التحذير من تضليل عشاق الدنيا
الشيخ سليمان المدني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مبتكر الصنائع, ومكون البدائع, الذي ليس له في ملكه منازع, ولا لقضائه دافع, ولا تضيع عنده الودائع, وهو الضار النافع, الخافض الرافع, لجبروته خضعت الأرض والسماء, ولعزته ذلت الملوك والعظماء, وبلطف حكمته انتظمت الأسباب والأشياء.
نحمده سبحانه حمداً كثيراً وحمده من النعماء, ونشكره تعالى جده شكراً جزيلاً وشكره من الآلاء, ونتوكل عليه عز شأنه في حياطتنا مما يبيت لنا الأعداء, ونستدفعه شر ما يعرج من الأرض وما ينزل من السماء, ونسأله العافية من الجهد والبلاء, والتوفيق لنيل مراتب السعداء.
ونشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له في الأرض ولا في السماء, ولا شبيه له في العظمة والكبرياء, ولا مثل له في العز والبهاء, ولا ند له في الجبروت والآلاء, ولا مثيل له في الكرم والعطاء, ترفع عن مجاورة القرناء, وتنزه عن المشاركة في الصفات والأسماء.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده الذي اختاره من أفضل أرومة, واستخرجه من أشرف جرثومة, فأرسله بالحق داعياً وبشيرا, وعلى الخلق شاهداً وعذيرا, وللبرية هادياً ونذيرا, فبلغ رسالات ربه غير وانٍ ولا مقصر, وجاهد أعداء الله غير واهنٍ ولا معذر, حتى استبان مهيع الرشد للمدلجين, واتضح نهج الصدق للمتقين, ورغمت لعقيدة التوحيد آناف المشركين, وخفقت على أرض الله راية الموحدين.
صلى الله عليه وآله الأقمار الساطعة في حنادس الجهل العاكر, وشموس السائر في ظلمات الدياجر, مصابيح الحقيقة لكل مسترشد حائر, أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
عباد الله أوصيكم ونفسي الآثمة قبلكم باستشعار شعار الخوف والتقوى, والتمسك بعروتها الوثقى, والتحلي بحلية الصالحين, واتباع الأنبياء والمرسلين, وأحذركم بادئاً بنفسي الذاهلة, التي هي عن طرق اكتساب الفضائل غافلة, من الانصياع لوسوسة الشياطين, واتباع مناهج المارقين, والتصارع على جيفة هذه الميتة المنتنة, والخبيثة النتنة, فإن حبها من أعظم الكبائر عند رب العالمين, بل الرغبة في علو درجاتها سبب كل وهنٍ في الدين, فإن الله سبحانه وتعالى بعث للبشر مائة ألف وعشرين ألف نبي وجعل لكل نبيٍ منهم وصياً أو أكثر يبلغون للبشر أحكامه, ويشرحون شرائعه, ويقودون الناس إلى مهيعه, فما أغنوا في ذلك شيئا, وما تمكنوا أن يجتثوا جذور الشر من بين بني آدم, وما ذلك إلا بسبب تزيي عشاق الدنيا بزي الأوصياء, وتلبس طلاب الرئاسة بثياب الأتقياء, فاختلط على الناس الصادق والكاذب، ولُبِس عليهم الحقُ بالباطل, فأصبحوا في الشبهات يعمهون, وعن طريق الحق يتنكبون, وبعد أن كانوا أمة واحدة أصبحوا شيعاً يتقاتلون, يقول سبحانه وتعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ1؛ نعم اختلفوا فيه من بعد ما جاءتهم البينات, فإن رسل الله وأنبياءه بينوا لهم مقاصد الكتاب ومعانيه, وشرحوا لهم أهدافه ومراميه, فهم لم يختلفوا بسبب انسداد باب العلم عليهم, ولا لإنغلاق طرق المعرفة في وجوههم, حاشى الله سبحانه أن يوصد باب العلم على قوم ثم يؤاخذهم على ما ارتكبوا بسبب عجزهم عن الوصول إلى الحقية, أو يذمهم على اختلافهم وهو الذي حجب عنهم أمر الحجة, ولكنهم اختلفوا مع قيام الحجة عليهم, وتوضيح البينة لهم, لأن عشاق الدنيا أصروا على البغي والتكبر, عشقوا مجد الدنيا, وأحبوا زعامتها, فبغوا في الأرض واستكبروا, فكل الأمور يجب أن تصدر عنهم وتعود إليهم, وإلا فهي الباطل الذي يجب إزالته ومن رفض الإنصياع لهم والسير وراءهم, والالتفاف بهم فهو خارجٌ على الدين, مارقٌ من حظيرة المؤمنين, يحل ماله ودمه, وتستباح حُرمه, وليس له حقٌ حتى فيما تحت يده وأوغروا صدور الناس بعضهم على بعض حتى فرقوا بين الوالد والولد, وأولوا آيات الله بما تهوى أنفسهم, وفسروا كلماته بما يؤيد رغباتهم, فأضلوا كثيراً من الخلق, ليتأمروا عليهم, ودفعوهم إلى معاداة أهل الحق بما شبهوا عليهم, فاتخذوا مال الله خولا, وعباده دولا, وأصبح أهل الحق منبوذين من قومهم, مستضعفين في ديارهم, وتنشأ الأجيال لا تفقه إلا ما سمعته من رهبانها, وأحبارها يحلون ما أحلوه لهم, ويحرمون ما حرموه عليهم, وإن كان ما ذهبوا إليه مخالفاً لكتاب الله, مناقضاً لشرائعه, فهم يعبدون علماءهم ظانين أنهم يعبدون الله لأنهم حسنوا في أعينهم القبيح, وقبحوا في أنظارهم الحق الصريح, حتى عاد المؤمنون أحزاباً متناحرة, وفرقاً متضاربة، وشيعاً مختلفة.
