طلب العلم
الشيخ سليمان المدني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعظيماً لأسمائه, وبخوعاً لكبريائه, وطلباً لنعمائه, ورغبةً في المزيد من آلائه, ودخولاً في ساحة رحمته, وفراراً من موارد نقمته, واعتصاماً بعزته, ولواذاً بقدرته, ردع الأذهان عن التوغل في بديع جماله, وفطر النفوس على التذلل لرفيع جلاله, تقدس عن رؤية نواظر العيون, وتنزه عن روية خواطر الظنون, فتباعدت ذاته عما يقول الواصفون, فسبحانه وتعالى عما يصفون.
نحمده سبحانه حمد راغبٍ في تلكم المنازل السنية, خائفٍ من الحشر مع الزمر الضالة الردية, ونشكره تعالى شكر مستزيدٍ من فيض نعمه الخفية والجلية, ونستعينه على أداء ما أوجب علينا من فروضه الدينية, ونعوذ به من شر إبليس ووسوساته الخفية, ونسأله النجاة من أهوال يوم الصرخة المفزعة الدوية, والحشر في زمرة الرسول وعترته الطاهرة المرضية.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المنان, الرحيم الرحمن, الذي خلق الإنسان وعلمه البيان, وأنزل لهدايته الصحف والقرآن, وكل يومٍ هو في شأن, شهادةً يطابق فيها السر الإعلان, ويوافق فيها الجَنان اللسان, وتصدق فيها القلب الأركان, نغيظ بها ذوي الجحود والعصيان, ون+ب بها القرب من الملك الديان.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله, عبده ورسوله المختار من ذروة المجد والفخار, المبعوث بالبشارة والإنذار حسماً لمادة الشُبَه والأعذار, بعثه والحق منطمس الآيات, منقطع الغايات, والشرك منتصب الأعماد, ذو عدةٍ وأجناد, والناس بين مشركٍ وثني, وملحدٍ ثنوي, فما فتئ صلى الله عليه وآله يقدح مصباحه, ويُنوِّر صباحه, ويصدع بيانه وإيضاحه, حتى ثقف قناة الدين, وفلَّل شُبَه المعاندين, ودان الناس بتوحيد رب العالمين.
ونصلي عليه وآله ذوي الكرم والإحسان, والجود والامتنان, خلفاء الملك الديان, وأمناء اللطيف الرحمن على أحكام القرآن, الذين لهم الفضل على كل أهل العلم والعرفان. الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
عباد الله, أوصيكم ونفسي الجانية الفانية أولاً بتقوى الله سبحانه, والتزام صراطه المؤدي إلى رضوانه, وأحذركم ونفسي قبلكم من التعرض لعصيانه, والدخول في مواطن غضبه وخذلانه, فإنه لا نجاة إلا بطاعته, ولا فوز إلا بترك معصيته, وعليكم بطلب علم الدين وتعليمه, فإن ذلك من أنجح الوسائل عند الله جل وعز شأنه, فبه تصح الأعمال, ويكمل الرجال, وتتحقق الآمال, فإن العامل بدون علمٍ كخابط ليل ما يفسده أكثر مما يصلحه حسب قول رسول الله صلى الله عليه وآله1.
