molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: إنه الصيام - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الخميس 2 فبراير - 3:07:51 | |
|
إنه الصيام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أذكِّر نفسِي وأذكِّرك ـ أخي المسلم ـ بحكمةِ الله من إيجادِنا وخلقِنا، وأنَّ حكمتَه من إيجادِنا ـ معشرَ الثقلين الجنّ والإنس ـ عبادتُنا له جلّ وعلا، تقرُّبنا إليه بما يحبّه ويرضاه، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
أخي المسلِم، نظرُك إلى الحياةِ ليس كنظرِ غيرِك، فغيرُ المؤمِنِ ينظر إلى هذهِ الحياةِ الدّنيا نظرَ التمتُّع بملذّاتِها وإعطاء النفسِ شهواتِها، فإذا نالَ الملذاتِ والمُتَع اكتفَى بذلك وكأنّه ما خلِقَ إلا لهذه المتَع، وذاك حالُ من لا يرجون حسابًا ولا يخافون عِقابًا، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [الجاثية:24].
أمّا نظر المؤمِنِ لهذه الحياةِ الدنيا فنظرُ المتدبِّر المتعقِّل الذي أيقَنَ بأنَّ الله إنما خَلَقه ليعبدَه تعالى، ليقبَلَ أوامرَه وليجتَنِب نواهيَه، إنّه يفكِّر في خلقه وإيجاده، فيتصوَّر نعمةَ الله عليه حيث أوجدَه من العدَم، يحمَد الله على حسنِ خلق الله له، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، يشكُر الله على أن كرّمه بالإنسانية من بين سائر المخلوقاتِ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
ثمّ المؤمِنُ بعد هذا يشكُرُ الله على هِدايَتِه للإسلام وأنَّ الله هداه لهذا الدّينِ وشرحَ صدرَه لقبول أوامِرِ الله ونواهِيه، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22]. يَشكر الله أن هدَاه للإسلامِ ومنَّ عليه بهذا النبيِّ الكريم وبهذا الكتابِ العَزيز، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، ويتذكَّر نعمةَ الله عَليه بهذا القرآنِ العزيزِ الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا من خَلفِه تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميد، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
المسلم يقبَل أوامِرَ الله، ويعلَم أنّ هذه الأوامرَ سببٌ لعِزّته ورِفعته في الدنيا وكرامتِه عند الله في الدنيا والآخرة، يقبَل أوامرَ الله، وتَرتاح نفسُه بها، ويطمئنُّ بها قلبُه، وتسكُن إليها روحُه، فهو يعمُر هذه الحياةَ بأوامر الله التي أمرَه بها، ويكفُّ نفسه عن النواهِي التي نهاه الله عَنها.
يرَى نفسه في لذّةٍ وطمأنينةٍ إن هو أدَّى ركنًا من أركان دينِه، فيحمَد الله أن شرَع له الفرائضَ وأوجب عليه الواجِبات، فيراها النعمةَ العظمى والمنّة الكبرى، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
بَنَى الله دينَ الإسلامِ على أركانٍ خمسَة، أساسُها وأصلُها تحقيق شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله عِلمًا وعَملاً وصِدقًا وإِخلاصًا ويَقينًا ومحبَّة وقبولاً لها، فيعبُد الله وحدَه لا شريك له، ويتَّبع هذا النبيَّ الكريم، ويؤمن بأنّه رسول الله إليه ليبلِّغه شرعَ الله ويأخذَ بيده إلى الطريق المستقيم صلوات الله وسلامه عَليه دائمًا إلى يومِ الدين، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52، 53].
ثمّ أركانُ الإسلامِ الأربعةُ مِن صلاةٍ و+اة وصَوم وحجّ جاءت لتقرِّرَ أنّ المؤمنَ في قلبِه إيمانٌ صحيح، فإنَّ الإيمانّ مكوَّن من عملٍ واعتقادٍ وقول، اعتقاد القلبِ وعمَل القلب والجوارح وقَول اللسان، فليس إيمانًا بمجرَّدِ الأماني، ولكنّه الإيمان الحقّ الذي وقر في القلبِ وصدّقه العمل.