فيا عباد الله اتقوا الله ولا يغرنكم طلاب الدنيا وعشاق الزعامة عن أنفسكم, فيحسونون لكم الحرام من أجل الوصول إلى رغباتهم, ويحرفونكم عن جادة الحق حتى يمتطوا ظهوركم, ويصلوا إلى مبتغاهم على أيديكم, وإن أدى ذلك إلى هلاككم وإبعادكم عن خالقكم, فتكونون عندئذ ممن خسر آخرته بدنيا غيره, لا تنظروا إلى زهد الرجل في المطعم والملبس فإن الله سبحانه لم يحرم على المؤمن أن يأكل مما أخرجه لعباده من الرزق, ولم يمنعه من التزين بما قدر عليه من الثياب والمتاع، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ2, إذا أردتم أن تختبروا زهد الرجل فاختبروه في حب المدح والثناء, اختبروه في حب خفق النعال خلفه, اختبروه في حب الوصول إلى مقام الزعامة والرئاسة, هذه هي بهجة الدنيا, وهذا مجدها, فإن كان من محبي العلو فيها والرفعة, إن كان من محبي التمجيد والمدح, إن كان من عشاق شيءٍ من هذا فليس هو من الزاهدين, وما له في الآخرة من نصيب, يقول سبحانه وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ3.
جعلنا الله وإياكم ممن تمسك بالعروة الوثقى, وتدثر بملاحف التقوى, وتقدم إلى ربه بالسبب الأقوى, وكفانا وإياكم شر أنفسنا قبل شر الأعداء, إنه سميعٌ مجيب.
إن خير ما تلاه خطيب, وتأمله أريب, كلام الله الرقيب الحسيب، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْقَارِعَةُ & مَا الْقَارِعَةُ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ & يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ & وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ & فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ & فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ & وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ & فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ & نَارٌ حَامِيَةٌ4.وأستغفر الله لي ولكم إنه غفورٌ رحيم وتوابٌ حليم.
1 سورة البقرة: 213
2 سورة الأعراف: 32
3 سورة القصص: 83
4 سورة القارعة
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تزلفاً لحضرته, وطلباً لمثوبته, واستزادةً من كرامته, وفراراً من عقوبته, ودخولاً في سعة رحمته, والحمد لله الذي لا تجري الأقضية إلا بإرادته, ولا يضر شيءٌ في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئته, خلق الكائنات بكلمته, ودبرها بحكمته, فهي خاضعةٌ لقدرته, مستجيبةٌ لدعوته, مذعنةٌ لعزته.
أحمده سبحانه حمداً يؤهل صاحبه لتسنم أعلى الدرجات, وأشكره تعالى شكراً يقتضي المزيد من الخيرات, ويدفع الشديد من البليات, ويضاعف الحسنات, وتمحى به السيئات, وتفرج به الكربات.
وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له, لا تأخذه السنة, ولا تغلطه الألسنة, رافع الأعمال الحسنة, والهادي إلى الطرق المستحسنة, القادر على تبديل السيئة بالحسنة.
وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله, عبده المعصوم من الهفوات, المتحلي بأكمل الملكات, ورسوله الخاتم للرسالات, الفاتح لسبل الخيرات, الهادي لأقوم الديانات, الداعي لمسالك الفوز والنجاة, المحذر من الإصرار على المعاصي والموبقات.