وعليكم أن تبدؤوا بما لا يسع أحداً الجهلُ به, من الأمور الضرورية من دين الإسلام, كالعلم بالعقائد التي لا يتم إيمان المرء إلا بمعرفتها, فإن من لم يكن عارفاً بها وبأحوالها ولو إجمالاً لا يأمن من دخول الشبهة عليه لأدنى الأسباب, ولا يتمكن من رد الملحد والمرتاب, ولا يُفرِّق بين المحق الصادق على الله والكذاب, ثم معرفة تفاصيل ما يجب عليه عمله في اليوم والليلة من العبادات, كالصلاة وال+اة والصوم والحج وما يُشترط فيها من الشرائط والمقدمات, كالنظافة من الأقذار والأخباث, والطهارة من الأحداث, وما يُشترط في ذلك من إباحة الماء والتراب في الطهارة, وإباحة المكان في الصلاة, وهذا العلم هو الذي قال فيه الصادق عليه السلام: "اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج"2, وقال عنه النبي صلى الله عليه وآله: "طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم ومسلمة"3, فلا ينبغي للمؤمن الكيِّس أن يهمل نفسه, فيجيء يوم القيامة عارفاً بكل ما حوت الدنيا من الفنون, عالماً بأخبار السياسة, مطلعاً على سير الاقتصاد, خبيراً بأحوال التجارة, وهو لا يعلم شيئاً من عقائد الإسلام, ولا يدري ما يُسبب بطلان الصلاة أو الصيام, فلا يوجد بينكم وبين الله سبحانه وتعالى من وسيلةٍ تقربكم إليه إلا بالعلم والعمل المبني عليه, يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "اطلبوا العلم فإنه السبب بينكم وبين الله عز وجل"4, وقال صلى الله عليه وآله: "من طلب باباً من العلم يصلح به نفسه أو لمن يأتي بعده كتب الله له من الأجر بعدد رمل عالج"5, وإذا أراد أن يتعلم أحكام دينه فعليه أن يختار لذلك معلماً ناصحاً كفؤاً لما يعلم, مؤمناً به, تقياً متورعا, لا يتخذ تعليم الدين صنعة, ولا يبتغي به رفعة, فعن الرسول الأعظم عليه وآله أفضل الصلاة والسلام: "إن هذا العلم دينٌ فانظروا ممن تأخذونه"6.
فإن قدر الرجل منكم أن يزداد في العلم بأكثر مما يحتاجه لعمله وتعليم ولده فليفعل ذلك, وليخلص لله نيته في تحصيله "فإن الله يحب بغاة العلم"7 كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله, وفي حديثٍ آخر: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب حتى يطأ عليها رضا به"8؛ فإن وافته المنية وهو على تلك الحال لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجةٌ واحدة, ففي مجمع البيان عن أمير المؤمنين سلام الله عليه: "من جاءته منيته وهو يطلب العلم، فبينه وبين الأنبياء درجة"9.
لكن يشترط لتحصيل هذا المقام أن يكون مخلصاً لله في طلب العلم, لا لدنياً يصيبها, ولا لمنزلةٍ يطمح في بلوغها, ولا لغايةٍ غير نشر الإسلام يسعى إليها, وأما من يطلب العلم للغايات الدنيوية, والمصالح المادية, وتحصيل الجاه والرفعة بين الناس, فتراه يتطاول على ذلك العالم, ويزري بهذا الطالب, ويوظف نفسه للطعن على العلماء, وتسفيههم, واستنقاصهم, وتنفير العامة منهم, فإنه لا يثاب على ما علم, ولا يوفق لما رغب, فعن النبي صلى الله عليه وآله: "من تعلم العلم رياءً وسمعةً يريد به الدنيا نزع الله بركته, وضيَّق عليه معيشته, ووكله إلى نفسه ومن وكله الله إلى نفسه هلك"10, وعنه عليه الصلاة والسلام: "خذوا من العلم ما بدا لكم, وإياكم أن تطلبوه لخصالٍ أربع: لتباهوا به العلماء, أو تماروا به السفهاء, أو تراؤوا به في المجالس, أو تصرفوا به وجوه الناس إليكم"11.
وكما يشترط الإخلاص لله في طلب العلم كذلك يشترط في بذله وتعليمه, فإن كان القيام بتعليم العلم من أجل إفادة المؤمنين, وتصحيح أعمالهم, وترويج شريعة سيد المرسلين, فهذا يأتي يوم القيامة نوره لائحٌ بين عينيه, كريمٌ على ربه, عظيمٌ في ملكوت الله, فعن الصادق عليه السلام: "من تعلم لله عز وجل وعمل لله وعلم لله دُعي في ملكوت السماوات عظيما, وقيل تعلم لله وعلم لله"12, ومن علم أحداً من المؤمنين باباً من العلم مخلصاً في ذلك لله عز وجل شاركه في عمله من دون أن ينقص من ثواب العامل شيء, فعن الباقر عليه السلام: "من علم باب هدىً فله أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئا"13.