حينما يؤدِّي المسلم هذه الأركانَ يعلم أنّ لله حكمةً في كلِّ ركن من أركانِ دينه، يعلَم منها ما يعلَم، ويخفى عليه ما يخفَى، لكنّه في الجملةِ مسلِّمٌ لله أوامرَه، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
يؤدِّي الصلواتِ الخمس لأنها الصِّلَة بينه وبين ربِّه التي تقرِّبه إلى الله، وتأخذ بيده لمعالي الأمورِ، وتبعِده عن الفحشاءِ والمنكَر، وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
يؤدِّي زكاةَ ماله ليطهِّر قلبَه من دَرَن الشحِّ والبُخل، ولي+ّيَ نفسَه، وليطهِّر مالَه، وليسعَى في نموِّه وزِيادته، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
يحجّ بيتَ الله الحرام، وينفِق المال ويتعِب البدنَ، لكنّه يجِد اللذّة عندما يكون هدفُه وغايته ابتغاءَ مرضاةِ الله وطلب ثَوابه.
يأتيه شهرُ الصيام والقيام فيستبشِر به ويفرَح به، يفرَح به فرحًا عظيمًا، ويستبشِر بمقدَم هذا الشهرِ، ولسانُ حاله: الحمد لله الذي بلَّغني صيام رمضان، الحمدُ لله الذي جعلَني من الأحياء لأصومَ هذا الشهرَ وأتقرَّب إلى الله فيه بما يُرضيه عنّي من الأقوالِ والأعمال.
أتَى رمضان وأمّةُ الإسلام في فرحٍ واغتباطٍ بقربِ هذا الشهرِ، وكلّ يتمنَّى من ربِّه أن يكونَ أحَد الصائمين القائمين لله في هذا الشهرِ المبارك؛ ليرجوَ به ثوابَ الله ويتقرَّب إلى الله بذلك العمل.
إنَّ ربَّنا جلّ وعلا شرَّفنا بهذه الأوامر، فله الفضلُ والمنّة علينا بما شرَع لنا من هذه الأوامرِ وبما نهانا عنه من النّواهي.
إنَّ ربَّنا جلّ جلاله يوجِّه الخطابَ إلى أهل الإسلام إلى أهلِ الإيمان المستجيبين لله ورسولِه السّامعين المطيعين المنقادِين القابلين للأوامِر المسلِّمين لله مرادَه حينما يخاطِبُهم قائلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
يقِف المسلِمُ متدبِّرًا متأمِّلاً لهذا النّداء الربّانيِّ العظيم، يخاطِب كلَّ مسلم بأعلَى صِفَته وأكمَلها ألا وهي صفةُ الإيمان الذي يحمِل على الانقياد والاستجابة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ: شرِعَ لكم الصّيام، فرض عليكم الصيام، هذا الصّوم عبادةٌ لم تكونوا مختصِّين بها من [بين] سائِر الأمَم، بل هي عبادةٌ قديمة، كتَبها الله على مَن قبلَنا منذ آدَم عليه السلام إلى محمّد .
كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، لكنَّ لهذه الأمّة في هذا الشهر خصوصيّات لم تكن لأمّةٍ قبلَها من الأمم، وذاك لفضلِ هذه الأمّة وكرَمها على الله، صلواتُ الله وسلامه على نبيِّنا وسائِر الأنبياء إلى يومِ الدّين.
