molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: مقت النفس- عبد الله الهذيل / الرياض الثلاثاء 24 يوليو - 8:40:24 | |
|
مقت النفس
عبد الله الهذيل / الرياض
الخطبة الأولى أسلم فأعز الله به الإسلام، وأيّد به المسلمين، وكان إسلامه همًّا تقلب فيه المشركون، ومرارة تجرعوا كؤوسها، وقالوا: قد انتصف القوم اليوم منا. وارتقى رضي الله عنه في ميادين العزة حتى بلغ ذروتها، وسارع في سبل الخير حتى بلغ غايتها، فسطّرت أعماله تاريخًا نيّرًا, تستضيء به الأمة على مرِّ أيامها وسنينها, وتقتفي فيه الأثر بشهادة خير البشر قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي))[1]. ذاك عمر الفاروق رضي الله عنه ثالث ثلاثة في هذه الأمة فضلاً. أسلم فكان إسلامه عزًا، وهاجر فكانت هجرته نصرًا، وحكم فكانت إمامته رحمة، وكان بابًا دون الفتنة التي حلت بالمسلمين فتجرعت منها صفوفًا من الفتن، فقد سأل الصحابة عن فتنة تموج كموج البحر، فقال له حذيفة رضي الله عنه: (إن بينك وبينها بابًا مغلقًا). فقال عمر: (ويحك أيفتح الباب أم ي+ر). قال حذيفة: (بل ي+ر). فقال عمر: (إذًا لا يُغلق أبدًا). قال حذيفة: (أجل). وكان عمر رضي الله عنه يعلم أنه هو الباب. ذاك عمر, فضائل لا تكاد تحصى، يعجز القلم عن إيفاء الواحدة منها حقها. ولكن مع تلك الفضائل والبشارات التي شهد له بها النبي ، كيف كانت الحال؟ أعُجبًا يملأ جنبات الفؤاد؟ أطمئنانًا إلى النفس ومقوله "هذا لي"؟ أإدلالاً بالعمل والمسارعة على الله تعالى؟ لا وكلا والله، وحاشاه رضي الله عنه. إذاً فاسمعوا وأصغوا سمعًا. قبل أن يصاب رضي الله عنه بأيام وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فقال: (كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا حمّلتما الأرض ما لا تطيق؟) قالا: حمّلناها أمرًا هي له مطيقة. قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق. قالا: لا. فقال: لئن سلمني الله، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي أبدًا. فما أتت عليه رابعة حتى أصيب، وطعنه في صلاة الصبح المجوسيّ أبو لؤلؤة. ويوم مقتله رضي الله عنه أحوال وأقوال كلها دروس وعبر. ولكن وقفة مع واحدة منها تحدّث عما سبق طرحه. دخل عليه شاب، وجرحه رضي الله عنه ينزف، فقال له ذلك الشاب: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله ، وقِدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. فماذا قال عمر رضي الله عنه؟ وهنا شاهد الوقفة فاسمعوا. قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي. سبحان الله! والله أكبر! هل أرادها مدائح تنتشر له في الآفاق ويتحدث له بها كل لسان؟ هل أرادها تاريخًا يُزخرف ويزين، ويُزاد فيه ويُنقص؟ رغم سبقه ومنزلته وفضائله العظام. (وددت أن ذلك كفافًا لا عليّ ولا لي) قالها فسُمعت, فسُطرت, فتناقلتها الأمة جيلاً بعد جيل, لتعلم يقينًا أن تلك حقيقة النفس المؤمنة, لمّا آمنت بأن الحمد كله لله، والأمر كله له، والخير كله في يديه، وأنه هو المستحق للحمد والثناء دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. أيها الأحبة في الله, قد تسعى النفس في باب من أبواب الخير، وتبذل فيه جهدًا بيّنا، فترى أنها قد بلغت فيه غاية لم تتحصل لكثير، وأن لا سبيل عليها بعد ذلك. وذلك حقيقة النقص مضافًا إلى ما كان في سابق الحال، ومزلة في طريق طويل تعيق سير صاحبها فيه؛ لذا فقد مضى سلف الأمة الأبرار بنفوس ما عرفت الكلل والملل في كل ما يقرِّب إلى الله تعالى. ومع ذلك ما رأوا لها إلا التقصير وقلة العمل، فلم يجد العُجب إلى قلوبهم سبيلاً، بل تظل القلوب وجلة أن لا يُقبل منها ما تُقدِّم، وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله سبحانه وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ [المؤمنون: 60]. فهذا أكرم الخلق على