molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: صيانة الصيام - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الخميس 2 فبراير - 3:11:11 | |
|
صيانة الصيام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، معشرَ الصائمين، أبشِروا بوعدِ الله الصادِق على لسانِ نبيِّه ، أبشِروا بما أعدَّ الله لكم من الثوابِ العظيم والعطاءِ الجزيل، أبشِروا فأنتُم على خيرٍ في صيامِكم، أبشِروا فصيامُكم مضاعَف أضعافًا كثيرةً لا يعلم قدرَها إلا الله، أبشروا فقد خصَّكم الله ـ يا هذه الأمّة المحمّدية ـ بخصائصَ لم تكن لأمّةٍ قبلكم، خصَّكم ـ يا معشر الصائمين من أمة محمّد ـ بخصائصَ لم تكن لأمّةٍ قبلكم، فاشكروا الله على نعمتِه وفضلِه، بُشرًى تكون أملاً لكم وحادِيًا لكم للخير وقوّةً في رَغبتِكم في الطاعة وحبِّكم لها، فالحمد للهِ على فضلِه وإحسانِه، ما شرَع الله الصيامَ لتعذيبكم، وإنما شرعه لتطهيرِ نفوسكُم وت+يَة قلوبكم ومُضاعفةِ الحسنات لكم، فاحمدوا اللهَ على هذه النّعمةِ، واشكروه على فضلِه وإحسانه، في الصحيح عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((كلُّ عملِ ابنِ آدم يُضاعَف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلاّ الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزِي به، يدَع طعامه وشرابَه لأجلِي، للصائم فَرحتان: فرحة عند فِطره، وفرحة يوم لقاءِ ربّه، والصوم جنّة، فإذا كان صَومُ أحدِكم فلا يرفَث ولا يسخَب، وإن أحدٌ سابَّه أو قاتله فليقل: إني امرؤٌ صائِم، والذي نفسِي بيدِه لَخَلوف فمِ الصائم أطيَبُ عند الله من ريحِ المِسك))[1].
أخي الصائم، لنتأمَّل جميعًا هذا اللفظَ النبويَّ، ولنطَّلِع على ما فيه من الخيرِ والوعد الصادق، فنبيُّنا يقول عن ربِّه جل وعلا: ((كلُّ عمل ابن آدم له مضاعَف؛ الحسنة بعشر أمثالها))، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]. فمِن رحمة الله أن العبدَ إذا عمل حسنةً جازاه الله بعشرِ أمثالها، بل إلى سبعمائة ضعف فضلاً منه ورحمة، وذلك أنّ العملَ يتضاعف أجرُه بقوّة الإخلاص وقوّةِ الإيمان وكَونِ هذا العملِ عملاً متعدِّيًا نافِعًا مفيدًا للغَير؛ كالصدقات الجارِية والأعمالِ النافعة والشفاعَاتِ المؤثِّرة وغيرِ ذلك، لكن الصيامُ استُثنِيَ من هذا كلِّه لِقولِ الله جلّ جلاله: ((إلا الصوم)) أي: فإنَّ الصيامَ يضاعَف بأضعافٍ لا يعلمها إلا الله، فالصائِم ليست حسناتُه مقتصِرَة على عشرٍ ولا على سبعمائة ضِعف، بل الصائمُ يضاعَف صومُه أضعافًا كثيرةً لا يعلمها إلا من تفضَّل بها، ما لا عَين رأَت، ولا أذُن سمِعت، ولا خطَر على قلب بشر. ((الصوم لي))، أضافه الله إليه، وكلُّ الأعمال له، لكن إضافة تشريفٍ وتكريم للصائِم، وأضعاف الجزاءَ إليه: ((وأنا أجزي به))، وهو ذو الكرَم والجود والفضلِ والإحسان، فناهيك بِعملٍ تولَّى جزاءَه رَبُّ العالمين، إنَّ الجزاء عظيم، وإن العطاءَ جزيل.
أيّها الصائم، إنَّ صومَك لا يأخذ الغرماءُ يومَ القيامة منه شيئًا، ظالِمُ الناس في أموالهم وأعراضِهم ودمائهم يمكَّن الغرماءُ من حسناتِه، فإن انقَضَت حسناته حمِّل سيئاتِ مَن آذاهم وظلَمَهم، لكن الصوم يدَّخِره الله للصّائم، فلا يأخذُ الغرماء منه، ليبقَى ثوابه للصائم، ((الصوم لي، وأنا أجزي به)). ينادَونَ يومَ القيامةِ ليدخُلوا أحدَ أبواب الجنة المخصَّصة للصائمين، ألا وهو باب يقال له: الريان؛ ليجِدوا هناك الثوابَ العظيم والعطاء الجزيلَ، ((وأنا أجزي به)).