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ فلِكون الصوم عبادةً لها شأنُها ولها فَضلها ومكانتها صارَت عبادةً قديمة.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني: حكمةُ الله من شرعِ الصّيام لنا مجموعٌ في جزءِ هَذهِ الآيةِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أجل، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، كلمةٌ جامعة، كلِمة مستوفِيَة للكثِير، كلِمة هي من جوامِع الكلم التي أُعطِيَها نبيُّنا ، فيتأمَّل المسلم قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ويتدبَّر كيف يكون الصّيامُ سببًا للتّقوَى، وكلُّ الأعمال الصالحة من صلاة و+اةٍ وحجّ وغيرها من الواجبات هي أيضًا سببٌ للتقوى، فلماذا خُصَّ الصيام من بينِ العِبادات بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ؟! أجل، إنَّ المسلم حينَما يتأمَّل الصيامَ وفوائدَه ليعلَم حقًّا أنّه من أقوى الأسبابِ المحقِّقة للتقوى في قلب المؤمِن. التقوَى حقيقتُها امتثال أوامرِ الله على بصيرة من أمرِه واجتنابُ نواهي الله على علمٍ وبصيرة، يمتثِل الأوامرَ يرجو بها ثوابَ الله، وينتهي عن النواهِي يخاف [بفِعلِها] من عقابِ الله.
الصائِمُ حينما يمتنِع عن الطعام والماءِ ومواقعةِ النساء منذ طلوع الفجرِ الثاني إلى غروبِ الشمس ما الذي دعاه لهذا الانقياد؟! ما الذي فرضَ عليه هذا؟! أَحميَةً التَزمَها أم مجرَّد عادةٍ فعلها؟! لا، إنما كان امتناعُه عن ملذّات النفس وما تدعو إليه النفسُ وما تميل إليه النفس بطَبعِها من ماءٍ وطعامٍ ونِساء إنما ترَك ذلك لأجلِ الله، إنما امتَنع عنها في نهارِ الصّيام تقرُّبًا إلى اللهِ، إنَّ الذي دعاه خوفُه من الله وخوفُه من المقام بين يدَيِ الله، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
الصّائِم قد يظهَر للناس أنه صائم وهو في داخِلِ منزله آكلٌ شاربٌ آتٍ للنّساء، وأمَامَ الناس إنّه الصائم المتعبِّد، قد يكون هذا، لكن المؤمِن حقًّا بع+ هذا، حينَما تدعوه النفسُ إلى ما تميلُ إليه من طعامٍ وشرابٍ ونساء يترُكها لما قام بقلبِه من اليقين الجازِمِ أنَّ الله مطَّلِعٌ عليه وعالِم بسرِّه وعلانِيتِه، قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]. إذًا ففي الصّيام تقويةٌ لجانب الإخلاص، وفي الصيام تقويَة لصِدقِ التعامل مع الله، وفي الصّيام إظهارُ الخضوع والذلِّ لله جلّ وعلا.
إنّ الصائم والماءُ والشراب والمُتَع بين يديه، ينظر إليها بعَينَيه، وبإمكانِهِ تَناوُلُ ما شاء منها، إذًا فيدعوه عندما يؤلمه الجوعُ والظّمأ إلى شُكر الله على النّعمة التي هي عندَه وما ترَكَها إلاّ طاعةً لله، فيتصوَّر عظيمَ نِعَم الله عليه، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]. والنّعَم إنَّما يعرف قدرَها من فقَدَها، وهذا ليس فاقدًا لها، هي متواجِدة عنده لكنّه تركها لله، فيشكُر اللهَ ويزداد شكرًا لله وثَناء عليه.
إنّها تذكِّره بحال المعوِزِين والمحتاجين وبحال من تمرُّ الليالي والأيام والشهور وهم في بأساء وضرّاء وفاقةٍ وفَقر وعريّ، فيدعوه إلى رِقّة قلبِه ولين يدِه، فيمدّ يدَ الإحسان إلى الفقراءِ والمساكين والمعوِزين.
إنّه يربِّي في النفس قوّةَ الإرادة وتحمّل المشاقِّ والصبر على المتاعِبِ حينما يمتدُّ طولُ النهار وهو صائم لله جلّ وعلا، يعلِّمُه الصبرَ الحقيقيّ؛ الصبرَ على طاعةِ الله وعَدَم الملَل والضجَر، يعلِّمه الانضِباطَ في المواعيد، يعلِّمه قوّةَ الإرادةِ والتغلُّب على الهوَى وملذّاتِ النّفس.
