلك وما هو أعظم في أواخر هذه الأمة.
نعم أيها المسلمون: لقد كان عمر يخاف على المسلمين من أن يعودوا إلى الشرك بعد أن حمل رسول الله الدعوة إلى التوحيد مدة ثلاث وعشرين سنة، يبلغ فيها للناس أن الله لا شريك له.
ودرس آخر في العقيدة نأخذه منه ، حيث كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله تحتها بيعة الرضوان، فيُصلّون عندها، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت، وقال: (أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى، ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد).
إنه يريد أن يدع القلوب متعلقة بخالقها، تهتف باسمه وحده، وتلهج بذكره وحده، وتعلن شكره على نعمه وحده وتجأر إليه بالدعاء وحده، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ولا لعبد صالح، وبالأحرى لشيطان مارد، أو حجرة صماء، أو شجرة جامدة، ومنع الناس من التعلق ببعض آثار الأنبياء حتى ولو كانت شجرة ذكرها الله في القرآن، لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ [الفتح:18]، فهي وإن كانت شجرة رفع الله من شأنها حيث جلس تحتها رسول الله يأخذ العهد من الصحابة الكرام على جهاد المشركين والدفاع عن الإسلام، ورد الاعتداء، وإن كانت كذلك فهي لا تعدو أن تكون شجرة ككل الأشجار، تحتاج إلى الماء والسقيا، وإلى الرعاية والعناية من صاحبها الذي يملكها، لأن مُنبِتها هو الله.
ومثال ثالث يشهد لما كان عليه عمر من العقيدة الصحيحة، التي كان يأمر بها الأمة الإسلامية، ويحذرها من الشرك والبدع والخرافات، فعن المعرور قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـٰبِ ٱلْفِيلِ [الفيل:1] و لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ [قريش:1] فلما انصرف رأى الناس هلعين جداً، فبادروه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مسجد صلى فيه النبي ، فقال: (هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من عرضت له صلاة فليصل، ومن لم تعرض له صلاة فليمض).
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله في التعليق على هذه الحادثة: "فأنت ترى أنه آثر اتباع السنة مع ما خفي عليه من السبب"، ويؤخذ من هذا أمر مهم يخطئ في فهمه كثير من الناس في يومنا هذا، هو أنهم يحبون أن يجعلوا ما يظهر لهم من فائدة الأوامر الشرعية وسبب النواهي علة لهذه الأوامر والنواهي، فإذا ظهر لهم أن الصيام مقوٍ للجسم ينمي للإرادة ظنوا أن ذلك هو علة إيجابه، وأنها إذا انتفت انتفى الإيجاب، ويسألون دائماً عن فوائد الأحكام الشرعية، فإذا لم تظهر لهم فائدتها لا يعملون بها، في حين أن الإسلام جاء من التسليم، ومعنى المسلم الذي سلم ووافق إجمالاً على اتباع كل أمر يأمر به الله ورسوله ، وترك كل نهي ينهى الله ورسوله عنه وأن علة الوجوب الأمر، وعلة الحرمة النهي، أما المنافع التي تعود عليها الأوامر والنواهي فحقيقة وموجودة، ولكن لا يشترط أن تظهر لنا دائماً، فإن ظهرت لنا حمدنا الله عليها وزادتنا يقيناً، وإن خفيت لم يُدْخل خفاؤها الشك على نفوسنا، ولا نقصر في الطاعة والامتثال، وهذا أمر عظيم يجب أن يتنبه له المسلمون، لأن الحُسن والقبح شرعيان، ولأن عقل الإنسان لا يكون دائماً مقياس الصحة، ولا يمشي دائماً مع الحق، فمن أراد أن يقيس الدين بعقله فهو ضال ضلالاً بعيداً والعياذ بالله.
[1] أخرج هذا الأثر الشيخان ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والدارمي وغيرهم.
الخطبة الثانية
أما بعد، ما زلنا أيها المسلمون مع شدة عمر في الحق، وخوفه من الشرك، وتحذيره من البدع، حتى أنه كان أحياناً يصدر منه خطأ ليصلحه رسول الله فيما بعد، خصوصاً فيما يتعلق بقراءة القرآن وسنة النبي ، فقد قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ مع حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبّرت حتى سلم فلبَبْته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأها؟ قال: أقرأنيها رسول الله، قلت: كذبت فإن رسول الله قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله : أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله : ((كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه)).
أيها المسلمون، لقد كان لعمر كثير من الكرامات التي أكرمه الله بها في الدنيا، وأعظمها أنه جعله وزيراً لرسوله بعد أبي بكر الصديق، وأن الله استجاب فيه دعوة الرسول حينما قال: ((اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك))، وجعله خليفة المسلمين بعد موت أبي بكر.
غير أن هناك كرامات وهبه الله تعالى إياها لمنزلته عنده، ولمحافظته على عقيدته الإيمانية وعقائد المسلمين الصحيحة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله، وإبطال الخرافات والشرك والبدع عنها.