أيّها المسلم، والصائم له فرحَتان في فطره: فَرحةٌ يومَ فِطره عندما يحضُر إفطاره وعندما تتوقُ نفسُه للطيِّبات التي أباحها الله له، فهو يفرَح بتناولها مع فرحِه بمُوافقةِ أمرِ الله في صيامِه وفطره، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، وفرحَة أخرى أعظَم وأجلّ يومَ قدومه على ربِّه يومَ يقِف العبد بين يدَي ربِّه، لا ينفعه مالٌ ولا بنون إلا من أَتى اللهَ بقلب سليمٍ، هناك يفرح الصائمون بصيامِهم يومَ يُقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، يومَ يجِد صيامَه مدَّخَرًا له أحوَجَ ما يكون إليه، يومَ يجِد صِيامَه قد رجح به ميزان أعمالِه، فهناك الفرحَةُ والسّرور والاغتباط. يخرُج الصائمون من قبورِهم يُعرَفون بطيب أفواهِهم، إنَّ طيب أفواههم عندَ الله أطيَب من ريح المسك، هناكَ الفرحةُ الكبرَى والفَوز الأعظَم، أيّامٌ صاموها في هذه الدّنيا فوَجَدوا الجزاءَ مدَّخَرًا لهم مِن الكريم الرحمنِ الرحيم، فما أسعَدَ الصائمين وما أعظم فرحتَهم في ذلك اليوم العظيم. إنَّ الصومَ جُنّة، واقٍ لك منَ السّيِّئات، حاجِز لك عن الإجرَام، روَّضَك على ترك الطعام والشرابِ المباح تعبُّدًا لله، فحريٌّ بكَ أن يقوَى علَى التأثير عليكَ على تركِ ما حرَّم الله عليك، فهو جُنّة يجنّك من النار ويقيك من لفحاتِ النار.
أيّها الصائم الكريم، خَلوفُ فَم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ونبيُّكم بيَّن لكم خصائصَ لَكم يا أيّتها الأمّة المحمدية، فقال : ((أعطِيَت أمّتي خمسَ خِصال في رمضانَ لم تُعطَها أمّة قبلَهم: خَلوف فمِ الصائم أطيَب عند الله من ريحِ المسك، وتَستَغفر لهم الملائكة حتى يفطروا))، مَلائكةُ الرّحمن المطيعونَ لله المسبِّحون لله يستَغفِرون لكم أيّها الصائمون، يثنون عليكم ويَدعون لكم بالمغفرة حتى تفطِروا تكريمًا من الله لكم، ((الله يزيِّن جنّتَه كلَّ يَوم)) ضِيافةً ونُزُلاً للصائمين وتَكريمًا لهم، ((يصفِّد مردَةَ الشياطين))[2]، فيضعفُ إرادَتهم ويقلّ شرُّهم، المسلمون قد أطاعوا ربَّهم، والمسلمون قد أكثروا من الطاعةِ والخّير.
أيّها الصائم، يُغفَر لك في آخرِ ليلةٍ من صيامِك إذا وفَّيتَ الأجرَ جاء الجزاءُ من جنس العمل، والله لا يخلف الميعادَ.