إنّه صِحّةٌ للبدن، ينقِّيه من فضلات الطعامِ والشراب، ويهيِّئُه للمستقبل لحياةٍ طيبة.
إنّه دواءٌ للعبد، دواء لأمراضِ القلوبِ، عندَما يصوم المؤمِن رمضانَ فرمضانُ يكفِّر ما مضَى من الذّنوبِ، فيعِدّه لرمضانَ آخر وهو لا يزال في طُهرَة رَمضانَ ونقاءِ رمضان، ((الصلوات الخمس والجُمُعة إلى الجمعةِ ورَمضان إلى رمضانَ مكفِّراتٌ ما بينهنَ إذا اجتنبت الكبائر))[1].
يَصوم رمضانَ بإيمانٍ واحتساب تَصديقًا لإخبار الصادقِ المصدوقِ : ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه))[2]، إيمانًا بوجوبِه واحتسابَ الثوابِ وطلبه من ربِّ العالمين.
إّنه الصيامُ الذي يهذِّب السلوكَ، يهذِّب سلوكَ العبد، ويروِّضه على الخير، يهذِّب أقواله وأعمالَه، فهو يدعوه إلى الحِلم والأناءةِ والصفحِ والإعراضِ عنِ الجاهلين وعَدمِ مجاراةِ السفهاء في سَفَههم، يقول : ((فإذا كان [يوم] صومُ أحدِكم فلا يرفُث ولا يسخَب، وإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فليقُل: إنِّي امرؤٌ صائم، إني امرؤٌ صائم))[3].
أيّها المسلِم، أبوابُ الجنّة الثمانية تفتَّح لك في هذا الشهرِ لأهل الإسلامِ لقوّةِ الطاعةِ وكَثرتها ونُدور الإجرامِ من أهل الإيمانِ، وتُغلق فيه أبوابُ النار، وينادِي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر، وللهِ عتقاءُ من النار في كلِّ ليلةٍ.
أيّها المسلم، شهرٌ عظيم من أشهرِ الله، هو سيِّد الشهور عند الله، يقول يومًا لأصحابِه: ((أتاكم رمضانُ شهرُ بركةٍ، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمةَ، ويحطّ الخطيئةَ، ويستجيب الدعاءَ، ينظر الله إلى تَنافسِكم فيه، فيباهِي بكم ملائكتَه، فأروا الله من أنفسِكم خيرًا، فإنّ المحرومَ فيه من حرِم فضلَ الله))[4].
أيّها المسلِم، احفَظ حدودَ هذا الشهرِ، والتزِمِ الأدبَ الشرعيّ فيه؛ ليكونَ الصيام بتوفيقٍ مِن الله صِيامًا كامِلاً، في الحديث: ((من صامَ رمضانَ وعرَف حدودَه وتحصَّن ممّا ينبغي أن يُتَحصَّن منه كفَّر ما قبله))[5].
إنَّ الله يكتب نوافلَ هذا الشهرِ قبل أن يدخِلَه، ويكتبُ وزرَه وشقاءه قبل أن يدخِلَه، كما قال ذلك محمّد حيث يقول: ((أتاكم رَمضانُ، ما مرَّ بالمسلمين شهرٌ هو خير لهم منه بِمحلوفِ رسول الله ، ولا مرَّ بالمنافقين شهرٌ هو شرّ لهم منه بمحلوفِ رسول الله ، إنَّ الله يكتُب أجرَه ونوافلَه قبل أن يدخلَه، ويكتب شقاءَه ووزرَه قبل أن يدخِلَه، وذلك أنَّ المؤمنَ يعِدّ فيه القوَّةَ للعبادَة، ويعدّ فيه الفاجر تَتُبّع غفلاتِ المسلمين وعوراتهم، فهو غنمٌ للمؤمن يغتَنِمه الفاجر))[6].
