molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: السيرة النبوية 20- عبد الله الهذيل / الرياض الثلاثاء 24 يوليو - 8:28:48 | |
|
السيرة النبوية 20
عبد الله الهذيل / الرياض
الخطبة الأولى أيها الأحبة في الله:
ومع الدرس العشرين من دروس السيرة المباركة نواصل الحديث فيه مع الأحداث التي أعقبت فتح مكة.
أيها الناس:
عاد النبي إلى المدينة بعد أن توّج الله هامته بالفتح المبين، وان+رت على يديه شوكة الوثنية، وتساقطت أمام ناظريه الأصنام التي طالما عُبدت ظلماً وزوراً.
عاد إلى المدينة فإذا هي تستقبله استقبال المحب لحبيبه فأضاءت لمقدمه أركانها وأرجاؤها واستبشرت به كل نفس مؤمنة تعيش في جنباتها.
بيد أن نفوساً فيها كانت تغلي عليه حقداً، وكم كانت على أمل أن لا يعود إليها وأن تكون العاقبة لقريش عليه.
تلك نفوس المنافقين التي لم تزل في ريبتها وخستها، رغم الفتوحات التي تشهدها، والآيات البينات التي تراها أجلى من الشمس في ضحاها. ولكن على قلوب أقفالها.
ولا تزال تلك القلوب مطوية على دخلها، تعيش الأمل في ان+ار شوكة المسلمين، فلئن فات هذا مع قريش فإن هناك قوى أعتى وأقوى وأكثر عدداً وعُدّة، فعلقوا الآمال فيهم أن يضربوا الإسلام وأهله ضربةً واحدة تفرق الجمع وتشتت الشمل، تلك قوّة الرومان التي اغتروا بها.
ولكن هيهات أن تقرّ لهم عين، ويهدأ لهم بال ، فالإسلام ماض لن يقف شيء في وجهه وسيبلغ ما بلغ الليل والنهار، فلن تحجبه أفواج النصارى، ولا عدد اليهود، ولتبق الظنون الكاذبة في تلك القلوب المريضة، ت+ر آمالها حقائق الأحداث التي تشهدها، وما ينطق به واقع التمكين لأهل الإيمان.
أيها الأحبة في الله:
إن فتح مكة كان غصة في حلوق المنافقين، وإزالةٌ لعقبة كؤود لطالما وقفت تصدّ عن سبيل الله، وتمنع أن يستجيبوا لداعي الله، تدافع باللسان والسنان عن معالم الوثنية وعادات الجاهلية، تريد من الأعين أن تبقى في عماها، ومن القلوب أن تبقى ضلالها.
فكان زوالها نشراً للهدى، وفكاً للعباد من قيود الجاهلية.
ولكن، هل زالت بزوالها جميع العقبات؟ كلا، فإن دين الإسلام ليس خاصاً لبقعة من بقاع الأرض، ولكنه دين شامل، ودعوة إلى أهل الأرض قاطبة، فلابد من حمله إلى مشارقها ومغاربها، ليخرج به العباد من رق الشرك والإلحاد، والهوى الشهوات إلى عز التوحيد وضياء الهدى.
وحين تقف أي عثرة دون ذلك فلا بد من إزالتها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
أيها الأحبة في الله:
وكان من تلك العقبات نصارى الروم، الذين أرسل النبي رسله يدعوهم إلى دين الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، فما استجابوا لتلك الدعوة، وكان منهم من مزّق كتاب رسول الله استحقاراً له ولدينه.
ولقد ترامت الأنباء إلى المسلمين بتجهز الرومان ضدهم.
فكان لزاماً أن تواجه تلك العقبة وتزال عن طريق الدعوة المباركة.
ففي رجب من العام التاسع للهجرة عزم النبي على السير إلى الروم فيقاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وكان الوقت وقت حرّ وعسرة، فصرّح النبي للصحابة بوجهته هذه المرّة، إذ من عادته أنه قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها.
ولكن العسرة هنا شديدة فأعلن أنه يريد لقاء الروم ليتأهب الناس ويأخذوا العدة اللازمة.