أيّها الصائم الكريم، إنّك في عبادةٍ في صومِك، وفي عبادة في فطرِك وسَحَرك، فأنت ساعَةَ تقوم للسّحَر لتتناوَل وجبةَ السّحر وإن قلَّت فالله وملائكتُه يصلّون عليك، الله يثنِي عليك، ملائكة الرحمن تثنِي عليك، يقول نبيُّك : ((إنَّ الله وملائكتَه يصلّون على المتسَحِّرين))، يقول: ((السَّحور بَركة، فلا تدعوه ولو جَرعة من ماءٍ، فإنَّ الله وملائكتَه يصلُّون على المتسحِّرين))[3]، فأنت تتناوَل وجبةَ السّحر وإن قلَّت تطلُّعًا لهذا الثناءِ العظيم وقدوةً بسيِّد الأوّلين والآخرين وطمَعًا في هذا الفضلِ العظيم، أنت تأكل والله يثنِي عليك وملائكتُه يثنون عليك، وما أعظمَ الثناءَ وأجلَّ الثناءَ، لو أثنى عليك في الدّنيا ذو جاهٍ لرأيت ذاك وِسامًا عليك، تتحدَّث به وتجعَله دائمًا نَصبَ عينَيك، فكيف والثناءُ مِن ملك الأرض والسماواتِ عالمِ السّرائر والضّمائر؟! كيف والثناءُ مِن ربِّك الذي خَلَقك وربّاك ومنحَك النّعمَ وفتَح عليك أبوابَ الخير؟! نبيُّك يقول لك: ((تحسَّروا فإنَّ في السحورِ بَرَكة))[4]، ويخبِرك بأنَّ سَحورَك إِعلانُ فَصلِ ما بَينك وبينِ صيام مَن ضلَّ مِن قبلك من الأمَم: ((فَصل ما بين صيامِنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السحَر))[5].
أيّها المسلم، أنتَ تقرُب من إفطارِك والنّفسُ تائِقَة للفِطر ومُتطلِّعة بَعد نهايةِ النّهار، فاعلم أنك إذا بادَرتَ بالفطرِ مِن أوّل غروبِ الشمس فإنّك من أحبِّ عباد الله إلى الله، يقولُ نبيُّكم : ((قال الله تعالى: أحبُّ عبادِي إليَّ أعجَلُهم فِطرًا))[6]. وأنت حينَما تفطِر لا تزال بخيرٍ ما دمتَ تعجِّل الفطر، يقول لك نبيُّك : ((لا يَزال الناسُ بخير ما عجَّلوا الفطرَ))[7].
أيّها الصّائم، لكَ دَعوةٌ مستَجَابة في صِيامِك، دَعوتُك إذا صَدقت لا ترَدّ، ((ثلاثةٌ لا ترَدّ دعوتهم: الإمامُ العادِل، والصائمُ حتى يفطِر، ودَعوةُ المظلوم يَرفَعها الله فوقَ الغمام ويقول: وعزّتي، لأنصرنَّك ولو بعدَ حين))[8].
أيّها الصائم الكريم، فاشكُر اللهَ على نِعَمه، واشكره على إفضالِه وجزائه، واحمده على نِعمتِه، واعلَم أنَّ الواجباتِ الشرعيةَ جاءت لإعزازِك وإكرامك، جاءت لرفعِ منزلتك، جاءت لتأهيلِك إلى دارِ كرامةِ ربّك، فاحمدِ الله أن وفِّقتَ لهذا العملِ، واحمَدِ الله أن أعِنتَ على هذا العمل، واحمدِ الله أَن شرع لك هذا العمل، فكُن دائمًا حامِدًا لله مثنِيًا على الله ممجِّدًا لله شاكِرًا له على عمومِ آلائِه وعموم إِفضاله وإِحسانه، دائمًا قل: الحمد لله ربِّ العالمين، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسِك.
أقولُ قَولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إليهِ، إنّه هو الغَفور والرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458 ـ كشف الأستار ـ)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602)، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعًا إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140): "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جدًا".
[3] أخرجه أحمد (3/12، 44) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/150): "فيه أبو رفاعة، ولم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، هذا في إسناد الموضع الأول، أما الموضع الثاني ففي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مشهور بالضعف، وقد قوّى الألباني الحديث بمجموع الطريقين وبشواهده. انظر: صحيح الترغيب (1070).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1923)، ومسلم في كتاب الصيام (1095) عن أنس رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في الصيام (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (2/237، 329)، والترمذي في الصوم (700) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2062)، وابن حبان (3507)، ورمز له السيوطي بالصحة، إلا أن في إسناده قرة بن عبد الرحمن متكلَّم فيه، والحديث في ضعيف سنن الترمذي (111).
[7] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/445)، والترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلَى آله وصَحبه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين.
أمّا بعدُ: أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخِي المسلِم الصائم، إنَّ صيامَنا أمانةٌ بيننا وبين ربِّنا، صِيامنا نوع من أنواع الأمانَة التي ائتمَنَنا الله عليها.
يا أخي الصائم، احذَر أن تفسِدَ صيامك، صُن صومَك واحفَظه عن كلِّ المفسدات، وترفَّع بنفسك عن كلِّ ما ينقِّص صيامَك.