كان نبيُّكم يبشِّر أصحابَه بهذا الشهرِ، ويعُدّ لهم خصالَ الخير فيه تَرغيبًا لهم في الفضلِ وشحذًا لهِمَمِهم لكَي يزدادوا خيرًا، يُروَى عن سلمانَ الفارسيّ عن رسول الله مرفوعًا قال: خَطَبنا نبيُّنا في آخرِ يومٍ من شعبانَ ثمّ قال: ((قد أَظلَّكم شهرٌ عظيم مبارَك، شَهر جعَل الله صيامَه فريضةً وقيامَ ليلِه تطوّعًا، من تقرَّب فيه بخصلةٍ مِن خِصال الخير كانَ كمَن أدّى فيهِ فريضةً، ومَن أدّى فيهِ فَريضةً كان كَمَن أدّى سَبعين فرِيضةً فيما سِواه، وهو شَهرُ الصبر والصّبرُ ثوابُه الجنّة، وشَهر المواساةِ وشَهرٌ يزادُ في رزق المؤمنِ فيه، شَهرٌ أوّلُه رَحمة، وأَوسطه مغفِرَة، وآخِرُه عِتقٌ مِنَ النار، مَن فطَّر فيه صَائمًا كان مَغفِرةً لذنوبه وعِتقَ رقَبتِه منَ النار، وكان له مِن الأجرِ مثلُ أجرِ الصائم من غيرِ أن ينقُص من أجرِ الصائم شيءٌ، ومَن خفَّف فيه عن مملوكِه أعتقَه الله من النّار، من سقَى فيه صائِمًا شربةَ ماءٍ سَقاه الله مِن حوضي شربةً لا يظمَأ بعدها حتى يدخُلَ الجنّة، فاستكثِروا فيه مِن أربعِ خِصالٍ، خصلتَين تُرضون بهما ربَّكم، وخَصلتَين لا غِناءَ بكم عنهما، فأمّا اللّتان ترضونَ بهما ربَّكم فشهادةُ أن لا إلهَ إلا الله وتستغفرونَه، وأمّا الخصلَتان اللتان لا غِناءَ بكم عنهما فتَسألونَ الله الجنّةَ وتستعيذون به منَ النّار))[7].
هَذا شهرُ رَمضَان، شَهر الصيامِ والقيامِ، شَهر تكفَّر فيه الذنوب والخطايا، وشهرٌ تجَاب فيه الدعواتُ، وشهر ينَال فيه المسلمون عظيمَ الخيراتِ.
يا أخي المسلِم، احمَد الله وأنت في عِداد الأحياء صَحيحًا مسلِمًا قادرًا على الصّيام، وتذكَّر حالَ من فقَدتَهم في مثلِ هذه الأيّام، تذكَّر من غيَّب الثرى أجسادَهم، تذكَّر أناسًا صَحِبتهم ثم فارَقوكَ، فاحمدِ الله على هذهِ النّعمة وتقرَّب إلى الله بالعَمَل الصالح. فرصةٌ للتائبين والنادمين، فرصةٌ للمخطئِين والمذنِبِين؛ أن يتوبوا إلى رَبهم في هذه الأيام والليالِي المباركةِ، فرصةٌ للمفرِّطين في أعمالهم أن يتدارَكوا نقصَهم، ويستعِينوا بالله على طاعَتِه، ويتوبوا إلى ربِّهم توبةً نصوحًا يَمحو الله بها ما مضَى من الذنوب، ويوفِّقهم فيها لعملٍ صالح يرضَاه عنهم.
يا أخِي، استبشِر بهذا الشهرِ، وافرَح به، واحمدِ الله على نِعمتِه، واعلم أنّ الله أحكَمُ منك وأرحَم، ما ابتَلاكَ لأجل أن تتركَ الطّعام والشّرابَ، ولكن ابتلاك لأن يَكونَ تركُك لهذه الملذّات سببًا لقوّةِ نفسك، لقوّةِ إيمانِك وإرادتك، لثباتِك على الحقِّ واستقامتك عليه.
أسأل الله الذي لا إلهَ غيره إِذ قرَّبنا مِن أيّامه أن يبلِّغَنا صيامه وقيامَه، وأن يجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، وأن يجعلَنا وإياكم فيه من الفائزِين برضوانه الناجين من عذابه المستغفِرين من الزلَل والخطَأ، إنّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هَذا، وأستَغفِر الله العَظيم الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغَفور الرّحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال: "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته"، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (592).