ثم إن الله سبحانه بمنِّه ورحمته لم يفرق بين العالم وما تركه للناس من علمٍ يعملون به بين حياته وبعد مماته, فالعلم بابٌ من أبواب الخير لا ينقطع, وطريقٌ من طرق اكتساب الثواب لا ينسد, فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام أو كالجبال الرواسي فيقول: يا رب أنَّى لي هذا ولم أعمله؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته الناس يعمل به من بعدك"14؛ وعن أبي بصيرٍ قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من علم خيراً فله أجر من عمل به, قلت: فإن علمه غيره يجري له ذلك؟ قال: إن علمه الناس كلهم جرى له, قلت: فإن مات؟ قال: وإن مات"15.
فواعجباً ممن يسمع هذه الروايات ويعتقد بصحتها, ولا يفرغ نفسه في اليوم ولو ساعة, لتحصيل أحكام دينه, ونشرها وتعليمها, ولو لولده وأهل بيته, وإذا كان عاجزاً عن الطلب كيف لا يحض ابنه ومن يكون تحت إمرته على تعلم أحكام الدين؟ فإن الحاض على الخير كفاعله, أو لم يبلغه قول النبي صلى الله عليه وآله المستفيض بين المسلمين: يموت المرء إلا من ثلاث، صدقةٍ جاريةٍ له في حياته فهي تجري له بعد وفاته، وولدٍ بارٍّ يستغفر له، وكتابُ علمٍ ينتفع به؛ وفي بعض ألسنتها يعمل به16؟
وأعجب من هذا من يوفقه الله لتحصيل شيءٍ من علم الله وعلم نبيه وعلم الأئمة من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولا يُخلص لله في سريرته, بل يستغل ذلك لطلب الجاه والسمعة, والسعي إلى الظهور والمنزلة في الدنيا, فتراه يجهد نفسه في تحصيله, ويضيع وقته في تدريسه لأغراضٍ لا تمت إلى الدين بصلة, ولا تنفع في الحشر حيث لا مفر له.
جعلنا الله وإياكم ممن سار على منهج النبيين, وامتثل نصائح سيد المرسلين, وعمل بوصايا الأئمة الطاهرين, وأنجانا من شباك الوسواس, وحبائل الخناس, وما يحصل للنفوس من تلبيسه الحق بالباطل من الالتباس.
إن أبلغ ما وُشِّحت به الخطب والمواعظ, كلام الله الرقيب الحافظ, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ & اللَّهُ الصَّمَدُ & لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ & وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ17.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه غفورٌ رحيمٌ وتوابٌ كريم.
1 "من عمل على غير علمٍ كان ما يفسده أكثر مما يصلح"بحار الأنوار - ج1 - ص208 - العلامة المجلسي
2 بحار الأنوار - ج75 - ص277 - العلامة المجلسي
3 بحار الأنوار - ج2 - ص32 - العلامة المجلسي
4 بحار الأنوار - ج1 - ص172 - العلامة المجلسي
5 ميزان الحكمة - ج3 - ص2072 - محمدي الريشهري
6 الكامل – ج1 ص151 – عبد الله بن عدي، وروى الشهيد الثاني: "هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" منية المريد - ص239 - الشهيد الثاني
7 الكافي – ج1 – ص30 – الشيخ الكليني
8 بحار الأنوار - ج1 - ص177 - العلامة المجلسي
9 تفسير مجمع البيان - ج9 - ص418 - الشيخ الطبرسي
10 ميزان الحكمة - ج3 - ص2079 - محمدي الريشهري
11 بحار الأنوار - ج2 - ص31 - العلامة المجلسي
12 بحار الأنوار - ج2 - ص29 - العلامة المجلسي
13 الكافي - ج1 - ص35 - الشيخ الكليني
14 بحار الأنوار - ج2 ص18 - العلامة المجلسي
15 الكافي - ج1 - ص35 - الشيخ الكليني
16 "إذا مات المؤمن إنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له" بحار النوار – ج2 ص22 – العلامة المجلسي، "لا يتبع الرجل بعد موته إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها لله له في حياته فهي تجري له بعد موته، وسنة هدي يعمل بها، وولد صالح يدعو له"وسائل الشيعة – ج19 ص172 – الحر العاملي، "خير ما يخلفه الرجل بعده ثلاثة: ولد بار يستغفر له...."بحار الأنوار - ج6 - ص294 - العلامة المجلسي، راجع: بحار الأنوار – ج68 ص257 – العلامة المجلسي - وسائل الشيعة (آل البيت) – ج19 ص174 – الحر العاملي - تحف العقول – ص264 – طبع مؤسسة الأعلمي – الطبعة7 – بيروت 2002م 1423هـ
17 سورة الإخلاص
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أفاض رواشح قدسه على قلوب أوليائه, فهم بنعمته فرحون, وفي ثياب معزته يرفلون, وغمر بنور عظمته وجلاله نفوس أصفيائه, فهم بسنا طلعته مبتهجون, وبمشكاة علمه مهتدون, وشرح بمعرفته عقول أودائه, فهم من خشيته مشفقون, وإلى دار أنسه مشتاقون.