يا أخي المسلم، قد تتعرَّض في الدنيا لمن يسبُّك ويشتمك لمن يقول لكَ القولَ السيّئ، فروِّض نفسَك على الصبر وقل له: إني امرؤ صائم، ادفَع السوءَ بالإحسان، وردَّ القبيحَ بالحسَن، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
أخِي المسلم، أجمَعَ علماءُ المسلمين أنَّ من تعمَّد الأكلَ أو تعمَّد الشربَ في رمضان أو تعمَّد إتيان النساء في رمضان أنَّ هذا منافٍ للصيام مفسِد للصيام مبطِل للصيام.
فيا أخي، قد أباح الله لنا في عمومِ الليل الأكل والشرب ومواقعةَ النساء، وتعبَّدنا بترك ذلك في نهار الصّيام، فاحذَر ـ أخي ـ من زلَّة القدَم، وترفَّع عن كلِّ ما قد يوقِعك في المشكِل فتندَم ولا ينفع الندم. هذا أمانةٌ بينك وبين الله وسِرّ بينك وبين الله، فالزَمِ الأمانة واحفَظها، واعلم أنَّ إتيانَ المرأة في نهار رمضان من مقيمٍ صحيحٍ معافًى أنَّ ذلك يبطل صومَه ويوجب عليه القضاءَ والتوبةَ إلى الله مما حصَل والكفارة المغلَّظة: عِتق رَقبة، فإن عَجز عنها صام لله شَهرين كاملين متتابعين، فإن عجز لمرضٍ أو كبر أطعَم ستّين مسكينًا، كلُّ ذلك تغليظٌ على المسلم وإِبعاد له عن هذا الأمرِ.
جاء رجلٌ للنبيِّ وهو جالِس بين أصحابِه فقال: يا رسولَ الله، واقَعتُ أهلي في رمضان، قال: ((هل تستطيع أن تعتِق رقبة؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تصومَ شهرين متتابِعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تطعِمَ ستّين مسكينًا؟)) قال: لا، فأُتِي النبيّ بعِذقٍ فيه خمسةَ عشرَ صاعًا قال: ((خذ هذا وتصدَّق به))، قال: أعلى أَفقرَ مني يا رسول الله؟ والله، ما بين لابَتَي المدينةِ أهلُ بيتٍ أفقر من أهل بيتِنا، فضحك النبيّ عجبًا من كونهِ جاءَ طالبًا للإنقاذِ ثم الآنَ يجتَهد ليحوز [تلك] الصدقةَ، قال: ((خُذه فأطعِمه أهلك))[1]، صلوات الله وسلامه عليه في دَعوتِه وتوجيهِه وإرشاده وحِلمه وصَبره وتحمُّله، هذا أخطَأ وزلَّت به القدَم، لكنه أدَّبه بالكفّارَة، فلمّا علِم أنّه الفقير في هذا المكانِ جعل تلك الصّدقةَ صدقةً على أهله؛ لأنه بأمسّ الحاجةِ إليها، فصدق الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
ولما وقع من أحدِ الصحابة شيءٌ من هذا قبلَ أن يُنسَخ في الليل جاء لأصحابه فكأنّهم عابوه، فجاء للنبيّ ورَفق به النبيّ، فجاء لقومه وقال: وجدتُ عندكم العسرَ والمشقّةَ، ووجدتُ عند رسول الله اليسرَ والرحمة، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين.
والأكلُ والشّرب مهما كان نوعُ المأكول أو المشروب مفسِدٌ للصّوم بعد أذانِ الفجر بعد طلوع الفجر وتأكُّدِنا من الوقت ومراعَاتِنا للوقت المعلوم، فمن أكل بعدما يؤذِّن المؤذّن أو تناول الماءَ ونحو ذلك فذاك مفسِد لصيامِه؛ لأنَّ اللهَ أمرنا بالإمساكِ إذا تبيَّن لنا الخيطُ الأبيض من الخيطِ الأسود، وهو بياضُ النهار وسواد الليل.
محاوَلَة الإنسان إخراجَ المادّة المنوِيّة من نفسِه أو كما يقال: بالعادة السريَّة المستهجنة هذا أيضًا مفسِدٌ للصّيام لأنَّ النبيَّ قال عن ربه: ((يدَع طعامَه وشرابه وشهوتَه لأجلي))[2].