وهنا تميّز الطيب من الخبيث، فأما المؤمنون فلم تثقل خطاهم شدة العسرة ولا شدة الحرّ، بل إنهم سارعوا في التجهز، وتسابقوا في الإنفاق، فقد حث النبي على الإنفاق في تجهيز ذلك الجيش، فسرّت الأيادي المؤمنة بما أعطاها الله تعالى من خير، وكان من أسبقهم في تجهيز الجيش عثمان بن عفان ، فقد أعطى ثم أعطى ثم أعطى حتى قال النبي فيه: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وسارع المؤمنون في الإنفاق كل بحسبه، فكان منهم من يأتي بالصاع من التمر، ومنهم من يأتي بنصفه، فيُظهر المنافقون سخريتهم ويقولون: إن الله غني عن صدقة هذا، فأنزل الله تعالى رداً عليهم: الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم.
ومن لم يجد شيئاً ينفقه تصدق على المسلمين بكل مظلمة كانت له عليهم.
وهكذا سارع المؤمنون في التجهز للمسير رغم شدة الحر والعسرة في وقت طابت فيه ثمار المدينة وامتد ظلالها.
فتجهز الجيش، فمن كانت عنده عدته جهزها، ومن كان لا يملك عُدة أتى النبي ليحمله، حتى إذا نفد ما عنده ، بقيت بقايا من المؤمنين تريد الخروج ولكن لا يملكون شيئاً، فاعتذر منهم فرجعوا تقطع الحسرة قلوبهم وتفجر العيون دموع الحزن على عدم الخروج مع النبي .
فلله ما أ+اها من نفوس، لم تجدها فرصة مواتية لتبقى في ظلال المدنية وتستطيب بثمارها، ولكن تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون.
أما المنافقون فجاؤوا إلى النبي أفواجاً يسطرون الأعذار الكاذبة ليؤذن لهم في القعود.
ومن أسخف الأعذار التي قدموها ما جاء به الجد بن قيس، حيث قال له النبي : ((هل لك في الخروج؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشدّ عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر)).
فأعرض عنه النبي ، وأنزل الله تعالى فيه: ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
ولم يكتف أولئك المنافقون بتثاقل أنفسهم بل حاولوا تصدير ذلك لكل من أراد الخروج، فقالوا: لا تنفروا في الحرّ، وعظموا جيوش الروم فقالوا: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.
وهكذا يُرجفون ويخذلون، ولكن هيهات أن يصرفوا القلوب المؤمنة عن مبتغاها.
أيها الأحبة في الله:
سار النبي إلى تبوك في جيش عدده ثلاثون ألفاً، ولم يتخلف عن رسول الله سوى المنافقين وبعض نفر من الصحابة ، وكان رسول الله يذكر له الرجل قد تخلف فيقول: ((إن يكن به خير فسيلحق بنا)).
وكان ممن تخلف عن الجيش في بادئ الأمر أبو خيثمة الأنصاري. فقد قال: تخلفت عن رسول الله ، فدخلت حائطاً فرأيت عريشاً قد رش بالماء، ورأيت زوجتي، فقلت: ما هذا بإنصاف، رسول الله في السموم والحر، وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح لي وتمرات فخرجت، فلما طلعت على العسكر فرآني الناس، قال النبي : ((كن أبا خيثمة، فجئت فدعا لي)).
سار الجيش وشدة الحرّ تكاد تقطع الرقاب، ويتناوب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد.
عن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب : حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر : يا رسول الله، إن الله عوّدك في الدعاء خيراً فادع الله لنا؟ فقال: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع النبي يده إلى السماء فلم يرجعها حتى قالت السماء – أي أمطرت – فأطلت ثم سكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. [أورده ابن كثير في البداية وقال إسناده جيد].
وفي طريقه إلى تبوك مرّ بديار ثمود فقال: ((لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم ما أصابهم)).
فتأملوا واقع الناس اليوم ممن تعمد الذهاب إليها، والتقاط الصور فيها، فالله المستعان.
نزل في تبوك، فلم ير للرومان جمعاً يواجه جيش المسلمين، بل إنه قد دخل في عهده أهل "أيلة" و"أذرع" و"تيماء" و"دومة الجندل"، وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه.