[5] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص98)، ومن طريقه أحمد (3/55)، وأبو يعلى (1058) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه ابن حبان (3433)، لكن فيه عبد الله بن قرط لم يرو عنه غير يحيى بن أيوب، أورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقال الحسيني في الإكمال: "مجهول"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص395).
[6] أخرجه أحمد (2/374)، وابن خزيمة (3/188)، والطبراني في الأوسط (9/21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة، ولم أجد من ترجمه"، وفي إسناده أيضًا عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302): "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260): "لا يتابع عليه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (590).
[7] رواه الحارث في مسنده (318 ـ بغية الباحث ـ)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293)، قال أبو حاتم: "هذا حديث منكر"، وكذا قال الألباني في ضعيف الترغيب (589).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لَه، وأشهَد أنّ محَمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلَى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عِبادَ الله، يقول الله في آياتِ الصّيام: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
أجل، إنَّ الله تعالى أراد بنا اليُسر، فافترض صيامَ رَمضان أداءً على المسلم القادِر الصحيح المقيم، فالمسلمُ العاقِل القادر المقيمُ الصحيح يجِب عليه أداءُ الصيام في وقته، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].
ثانيًا: غيرُ المسلم لا يخاطَب بالصيام؛ لأنَّ الصيام إنَّما يصحّ ممّن عبَد الله وحدَه، ومن عبَدَ غيرَ الله فكلُّ أعمالِه باطِلة، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
المجنونُ لا يجِب عليه الصّوم أثناءَ جنونِه؛ لأنّه غيرُ مكلَّف ولا مخاطَب.
الصغير لا يجِب الصومُ عليه، لأنّه إنما يجِب بالبلوغِ، لكن يعوَّد الصغار مِن صِغَرهم على الصيامِ ليرغَبوا فيه ويحبّوه وينشَؤوا على محبّةِ الصيام ويأخذوه على ذلك، وكان الصحابةُ يُصوِّمونَ صبيانَهم ويعطونَهم اللّعَبَ من العِهنِ ليشغلوهُم عن الطعامِ والشراب[1].
أيّها المسلِم، العاجِز عن الصّيامِ على أقسامٍ:
عاجزٌ عن الصيام لكِبَر سنِّه، وأنّه بلَغ من السنّ مبلَغًا يعجز فيه عن الصيام، فعليه أن يطعِمَ عن كلِّ يومٍ مسكينًا، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، لم تنسَخ، بل نُسِخ منها القادِر، وبَقِيَت في حقّ العاجز لكِبَره من رجلٍ أو امرأة، فإِذا بلغ من السّنِّ مَبلغًا يعجز فيه عن الصيام ولا يطيقه فليخرِج خمسةً وأبعين كيلو من الأرزّ أو الحبّ، في أوّلِ الشّهر أخرجها أم في آخِرِه.
ثانيًا: الذي أصابَه مرَضٌ، وهذا المرَض من الأمراض الخطيرَةِ المخوفة التي يقرِّر الأطبّاءُ المختصّون في الغالبِ أنّه مرضٌ ملازم، وأنَّ الصومَ معه يهدِّد حياةَ الإنسان، فإنّه أيضًا يفطِر ويطعِم عن كلِّ يوم مسكينًا، قال جلّ وعلا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ. إذًا فالمريض الذي مرضُه مخوف لا يأمَّل زوالُه بأمر الله في الغالِبِ فإنّه يطعم عن نفسِه عن كلِّ يومٍ مسكينًا.
المصابون بداءِ الكلَى والفشل الكلويّ والذين يزاوِلون الغسيلَ في اليومِ مَرّةً أو مرّتين هؤلاء يطعِمون ولا قضاءَ عليهم، وإن كان غسيلُه يومًا بعد يومٍ ويمكنه في اليوم الذي لا يستعمِل الغسيلَ فيه فإنَّه يصومه، وإن عجز عنه أطعَمَ عن كلّ يومٍ مسكينًا.