إذا أعطِيَ إبَرًا مغذّية تقوم مقامَ الأكل والشّرب وتغذّيه لكونه على سريرٍ ونحو ذلك فهذا أيضًا كأنّه أكل بفِيه، مفطِّر لصيامه بلا إشكال.
كذلك ـ يا أخي ـ سَحبُ الدم الكثير وإسعاف الآخَرين من دمك بما قد يؤول إلى ضعفِك فهذا مفطِّر لصيامك.
يا أخِي المسلم، أمّا خروج الدم منك من غَير اختيار كدمٍ يخرج من الفم أو الأنفِ أو الناسُور ونحو ذلك أو أيِّ جراحة فلا شيءَ عليك؛ لأنَّ هذا ليس بمقدورك. احتلامُ الصائم لا يؤثِّر عليه في صيامِه، يجب أن نصومَ صيامنا ونحفظَه ونسأل الله قبولَه وفضلَه.
أيّها المسلم، كن معِيَ لحظاتٍ قليلة، أنت تمسِك الساعَةَ الرابعةَ وتسعًا وعشرين دقيقة في هذه الأيام، تسمِك حتى الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دقيقة. يا أخي، ثلاثَ عشرةَ ساعة أمسكتها، إن كنتَ ممّن ابتُلِيتَ بداءِ التّدخين فهل تكون معِي أنَّ هذا الوقتَ الطويل يروِّضكَ نفسَك ويعوِّدك تركَه، فتمضي ثلاثَ عشرةَ ساعة تارِكًا له، فأضِف إليها مثلَها وقلِّص الأمرَ وتدرَّج، فعسَى الله أن ينقذَك من هذا الداءِ العضال الخبيثِ الذي يؤول إلى السّرطَان والأمراضِ الفتّاكة والهرَمِ السّريع.
يا أخِي، أنت مَعي نهارُك كلّه وقد تعفّفتَ عن التدخين طاعةً لربك وصَبرًا على طاعةِ ربّك، فهيّا بك ـ أخي ـ أن تضيفَ مع الساعات ساعاتٍ وأخرى وأخرَى إلى أن تستمرِيَ تَركه وتَذوقَ اللّذّةَ بتركه وتطمئِنّ إلى تركه عن قناعةٍ وإيمان وتصوُّرٍ للأضرار بعدما ترى صحّتَك وعافيتَك، وبعدما تأخذُ الفحوصاتِ بعد تركِه، ستطَّلع على أنّ الفحوصاتِ قد تحسَّنت، وأنَّ الأوجاعَ والأمراضَ الخطيرة قد زالَت، وأنّك أصبحتَ في نعمة وعافية.
أختِي المسلمة، إنَّ الله جعل الحيضَ سببًا للفِطر، وحرَّم على الحائض أن تصومَ في نهار رمضان، وأنّه يجِب عليها أن تقضيَ الأيام الماضيةَ؛ ولذا لمّا سئلَت عائشة قالت لها امرأة: ما بالُ الحائِضِ تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاة؟! قالت: كان يصيبُنا ذلك في عهدِ رسولِ الله، فنُؤمَر بقضاءِ الصّومِ، ولا نُؤمَر بقضاء الصلاة[3].
أختِي المسلمة، خروجُ دمِ الحيض من المرأة مؤشِّر على صحّتِها وسلامتها وعافِيَتها، وانتِظام خروجه أيضًا دليلٌ على أنّها تتمتَّع بشبابها وقوّتها. إذًا محاوَلَةُ بعضِ الأخوات في رمضانَ تعاطي ما يرفَع الدّمَ أو العادَةَ الشهرية في رمضانَ طمَعًا للصّلاة والتعبُّد المقصَد حسَن، لكن هذا في حدِّ ذاته قد يكون ضررًا؛ لأنَّ الله أرحَم بالعباد.
وأيّتها المرأة المسلمة، إفطارك بالعُذر الشرعيّ لا ينقِّص ثوابَك عند الله، اسمعي نبيِّك يقول: ((إذا مَرض العبد أو سافَر كتب الله له ما كان يعمَله صحيحًا مقيمًا))[4]. قيل لبعض السلف: ليلة القدر في فضلِها ألِلمسافر والمريضِ والحائض نصيبٌ من ليلة القدر؟ قال: "من قبِلَه الله فله نصيبٌ من تلكم الليلة".