صلى الله عليه وآله مصابيح الظلمات, وقادة السادات, المنقذين لمن اهتدى بهم من الضلالات, والداعين إلى ملازمة الطاعات, والحاضين على التخلق بالكمالات, المنزهين عن الأدناس والدناآت, الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الآثمة التائهة في أودية الغفلة والنسيان بتقوى الله سبحانه, واستشعار لباس مخافته, والعمل على تلافي ما فرطتم في مرضاته وطاعته, وتجديد التوبة والندم على معصيته, فلا يخدعكم الأمل بالتسويف عن الرجوع إلى ساحته, وتأدية فروض عبادته, ولا تتلهوا بالإنهماك في جمع حطام الدنيا عن الحضور في ميادين خدمته, ولا تعرضوا أنفسكم لسخطه ونقمته, من أجل ما لا تتمكنون من تحصيله إلا بتقديره ومشيئته, طهروا قلوبكم من أدران السيئات, بالإكثار من فعل الحسنات, ونقوا ضمائركم بعمل الخيرات, مما ران عليها من نتائج المخالفات, وأدبوا أنفسكم على الإقلاع عن العصبيات, والتمسك بحبال الأهواء والرغبات, فإنها من أعظم المهلكات, وأشد الموبقات, واعملوا على فكاك رقابكم من قيود المذلة والصغار, وتخليصها من مقامع النار, قبل أن يفلت من أيديكم الاختيار, وتنتهي منكم الأعمار.
ألا وإن من أعظم ما يقرِّبُ من الرحمن, يطفيء لهيب النيران, وتكتسب به غرفات الجنان, هو الصلاة والسلام على محمدٍ وآله سادات الزمان.
اللهم صلِّ على بدر سماء النبوة المشرق على العباد, بأنوار الهداية والرشاد, وشمس نهار الرسالة الناسخة ببراهينها غياهب الكفر والإلحاد, الدائس بنعال شرفه هامة الفخر والسؤدد, النبي العربي المؤيد, والرسول الأمي المسدد, أبي القاسم المصطفى محمد.
اللهم صلِّ على صاحب الكرامات والمعجزات, وحلال عويصات المشكلات, وخواض الحرائب والغمرات, والد السبطين, الضارب بالسيفين, الإمام بالنص علي بن أبي طالبٍ أمير المؤمنين.
اللهم صلِّ على بنت النبي وبضعته, وأم سبطيه وحبيبته, التي خلفها في أمته, حتى قضت بغصتها حسرى, ومقلةٍ عبرى, العقيلة الحوراء, أم الحسنين فاطمة الزهراء.
اللهم صلِّ على بدري فلك الولاية والإمامة, المشرقين بأنوار العدل والاستقامة, المنخسف سناهما بحلولة المظالم الأموية, والمحتجب ضياؤهما بانحراف تلك الأمة الغوية, حتى جرعا كؤوس المصائب الدوية, هذا بنقيع السم نال الردى, وذاك في أرض الطفوف مسلوب العمامة والردى, السيدين السعيدين, والإمامين المنصوصين أبي محمدٍ الحسن وأخيه أبي عبد الله الحسين.
اللهم صلِّ على مصباح ليل المتهجدين, بل قمر سماء الموحدين, وناشر راية الحق واليقين, الإمام بالنص أبي محمدٍ علي بن الحسين زين العابدين.
اللهم صلِّ على الكوكب الزاهر في سماء المفاخر, والبحر الزاخر باللؤلؤ الفاخر, والفيض الراشح بالمكارم والمآثر, الإمام بالنص أبي جعفرٍ الأول محمد بن عليٍ الباقر.
اللهم صلِّ على الوميض البارق, في ديجور الجهل الغاسق, مفتض أبكار الحقائق بفكره الفائق, لسان الحق الناطق, الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق.
اللهم صلِّ على بيت قصيد المآثر والمراحم, وعنوان صحيفة الأكابر والأعاظم, شمس نهار المفاخر والمكارم, الإمام بالنص أبي إبراهيم موسى بن جعفرٍ الكاظم.
اللهم صلِّ على مؤسس صروح العلم بعد الإنطماس, ومشيد بروج الفقه بعد الإندراس, مجمع بحري التسليم والرضا, الإمام بالنص أبي الحسن الثاني علي بن موسى الرضا.
اللهم صلِّ على معبد طرق الهداية والرشاد, وناشر ألوية الفضيلة والسداد, ووارث مقام السادة الأجواد, الإمام بالنص أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليٍ الجواد.
اللهم صلِّ على زينة المحافل والنوادي, وصاحب الفضائل والأيادي, الذي أقر بفضله الموافق والمعادي, الإمام بالنص أبي الحسن الثالث علي بن محمدٍ الهادي.
اللهم صلِّ على مفسر الآيات, المبين بحكمته ما خفي من البينات, والماحي بنور علمه طروس الشبهات, السيد السري, والليث الجري، الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن بن عليٍ العسكري.
اللهم صلِّ على محيي معالم الدين, وناشر سنة سيد المرسلين, وقاصم شوكة المعاندين, ومزيل دول المبطلين, المؤيد بالنصر المؤزر, الإمام بالنص مولانا المهدي بن الحسن المنتظر.
عجل الله تعالى فرجه, وسهل مخرجه, وجعلنا من الداخلين في حياطة دعوته, المتشرفين بالوقوف في خدمته, إنه سميعٌ مجيب.
إن أبلغ النصائح والمواعظ, وأمتن ما تفوه به خطيبٌ واعظ, كلام الله الملك الحافظ, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
)إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ1.وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات إنه غفورٌ رحيم.
1 سورة النحل: 90