نحمده سبحانه على غوالي آلائه, ونشكره تعالى على عظيم نعمائه, حمداً نستدفع به نوازل بلائه, ونستجن به من كيد أعدائه, ونتوسل به لزيادة عطائه.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الحنان المنان, المنزَّه عن وصمة الحدوث والإمكان, المتعالي عن الحلول في المكان والزمان, المتساوي لديه ما سيكون وما قد كان, المطلع على ما يدور في الجَنان, الداعي إلى الالتزام بمناهج الإيمان, والدخول في دار الأمان.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله خيرة الخيرة من بني الإنسان, وأقرب المقربين عند الملك الديان, عبده المخلص له في السر والإعلان, المجاهد في سبيله عبدة الأصنام والأوثان, ورسوله الذي ختم ببعثته الشرائع والأديان, وكشف بنور حكمته الغشاوة عن بصائر العميان, وأزال ببركة هديه ما ران من الجهل على القلوب والأذهان, وخلَّد ذكره ما خلُد الزمان.
اللهم صلِّ عليه وآله مصابيح الدجى, وكهف الورى, والعروة الوثقى, بأفضل صلواتك, وبارك عليهم بأطيب بركاتك, وحيِّهم بأ+ى تحياتك, وعلى من شايعهم بإيمانٍ وتابعهم بإحسان, إنك حميدٌ مجيد.
عباد الله, اعلموا أن الغاية القصوى من خلق هذا الكون وما فيه من الكائنات، ما في الأرض من الجبال الراسيات, والأنهار الجاريات, والبحار والمحيطات, وما على ظهرها من الدواب الزاحفات, أو على الأرجل قائمات, وما في السماوات من النجوم الزاهرات, والشموس المضيئات, والمجرات المتعددات, وما فيهن من خلقٍ لا يزال بالنسبة إلينا من المغيبات, إنما هو من أجل معرفة الخالق سبحانه وتعالى, ففي الحديث القدسي: "كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ أُعرف فخلقتُ الخلق لكي أُعرف"1, ومن أجل ذلك لا تجد من لا يدرك بأن له صانعا, وأنه في استمرار وجوده محتاجٌ لهذا الخالق, وما إنكار الملحدين إلا لقلةً باللسان, وشبهةً في مقابلة الوجدان, فقضية الحاجة إلى الخالق لا تحتاج لإقامة دليلٍ ولا برهان, وإن كانت تحتاج إلى التنبيه في بعض الأحيان. فليس في صنع المعرفة دخلٌ للإنسان, فعن الإمام الصادق عليه السلام وقد سُئل هل لله على خلقه أن يعرفوه؟ قال: لا, ليس لله على الناس أن يعرفوه, وإنما لهم عليه أن يُعرِّفهم نفسه, وله عليهم إذا عرَّفهم نفسه أن يُطيعوه2؛ فالمعرفة بالله سبحانه وتعالى فطرية, ولولا ذلك لهلك معظم الناس, لعدم معرفتهم بصناعة البرهان وإقامة الأدلة, ولا يفيد فيما لا يجوز فيه التقليد تعليم الأجلة؛ فإن التقليد في الدليل ليس بخيرٍ من التقليد في نتيجة الدليل, فالذي لله على خلقه هو حق الطاعة والالتزام بواجب العبودية, كما هو مؤدى الآية الكريمة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ3؛ أي ليطيعون, لأن حقيقة العبادة هي الطاعة.
