molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الرزق - عبد الله الهذيل / الرياض الثلاثاء 24 يوليو - 8:32:22 | |
|
الرزق
عبد الله الهذيل / الرياض
الخطبة الأولى أما بعد:
عباد الله، انظروا في السموات والأرض وما فيهما من آيات باهرات وآلاء ظاهرات، هل فيهما رزق من عند غير الله؟
تفكروا في الحياة.
من بنى سماها؟!
ومن رفع سمكها فسواها؟!
من أغطش ليلها وأخرج ضحاها؟!
من بسط الأرض ودحاها؟!
من أخرج منها ماءها ومرعاها؟!
من نصب الجبال وأرساها؟!
من فطر النفوس وسواها؟!
من فجر العيون وأجراها؟!
هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ [فاطر:3]؟!
لا والله.
فما من نعمة ـ صغرت في العيون أو كبرت ـ إلا والله رازقها وموليها، ورزقه سبحانه وتعالى شمل العباد جميعهم، برَّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
وكم من أناس يصبحون ويمسون بتكذيبه سبحانه والكفر به ونسبته إلى النقائص والعيوب، وهو مع هذا يرزقهم ويعافيهم.
وكما قال النبي : ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم)) متفق عليه[1].
ورزقه سبحانه وتعالى يعيش به كل مخلوق، لا غنى له عنه طرفة عين.
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6].
وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ [العنكبوت:60].
فتأملوا في دواب الأرض، في برها وبحارها، في جبالها وسهولها، في ظاهرها وباطنها، في حارها وقارها، من يسوق إليها أقواتها؟! ومن يحمل إليها أرزاقها؟! من الذي أوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات؟!
ومن الذي هيأ للنمل أن تحمل قوتها وتدخره وتحفظه وتدفع الآفة عنه.
ومن فَطَرَهَا على أنها إذا حملت الحب إلى مساكنها كسرته لئلا ينبت، فإن كان مما ينبت الفلقتان منه +رته أربعاً، وإذا أصابه ندٌ أو بلل وخافت عليه الفساد أخرجته للشمس ثم ترده إلى بيوتها؟!
ومن جعلها تتخذ قريتها على نشز[2] من الأرض لئلا يفيض عليها السيل.
هذا وأمثاله كثير، يوجب على كل ذي بصيرة أن يعيد النظر تفكراً، ويرجع البصر كرتين تدبراً.
وقد ذكر أن من دعاء داود عليه السلام: "يا رازق النَّعَّاب في عشه" ـ والنعَّاب هو فرخ الغراب ـ فتأملوا كيف يأتيه رزقه؟!
إن النَّعَّاب إذا تفقأت عنه البيضة خرج أبيض كالشمعة، فإذا رآه أبواه أنكراه لبياضه فتركاه، فيسوق الله تعالى إليه البقّ، فتقع عليه لزهومة ريحه وشدة نتنه، فيلتقطها ويعيش بها إلى أن يَحْمُمَ ريشه فيسود، فيعاوده أبواه عند ذلك ويألفانه ويلقطانه الحب.
وهذا باب يطول التأمل فيه، ولكن إشارة يتنبه بها من غفل ويستزيد بها صاحب البصيرة.
أيها الأحبة في الله، إن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتعبد له بأسمائه الحسنى وأن ندعوه بها، لتعود على القلب بأعظم معاني الإيمان واليقين.
و(الرزاق) من أسمائه سبحانه وتعالى، ترى المؤمن الحق يستحضر معناه في جميع شؤونه.
فتراه سليم القلب مطمئن الفؤاد، يضرب في ت+به وقد فوّض عاقبة جهده إلى من بيده خزائن السماوات والأرض، ويمضي في حياته موقناً أن ما به من نعمة فمن الله تعالى، فلا يسخر شيئاً منها إلا لما يحبه ويرضاه.
أما النفوس التي ضعف فيها التعبد لله بذاك الاسم، فتراها مقبوضة الأيدي والفؤاد، خوفاً أن ينقطع رزقها، أو ينقص قوتها، فلا تتجاوز نظرتها ما تعده أصابع يديها، ولا يتعدى اعتمادها ما تبذله من جهد.
وهنا ليرجع المرء إلى أول أمره، ليدرك كيف كان يدر عليه الرزق وهو في غفلة عما حوله.
فلتنظر ـ يا عبد الله ـ من الذي دبرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أمك في موضع لا يد تنالك، ولا بصر يدركك، ولا حيلة لك في التماس الغذاء، ولا في دفع الضرر، فمن الذي أجرى لك من دم الأم ما يغذوك كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبناً، ولم يزل يغذيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة الت+ب والطلب، حتى إذا كمل خلقك واستحكم وقوى أديمك على مباشرة الهواء، وبصرك على ملاقاة الضياء، وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي والتقلب على الغبراء، هاج الطلق بأمك فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء، فركضك الرحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمك قط، ولم يشتمل عليك.