الله محمد بن عبد الله يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)). أخرجه الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه[2]. وروى أبو يعلى من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد))[3]. وهذا أفضل الأمة بعد نبيها، أبو بكر رضي الله عنه، دخل حائطًا وإذا بدُبْسِيّ في ظل شجرة، فتنفّس الصعداء، ثم قال: (طوبى لك يا طير، تأكل من الشجر، وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب). وأخرج الإمام أحمد في الزهد أن أبا بكر رضي الله عنه قال: (لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن). وقد سبق من مقولة عمر رضي الله عنه ما سمعتم. وهذه الستر المصون, والحرمة العظيمة, والحمى المنيع, أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يأتيها عقبة بن صهبان الهنائي فيسألها عن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ [فاطر: 32]، فتقول: (يا بني، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله ، شهد له رسول الله بالجنة والرزق، وأمّا المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم) قال: فجعلت نفسها معنا. وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدَّ مقتًا). أيها الأحبة في الله, إنّ العُجب داءٌ أيّما داء، ذمّه الله سبحانه وتعالى في أفضل القرون بقوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة: 25]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((بينما رجل يمشي في حُلّة تعجبه نفسه، مُرجِّلٌ جُمَّته[4]، إذ خسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة))[5]. وروى الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب وحسنه الألباني، أن النبي قال: ((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه))[6]. وقال حذيفة رضي الله عنه: (بحسب امرئ من العلم أن يخشى الله، وبحسبه من الجهل أن يعجب بعمله). فانظروا ـ رحمكم الله تعالى ـ أين نحن من القوم؟ وأين أعمالنا من أعمالهم؟ ثم انظروا كيف مقتهم لأنفسهم؟ وكيف يسري فينا العجب على قلة العمل؟ ثم انظروا خوف القوم على ماذا؟ وأمننا نحن مع ماذا؟
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/126)، والترمذي في: العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676) وقال: هذا حديث حسن. وأبي داود في: السنة، باب: في لزوم السنة (4607)، وابن ماجه في: المقدمة، باب: إيقاع سنة الخلفاء الراشدين المهدبين (42)، والحاكم (1/174)، وصححه ابن حبان (5).
[2] صحيح، مسند أحمد (1/23)، وهو عند البخاري في: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: واذكر في الكتاب مريم [3445].
[3] صحيح، أبو يعلى حديث (4920)، وكذا أخرجه ابن سعد في: الطبقات (1/381)، وعبد الرزاق في: المصنف (19543). قال الهيثمي في: المجمع (9/19): رواه أبو يعلى، وإسناده حسن. وقال العجلوني: كشف الخفاء (1/17): رواه ابن سعد بسند حسن. وصححه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (544).
[4] الترجيل: تسريح الشعر وتنظيفهُ وتحسينه. والجمة من شعر الرأس: ما سقط على المنكبين (النهاية لابن الأثير، مادة جمم ورجل).
[5] صحيح، صحيح البخاري في: اللباس، باب: من حرثوا به من الخيلاء (5789) واللفظ له، ومسلم في: اللباس والزينة، باب: تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه (2088).
[6] صحيح، أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الجامع – باب الأكل بيمينه ... حديث (19543)، وابن سعد في الطبقات (1/371)، وأبو يعلى في مسنده (4920)، قال الهيثمي في المجمع (9/19): رواه أبو يعلى وإسناده حسن. وحسن إسناده حسن. وحسن إسناده أيضاً الحافظ في التلخيص الحبير (3/126) والعجلوني في كشف الخفا (1/17)، وصححه الألباني بشواهده في الصحيحة (544).