واعلم يا أخي أن مقام المولوية يقتضي الطاعة, لكن الله غنيٌ عن هذه الطاعة, أي أنه سبحانه لا يستفيد شيئاً من طاعة من أطاعه من خلقه, فهو من هذه الجهة يختلف عن سائر الموالي, فإنك لا تجد من له المولوية, سواءً على نحو الحقيقة أو على نحو الادعاء, إلا وهو يستفيد من طاعة من هم تحت رئاسته وسيادته, الأب يستفيد من طاعة أبنائه, رئيس العمل يستفيد من طاعة مرؤوسيه, الزوج يستفيد من طاعة زوجته, الحاكم يستفيد من طاعة رعيته, إلا الله سبحانه فإن فائدة الطاعة تعود للمطيع ولا يدخل عليه من طاعة الطائعين فائدة, أو تكون له منهم مصلحة, فهو الغني المطلق جلَّ وعلا.
وكما أنه سبحانه لا يستفيد من طاعة من أطاعه, كذلك لا يتضرر بمعصية من عصاه, أو مخالفة من خالفه, كما يحصل لسائر الموالي, بل يعود ضرر المعصية على العاصي نفسه, ومن أجل ذلك خلت جميع أوامره وجميع نواهيه من الغرض الذي يعود عليه, واتصفت بجلب النفع ودفع الضرر عن المأمور, إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا4.
فإذا عرفت ذلك أيها الأخ المؤمن فاعلم أن مركز الطاعة والعصيان, ومحل النفاق والإيمان حسب تقدير الرحمن, وحسب تعبير القرآن, هو القلب عند نوع الإنسان, فإذا حافظت على نظافته من الأدران, وألزمته طاعة الملك الديان, فزت في القيامة بسكنى الجنان, وصرت من أولياء المنان, وعتقاء ذوي الكرم والإحسان, فإن الرب الكريم لا ينظر إلا إلى القلب السليم, يقول سبحانه وتعالى في وصف ذلك اليوم الأليم: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ & إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ5, وإن تركته مرتعاً للوسواس, ومركزاً للخناس, حتى تلوث بتلك الأدناس, ومُسخ رجساً من الأرجاس, فحارب الرحمن, ومشى في دروب الطغيان, ودعا إلى مناهج الشيطان، فإنك تُساق ذلك اليوم إلى النيران, وتكون قرين الشيطان, فاجهد لنفسك أيها الإنسان, قبل فوات الأوان, وانظر إلى جسمك وثيابك كيف تتسخ بمرور القاذورات عليها, وإن كانت أجزاء لطيفة لا تكاد تحس بالعين, فكذلك القلب يتسخ ويتنجس بارتكاب المعاصي، ومزاولة الملاهي, يقول عز من قائل: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ6, ويقول الرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله إن العبد ليذنب فينكت في قلبه نكتة سوداء, فلا تزال تكبر وتكبر حتى تعم القلب كله7.
فكما تغسل أيها الإنسان بالماء والصابون بدنك وثيابك, وكما تفرك بالمسواك أو بالفرشاة والمعجون أسنانك, فاغسل بالتوبة والندم فؤادك, وأنق بالطاعة والحسنات جنانك, فإن الحسنات يذهبن السيئات, وإنه سبحانه وتعالى يحب التوابين, ويقول صلى الله عليه وآله إن العبد ليأتي بالحسنة فيُنكت في قلبه نكتة بيضاء, فلا تزال تكبر وتكبر حتى تعم القلب كله8.
فأكثروا رحمكم الله من الطاعات, وفعل الخيرات, وإعطاء الصدقات, والبكاء في الخلوات, والتوجه في المناجاة, واعلموا أن من أنجح الوسائل في قبول التوبات ومحو السيئات, ومضاعفة الحسنات, كما ورد عن سادات السادات, هو الإكثار من الصلوات, على محمدٍ وآله الهداة.
اللهم صلِّ على السيد الكبير, والقمر المنير, والفجر المستطير, سيد الرسل بلا مزاحم, النبي المبعوث من آل هاشم, محمد بن عبد الله المكنى بأبي القاسم.