أختي المسلمة، قد تتعاطى بعضُ النساء ما يسمَّى بما يمنَع الحملَ غير الحبوب من الأجهزةِ الخاصّة بها كما يسمَّى عندهم باللولب وأمثاله، وهذا قد يؤدِّي إلى استمرارِ الدّمِ معها دائمًا وكَثرته معها دائِمًا وأنّه أحيانًا قد يستمرّ معها الشهرَ والشهرين ما رأَت الطهرَ، فالحكم الشرعيُّ في ذلك ما أرشدَ إليه النبيّ من أنّها تنظُر إلى أيّام العادَةِ السابقة التي كانَت تجلِسها قبل هذا التغيّر، ويكفيها ذلك لأنّها بهذا في حُكم المستَحاضة، فتجلِس الأيام الماضيةَ المعتادة، والباقي تصوم فيه وتصلّي.
أختي المسلمة، إنَّ الله أوجب عليك غضَّ البصر وتحصينَ الفرج، أوجب عليك لزومَ الحِشمة، أوجَب عليك الحجابَ الإسلاميّ، أوجب عليك التستّر، حرّم عليك الخلوةَ بالأجنبيّ، حرّم عليك دخولَ مَن ليس محرمًا لك عليك صِيانة لكرامتك، حرَّم عليك السفرَ بلا محرم محافظةً على الكرامة والقِيَم والفضائل.
أخواتي المسلمات، إنَّ البعض منهن ـ هدَانا الله وإيّاهن ـ يخرجن في هذه اللّيالي إلى الأسواق، ويا ليتَ الخروج ساعة أو ساعتين، ويا ليتَ الخروج ليلة من أسبوع أو نحو ذلك، لكن للأسف الشديد تواصُل هذا الخروج في ليالي الصيام، والأسف الشديد طولُ هذا البقاء والتنقّل من مجمَّع إلى مجمّع آخر، والآسف الآخر خروجُهن متبرِّجات؛ الحجابُ قَليل والملابِس شفّافة والعطورَاتُ رائِحتُها قوِيّة وإلى غير ذلك.
فيا أيّتُها الأخَوات، اتَّقينَ الله في أنفسِكُنّ، اتّقين الله في المسلِمين، لا تَكوني سَببًا لتحرُّش الآخرين بِك، لاَ تكوني سَببًا لتطلُّع الفسَّاق والأَرذال [إليك].
ويا شَبابَنا المسلِم، اتَّقوا الله في أنفسِكم، احذَروا التّسكُّعات والسّهَرَ الذي لا خيرَ فيه والتجمُّعات التي لا تُفيد ولا تحقِّق غَرضًا، ولكن تقتل الوقتَ بما لا خيرَ فيه.
أيّها الصائمون، تعلمون أنّنا نَصوم ونفطِر؛ بطلوعِ الفجرِ الثاني نمسك، وبِغروب الشمس نفطِر، وهذا شرع ربِّنا. وتعلمون أنَّنا في هذا الزمنِ قد لا يستطيع كلُّ فردٍ منّا أن يعايِنَ بنفسِه الخيط الأبيضَ من الخيط الأسودِ، ففي المدُن والأنوارِ العظيمة قد لا يتمكَّن، وهذا التقويمُ الذي يحدِّد وقتَ الإمساك ويحدِّده بالساعةِ والدّقائقِ يجِب أن نتقيَّدَ به، وأن نعلمَ أنَّ هذا التقويمَ ـ أعني: تقويمَ أمِّ القرى ـ صادِرٌ من هيئةٍ علميّة لها صِفةُ العِلمِ ولها صِفةُ العلم أيضًا بالفلك، ومتَّفَق عليه قرونًا عديدة، منذ عهد الملك عبد العزيزِ غفر الله له، وقد أسِّسَ هذا التقويم واستمرَّ وله أكثر من ثمانين سنَة، وهو لا يزالُ منتظِمًا مرتَبطًا متناسِقًا لا اضطرابَ ولا انقسامَ فيه، ولعلَّكم أن تسمَعوا من بعضِ جاهلٍ وقليلِ علمٍ وقليلِ مَعرفة ومَن يسوء فهمُه ومن لا فهمَ عِنده ولا إيمانَ قويّ في قلبِه يقول: إنّنا نمسِك قبلَ الإمساك بثلثِ ساعةٍ أو نصف ساعة، ويريدون منّا أن نمسكَ إلى أن تطلعَ الشمسُ فنرَاها طالِعَة، وأما [ظهور] الفجرِ فلا يعتبرون به، هذه مغالَطات، هذه جهالات، هذه أمور يتحدَّث فيها جَهَلة لا يفهمون، وهم أهلُ قلّة علمٍ وفِقهٍ عن الله، وإنما يريدون تحويلَ المجتمع من ثوابِتِه إلى أن تفسدَ عبادتُه، فليَعلَم أيُّ مسلمٍ أكل أو شرب بعد طلوع الفجرِ على حسَب التقويم المعتَبَر أنَّ من أكل أو شرِب بعده فإنّ صومَه غيرُ صحيح ويجِب عليه القضاء والتوبةُ إلى الله، ولا تهتمّوا، ولا تصغوا إلى هذه الأقوالِ الزّائفةِ والأقوالِ الباطلة التي يتكلّم بها جهلةٌ لا يفهمون وقليلو علمٍ لا يتصوَّرون حقيقةَ ما يتكلَّمون به، وإنما محبّة للشّذوذ والإتيان بآراء شاطّة، يرونَ أنها بهذا ترفَع منزلتهم أو تثبِت أنهم ذوو عِلمٍ، والله يعلم أنهم ليسوا كذلك.