الخطبة الثانية أيها المسلمون, وداعي العجب أمران: الأمر الأول: الجهل بحق الله تعالى، وعدم قـَدْرِ الله حق قدره، وقلّة العلم بأسمائه وصفاته، وضعفُ التعبد لله تعالى بهذه الأسماء والصفات. والأمر الثاني: الغفلة عن حقيقة النفس، وقلة العلم بطبيعتها، والجهل بعيوبها وأدوائها، وإهمال محاسبة النفس ومراقبتها. فإذا عُرف هذا, كان العلاج لهذا الداء أوضح من الشمس في ضحاها. وذلك بالتعرف على الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وعظيم فضله، وأنه بيده الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وأنه ما من خير إلا وهو من فضله وعطائه، وأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو. ويتبع ذلك التعرف على حقيقة النفس وتصورها في جنب الله تعالى وحِلم الله عليها، وأنه ما من خير تعمله فليس من محض ذاتها، ولكن بتوفيق الله تعالى لها. وهذا معنى قول من قال: من عرف نفسه عرف ربه. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى أثناء حديثه عن الحكم والأسرار في قضاء السيئات وتقدير المعاصي: "ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا أنساه رؤية طاعاته, ورفعها من قلبه ولسانه، فإذا ابتُلي بالذنب جعله نصب عينيه، ونسي طاعاته، وجعل همه كله بذنبه، فلا يزال ذنبه أمامه، إن قام أو قعد أو غدا أو راح، فيكون هذا عين الرحمة في حقه، كما قال بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، كلما ذكرها بكى وندم وتاب واستغفر وتضرّع وأناب إلى الله تعالى، وذلّ له وان+ر وعمل لها أعمالاً, فتكون سبب الرحمة في حقه، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يمنّ بها ويراها، ويعتدّ بها على ربه وعلى الخلق، ويتكبر بها، ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه ويكرمونه ويجلونه عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها فتدخله النار...". ا.هـ أيها الأحبة في الله, وبعد هذا لا بد من تنبيهين: التنبيه الأول, قد يأتي ذم النفس ومقتها على وجه يراد منه التمدح والثناء، وليس هذا من طريقة السلف في مقتهم لأنفسهم في شيء، وإنما ذلك مدخل للشيطان إلى القلوب المريضة، والتي وجدت في ذلك سبيلاً إلى بغيتها من ذلك التمدح. لذلك يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: "وهاهنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح. قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: كفى بالنفس إطراءً أن تذمها على الملأ، كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه. وقال ابن المبارك: كن محبًا للخمول كراهية الشهرة، ولا تظهر من نفسك أنك تحب الخمول فترفع نفسك". ا.هـ والتنبيه الآخر: أن مقت النفس ليس مجالاً للتنقص وعدم الاستزادة من العمل؛ بل هو على النقيض من ذلك. وأنه لمن الحجج الواهية أن يتخذ مقت النفس سبيلاً إلى ال+ل وعدم طرق أبواب الخير والمسارعة فيها، بحجة أنني لست أهلاً لكذا, ولا أصلح لكذا, وأنا أحقر من أن أفعل كذا, ونحو ذلك. وليست الجناية في إنزال النفس قدرها، ولكن في ال+ل الذي لم يجعله السلف نتاج مقتهم لأنفسهم، فقد كانوا أشد الناس مقتًا لأنفسهم، ومع ذلك سارعوا في كل خير، وضرب كل منهم بسهامه في البذل والجهاد والعطاء، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وملؤوها بنور الإسلام والعدل، وشأنهم في ذلك كله أن لا يحقروا من المعروف شيئًا. فلندرك حقيقة الطريق، ليكون الاتباع على أتمِّهِ بلا عِوَج.
| |
|