اللهم صلِّ على وصيه الذي تُعرض عليه أعمال البشر, المسؤول عن إمامته في الحفر, صاحب اللواء يوم القيامة والكوثر, عليٍ أمير المؤمنين المدعو بحيدر.
اللهم صلِّ على المجهولة قدرا, الم+ورة صدرا, المخفية قبرا, أم الحسنين فاطمة الزهراء.
اللهم صلِّ على ذي الجود, الذي سعد به الوجود, والكرم الذي سارت به الوفود, صاحب الأيادي والمنن, الإمام بالنص أبي محمدٍ السبط الحسن.
اللهم صلِّ على من خصصته بعد شهادته بإجابة الدعاء تحت قبته, وجعلت الشفاء في تربته, والأئمة من ذريته, كريم الحسبين, وزاكي النسبين, الإمام بالنص أبي عبد الله الحسين.
اللهم صلِّ على العابد الزاهد, زينة المساجد, وسراج المعابد, نهج المسترشدين, وضياء المتهجدين, الإمام بالنص أبي محمدٍ علي بن الحسين زين العابدين.
اللهم صلِّ على من علا مجده على كل مفاخر, وأسكت برهانه كل مناظر, وملأ علمه الصحائف والدفاتر, الإمام بالنص أبي جعفرٍ الأول محمد بن عليٍ الباقر.
اللهم صلِّ على شمس سماء التحقيق, ونور رياض التدقيق, صاحب الفكر الصائب الدقيق, لسان الله الناطق, الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق.
اللهم صلِّ على قدوة الأعاظم, وسليل الأكارم, الملقب بالسيد العالم, الإمام بالنص أبي إبراهيم موسى بن جعفرٍ الكاظم.
اللهم صلِّ على مجدد الرسوم الجعفرية بعد اندراسها بالتقية, ومحي السنة النبوية حتى عادت غضةً طرية, المدَّخر للشفاعة يوم الفصل والقضاء, الإمام بالنص أبي الحسن الثاني علي بن موسى الرضا.
اللهم صلِّ على من خضعت لهيبته السبع الشِداد, وفُرِضت طاعته على من فيها من العباد, صاحب الفضل والسداد, الإمام بالنص أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليٍ الجواد.
اللهم صلِّ على النور البادي, والمرشد الهادي, ومن شاع فضله بين كل حاضرٍ وبادي, الإمام بالنص أبي الحسن الثالث علي بن محمدٍ الهادي.
اللهم صلِّ على من تُشد إليه الرحال عند اشتداد الحال, وتعلق عليه الآمال في يوم المآل, من لا يمتري في جوده الممتري, الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن العسكري.
اللهم صلِّ على من هو العلة في بقاء الوجود, الذي لأجله بقاء كل موجود, الشمس المضيئة وإن جللها السحاب, والقمر المنير وإن أُرخي دونه غرته الحجاب, سيف الله الذي لا ينبو, ونوره الذي لا يخبو, الموعود بالنصر والظفر, الإمام بالنص مولانا المهدي بن الحسن المنتظر.
عجَّل الله تعالى أيام دولته, وبسط على الأرض أنوار طلعته, وجعلنا من الفائزين بنصرته, الملبين لدعوته, إنه سميعٌ مجيب.
إن أحسن كلامٍ وأمتن نظام, كلام الله الملك العلام, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ9.وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات إنه غفورٌ رحيمٌ وتوابٌ حليم.
1 بحار الأنوار - ج84 - ص344
2 "ليس لله على خلقه أن يعرفوه وللخلق على الله أن يعرِّفهم, ولله على الخلق إذا عرَّفهم أن يقبلوا"الكافي - ج1 - ص164 - الشيخ الكليني
3 سورة الذريات: 56
4 سورة الإسراء: من الآية7
5 سورة الشعراء: 88 - 89
6 المطففين: من الآية14
7 "إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعده أبدا"الكافي – ج2 – ص271 – الشيخ الكلينيوجدته عن الصادق
8 "عن أبي جعفر ع قال: ما من عبد إلا وي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا تغطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً وهو قول الله عز وجل: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)" الكافي – ج2 ص273 – الشيخ الكليني
9 سورة النحل: 90