فيا بعد ما بين ذلك القبول والاشتمال! حين وضعت نطفة، وبين هذا الدفع والطرد والإخراج، وكان مبتهجاً بحملك، فصار يستغيث ويعج إلى ربه من ثقلك.
فمن الذي فتح لك بابه حتى ولجت، ثم ضمه عليك حتى حفظت وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر، لم يخنقك ضيقه، ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه، حتى خرجت ضعيفاً لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال، أحوج خلق الله وأضعفهم وأفقرهم، فصرف ذلك الدم الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين في صدرها تخرج إليك لبناً نقياً؟!
فمن رققه لك وصفاه وأطاب طعمه وحسن لونه، فوافاك به أشد أوقات الحاجة إليه على حين ظمأ شديد، وجوع مفرط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء؟!
ومن عطف عليك قلب الأم ووضع فيه الحنان والرحمة، حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها؟! فإذا أحست منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك وآثرتك على نفسها على عدد الأنفس، منقادة إليك بغير قائد ولا سائق، إلا قائد الرحمة وسائق الحنان، تودّ أن كل ما يؤلمك بجسمها، وأنه لم يطرقك منه شيء.
من هيأ لك هذا وسخره لك؟!
أتراه محض مصادفة؟!
أم تراه حكم الطبيعة؟!
أين الطبيعة عند كونـك نطفـة في البطن إذ مشجت به الماآن
أين الطبيعة حين عدت عليقـة في أربعين وأربعيـن ثوانـي
أين الطبيعة عند كونك مضغـة في أربعين وقد مضى العددان
أترى الطبيعة صورتك مصوراً بمسـامـع ونواطـر وبنـان
أترى الطبيعة أخرجتك من+ـاً من بطن أمـك واهي الأركان
أم فجّرت لـك باللبـان ثُدِيَّهـا فرضَعْتها حتى مضى الحولان
أم صيرت في والديـك محبـة فهما بما يرضـيك مغتبطـان
وهكذا تمر في سنين عمرك، ورحمة الله عز وجل لا تنفك عنك، ورزقه لا ينقطع، حتى إذا بلغت أشدك، وضربت في الحياة كما يضرب غيرك، قبضت الفؤاد خشية انقطاع الرزق الذي لم يفارقك لحظة واحدة في أشد حالات ضعفك.
فاتق الله وأجمل في الطلب، واعلم أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.
وكِلْ أمر رزقك بل وجميع أمورك إلى مولاك عز وجل، فقد قال النبي : ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً))[3].
[1] صحيح،صحيح البخاري : كتاب الأدب – باب الصبر على الأذى،حديث (6099)،صحيح مسلم : كتاب صفة القيامة والجنة والنار – باب لا أحد أصبر على أذى ... حديث (2804).
[2] النشز : المكان المرتفع،(القاموس المحيط،مادة نشز).
[3] صحيح،أخرجه أحمد (1/30)،والترمذي : كتاب الزهد – باب في التوكل على الله،حديث (2344)،وقال : حسن صحيح،وابن ماجه : كتاب الزهد – باب التوكل واليقين،حديث (4164).
الخطبة الثانية أيها الأحبة في الله، ألم يأن لأولئك الذين حبستهم أنفسهم في طريق ممقوت في طلب أرزاقهم، فتراهم يضربون فيها سبلاً لا يرضاها عنهم ربهم، ألم يأن لهم أن يستعينوا الرزاق عز وجل في طلب الحلال الطيب لتطيب به نفوسهم، وتحفظ به أجوافهم وأجواف من يعولون.
فيا من طرقت سبل الربا، ويا من ت+بت ببيع الحرام، ويا من تغذيت بالرشوة والزور، ويا من أخذت المال من غير حقه، والله إن لك في الحلال الطيب غنية عما سواه، فلا يضيق أمام ناظريك فسيح أفقه، ولا تغب عنك عظيم بركته.
واعلم أنك حين تترك ما في يديك من +ب حرام ـ وإن رأيته زينة وافرة ـ، فإن الله تعالى يبدلك خيراً منه وأطيب.
وليسمُ ناظرك إلى أعظم رزق وأعلاه، ذاك الذي لا يناله إلا عباد الله المؤمنين.
قال تعالى: هَـٰذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَـئَابٍ [ص:49].
| |
|