أيّها الشباب المسلم، إنَّ الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
يا أخي المسلِم، مِن إشاعة الفاحشةِ سوءُ استعمال بعضِ أبنائنا لوسائلِ اتّصال الجوّال، سوءُ الاستعمال وتبادُل الصور المختلِفة، يبثّ بعضُهم إلى بعضٍ صورَ نِساء عارِيَة، ويتداوَلونها بينهم، ولا يعلَمون أنهم بهذا ناشِرو الفاحشةِ مشيعونَ للفساد داعون إلى الفساد، هذه قِلّة حياءٍ يا أخي الشابّ المسلم، لماذا تسخِّر هذه الوسيلةَ النافعة إلى أن تحوِّلها وسيلةَ إجرام ودعوة للفجور والفساد؟!
يا إخواني، هذه أخلاقٌ سيّئة، لا ترضَونها لبناتِكم وزوجاتِكم وأخواتِكم، فكيف ترضَونها لبنات الآخرين وأخواتِ الآخرين؟!
أيضًا في المشاغل النسويّة على اختلاف أنواعِها أحيانًا قد يكون فيها أهلُ رذيلةٍ، يجعلون الكميراتِ الخفيّة لتلتقطَ صوَرًا للنساء وهن وهن كذا وكذا، كلُّ هذا ـ يا إخواني ـ مِن نشر الفاحشة، فليتَّقِ المسلم ربَّه، وليحافِظ على أعراض النّاس، وليحمِ عورات النّساء نساءِ المسلمين يحمِ الله عورتَه، ويستر على بنيهِ وبناتِه، وليعلم أن إساءتَه لنساء الآخرين قد يعاقَب ـ والعياذ بالله ـ في أهل بيته. فاتَّقوا الله في أنفسكم، وصونوا اتصالاتِكم عن الفساد، واجعلوها وسيلة نافعةً، ولا تحوِّلوها وسيلةَ إجرام.
ويا أربابَ القنوات الفضائية المختَلِفة، اتَّقوا الله في هذا الشهرِ، ولا تعرِضوا إلاّ مسَلسَلات نافِعَة هادِفة، تهدِف إلى الخير وتَدعو إليه، أمّا مُسلسَلات إجراميّة قد تصوِّر الدّينَ وأهلَه وتصوِّر بعضَ القرآن وما وعَد به المتّقين في دارِ كرامَته قد تصوِّرها هزوًا ولعبًا، فهذا أمرٌ خطير، فليتّقِ ربَّه، وليتَّق الله أهلُ القنوات الفضائية عمومًا، ولا يعرِضوا للناس إلاّ ما فيه الخير، وليعلَموا أنَّ أيَّ مسَلسلٍ إجراميّ فإنهم يكونون بهذا دعاةً إلى الضلال، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزرِ مثلُ أوزار من تبِعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد، وأن يجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ بِدعة ضَلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائِهِ الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)، ومسلم في الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] تقدم في أول حديث.
[3] أخرجه البخاري في الحيض (321)، ومسلم في الحيض (335).
[4] أخرجه البخاري في الجهاد (2996) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
| |
|