وبقي في تبوك عشرين ليلة، فلما لم يكن هناك قتال وآثر الروم أن يبقوا قابعين مستكينين، آثر الرجوع إلى المدينة منصوراً موفوراً بعد أن دخلت في عهده قبائل تلك المنطقة.
فعاد ، وفي طريق العودة شكى إليه أصحابه ما أصاب إبلهم من الجهد، فدعا ربه فقال: ((اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي والضعيف وعلى الرطب واليابس في البر والبحر)) فنشطت بهم حتى أبلغتهم المدينة ولم يشتكوها.
فقدم المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد، فنظر إليها نظرة المحب وقال: ((هذه طابة، وهذا أُحد جبل يحبنا ونحبه)).
ولما اقترب الجيش من المدينة خرج الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقونه، ولما دخل المدينة عمد إلى المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، وجاء المنافقون يعرضون أعذارهم الواهية بصور شتى، فقبل منهم واستغفر لهم وأوكل سرائرهم إلى الله تعالى.
وكان من المؤمنين ثلاثة قد تخلفوا من غير عذر وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وقصة توبتهم طويلة معروفة واختصارها: أنهم لم يلفقوا لتخلفهم أي عذر، فلم يرضوا أن يضيفوا إلى ذنب التخلف ذنب الكذب على رسول الله .
فأرجأ النبي أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم، وأمروا باعتزال نسائهم، وأمضوا على ذلك خمسين ليلة لا يكلمهم أحد من المسلمين، وحاول ملك الغساسنة استغلال الموقف فبعث كتاباً إلى كعب يدعوه إليه لإيوائه وإعزازه. فما كان من كعب إلا أن أحرق الكتاب، وقال: هذا أيضاً من البلاء.
فمرت عليهم الليالي والأيام أضيق من سم الخياط، حتى مضت خمسون ليلة، وأنزل من الله تعالى على رسوله توبتهم فقال سبحانه: وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم.
فبشر بها النبي كعب بن مالك وقال له: ((أبشر بخير يوم مرّ عليكم منذ ولدتك أمك)).
أيها الأحبة في الله:
ومن الأحداث المتعلقة بغزوة تبوك حادثة مسجد الضرار الذي بناه المنافقون إضراراً للمؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، فجاؤوا إلى النبي قبل مخرجه إلى تبوك يسألونه أن يصلي لهم في ذلك المسجد ليأخذوا الشرعية له، وذكروا له أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة والليلة الشاتية.
فاعتذر لهم بسفره إلى تبوك، ووعدهم الصلاة بعد العودة منها.
وفي عودته من تبوك، وقبل وصوله المدينة بيوم أو يومين نزل عليه جبريل عليه السلام بخبر المسجد فأرسل إليه من هدمه.
أيها الأحبة في الله:
تلك غزوة تبوك قد أبانت أن النفوس المؤمنة لا تثقلها عن نداء ربها أنواع الشدائد والصعاب إذ تلين صلابتها قوة الإيمان التي هي ملء الفؤاد واللسان والجوارح.
أما مرضى القلوب فقد تفتقت نفوسهم بالنتن الذي يملأها.
وجاءت سورة براءة تتحدث بطولها عن تلك الغزوة وعن الفضائح التي انطوت عليها خسة تلك النفوس المنافقة.
فاقرأوها وتدبروها توقنوا الأمر جلياً، واقرأوا فيها: وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم.
أيها الأحبة في الله:
رجع النبي إلى المدينة في رمضان مع العام التاسع، ولم يلبث طويلاً حتى بدأت تتوافد عليه وفود القبائل من أنحاء الجزيرة العربية معلنة دخولها في الإسلام، وسمي ذلك العام بعام الوفود.
ونظراً لانشغال النبي بتلك الوفود فقد أمّر على الحج في ذلك العام أبا بكر الصديق ، ثم أرسل على أمره علي بن أبي طالب ليتلو على الناس صدر سورة براءة، ولينادي بهم ((لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته)).
الخطبة الثانية لم ترد.
| |
|