ومن هذه الكرامات أنه كان يخطب يوم الجمعة بالمدينة فقال في خطبته: (يا سارية بن حصن، الجبل الجبل، من استرعى الذئب ظلم، فالتفت الناس بعضهم إلى بعض فلم يفهموا مراده، فلما قضى صلاته قال له علي: ما هذا الذي قلته؟ قال: وسمعته؟ قال: نعم أنا وكل من في المسجد، قال عمر: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه، وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج مني هذا الكلام).
فجاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتاً يشبه صوت عمر يقول: يا سارية بن حصن، الجبل الجبل، فعدلنا إليه ففتح الله علينا.
الله أكبر هكذا يكرم الله عباده المتقين، ويفي بعهده لهم سبحانه، ومن أوفى بعهده من الله حينما قال سبحانه: وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وحينما قال تعالى في حق مريم: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [مريم:37] قال بعض المفسرين: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
وكرامة أخرى تذكرها كتب السيرة نذكرها للشهرة لا للصحة، وهي أنه لما فتح عمرو بن العاص أرض مصر أتى أهلها إليه حين دخل بؤنة (من أشهر العجم) فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: بأنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر عند أبويها فأرضيناهما وأخذناها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل، فيجري، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا ثلاثة أشهر وهو لا يجري قليلاً ولا كثيراً.
فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: أن قد أصبت: إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها داخل النيل إذا أتاك كتابي، فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فعرفهم عمرو بكتاب أمير المؤمنين وبالبطاقة، ثم ألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.
بقي علينا أن نعرف شيئاً عن أَوَّليات عمر، والمراد بالأَوَّليات عند المؤرخين وكتاب السير هي الأمور التي ابتدعها وأحدثها ولم تكن من قبله، واجتنبوا لفظ البدع ولفظ المحدثات لأنها صارت علماً مع ما يحدث في الدين ولا يستند فيه إلى سنة مأثورة أو نص ثابت، والبدع في العبادات وفي ما لا يُرجع فيه إلى النص مذمومة قطعاً يكفي فيها قول النبي : ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) وقول الرسول في الحديث الصحيح: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، ورواية مسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
أما البدع والمحدثات في أمور الدين فتقاس على أشباهها ونظائرها، فما كان من قبيل المصالح المرسلة فهو جائز مطلوب، ولقد كثرت الفتوح على عهد عمر فتدفقت الأموال واختلط العرب بأهل البلاد المفتوحة، فرأوا من العادات والمعاملات ما لا عهد لهم بمثله، واحتاجوا إلى معرفة حكم الله فيه، وكان عمر هو المرجع في ذلك كله، فاستنبط من أصول الدين النظام المالي للدولة الإسلامية، فكان أول من قرر أساسه ووضع أساس النظام القضائي، وكانت قضاياه وأحكامه هي المرجع فيه، ووضع أساس النظام الإداري، وإليكم أيها المسلمون بعض أوليات عمر:
فمنها أنه كان أول من عسّ في عمله في المدينة، وأول من حمل الدرة وأدب بها، وأول من مصّر الأمصار: الكوفة والبصرة والجزيرة والفسطاط ومصر، وأول من استقضى القضاة في الأمصار، وأول من دوّن الدواوين وكتب الناس فيها على قبائلهم وفرض لهم الأعطية من الفيء.
وأول من حمل الطعام في السفن في البحر، وأول من اتخذ دار الدقيق، فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر وما يحتاج إليه يعين به المنقطع والضيف ينزل بعمر، ووضع في طريق السبل بمكة والمدينة ما يصلح من ينقطع به ويحمله من ماء إلى ماء، وأعاد بناء مسجد رسول الله، وزاد فيه، وأدخل فيه دار العباس وأخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقاً بالبيت، وأول من قيل له يا أمير المؤمنين من الخلفاء، وأول من أوقف ماله في سبيل الله في الإسلام، حيث أوقف أرضاً بخيبر، وأول من اتخذ بيت المال ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر، وأول من ضرب فسطاطاً على قبر فقد مرّ بحفارين يحفرون قبر أم المؤمنين زينب بنت جحش في يوم صائف فضرب عليهم فسطاط ليحميهم من الشمس لا لتعظيم القبر، وهو أول من جمع الناس في التراويح في رمضان، وأول من جلد في الخمر ثمانين جلدة، يقول عبد الرحمن بن عوف: وأول من قنت في النصف الأخير من رمضان.
أما أهم ما كان من أولياته فهو أول من وضع تاريخ المسلمين، واتفقوا في بداية التاريخ من شهر الله المحرم من هجرة رسول الله .
قال أبو عمران الجوني: مر عمر بن الخطاب بدير راهب فناداه: يا راهب، فأشرف عليه، وجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:2-4] فذلك الذي أبكاني.
| |
|