المصاب بانخِفاض السكَّر أو [بارتفاع] ذلك ممن يخشَى على نفسِه الصيام وأنه في أثناءِ انخفاضِه أو زيادته ربما يهدِّد حياتَه فإنّه يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا ولا حرج عليه.
أمّا المرض الذي يعرِض ويزول في الغالب فكما قال الله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فيفطِر ويقضِي لا سيّما إن كان الصومُ يزيد المرضَ أو يؤخِّر بُرءَه فإنه يفطِر ويقضي عن كلّ يوم مسكينًا، ومتى كان المرض مهدِّدًا للصائِم فإنه يحرم أن يصومَ والمرض سبَبٌ لهلاكه لأنّ الله يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].
المريض عندما يفطِر لأجل المرض فإن تمكَّن من القضاء فالحمد لله، ولو أنَّ المريض مرِض ثم ماتَ بعد رمضانَ مباشرةً ونحو ذلك ولم يمكِنه القضاء فإنّه لا قضاءَ ولا إطعامَ عليه. كذلك الشّخصُ الذي بلَغ من السنِّ مبلغًا فقد فيه ذاكرتَه في الغالب وأصبح لا يشعُر ولا يدرِي بمن حوله فهذا أيضًا لا إطعامَ ولا صيامَ عليه؛ لأنه فقد التكليفَ فلا شيءَ عليه، فالمصابون بالجلطةِ الدّمويّة وغيرها من الأمراضِ الملازمةِ التي تكون أحيانًا سببًا في فُقدان الذاكرةِ إما لكِبَر أو عظم المرض الملازمِ له فإنّ هذا لا قضاءَ ولا إطعامَ عليه لفَقد صِفَة التّكليف عليه.
المسافرُ الذي يجِد ضعفًا في أثناء سفرِه له أن يفطِرَ لأن الله يقول: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ، والنّبيُّ أفطر في السّفر، ولما كانَ في عامِ فتح مكّة ورأى ضرورةَ الفطر أمرَهم بالفطر وقال: أفطروا ليكونَ قوّةً لكم على مواجهةِ الأعداء. وإن تحمَّل المسافر الصومَ فصام فلا شيءَ عليه، أمّا إن شقَّ عليه الصومُ فالله يحبّ أن تؤتَى رُخَصه كما يكرَه أن تؤتَى معصيتُه.
فلنقبَل شرعَ الله، ولنؤمن بذلك ولنرضَ به، ولنحمد الله على هذه النعمة وعلى هذا التيسير، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].
إخوتي المسلمين، في هذه الأيّام نشأت بعضُ الشركات، مهمّتُها البحثُ عمّن عليه التِزاماتٌ للمصارِف البنكية، تقول لهم: نحن نتكفَّل بتَسديد المبالِغ عنكم لكن شريطةَ أن يكونَ لنا نسبة فائِدة على هذا القرضِ، فإذا كان مقتَرِضًا مثلاً مائَة ألف أخَذ ثمانين ألفًا بمائة ألف وحان وقتُ السّداد تقول له هذِه الشّركةُ: نوفِي عنك المائةَ أَلف على أن تسدِّدَنا مائة وعشرة آلاف مقابِلَ محاسَبَتنا للمَصرف، فنأخذ عليك عشرةَ آلاف لأجلِ تعجيلِنا الدفعَ للمَصَارف ونريحك من تَعَبِهم، إنما المهمّ أن يكونَ القرض هذا والتسديد هذا بِنِسبة مِئوية مقابلَ الدّفع والإِراحة من المصارف. هذا ـ يا إخواني ـ هو عَينُ ربا الجاهلية، وفاعله ملعونٌ، وكاتِبه مَلعون، ومُجرِي العقد ملعونٌ على لسان محمّد ، فقد لعن آكِلَ الربا، ولعن موكِل الرّبا، ولعن كاتب الرّبا، ولعن شاهِدَي الربا[2].
فلنتَّقِ الله في تعامُلنا، ولنَبتَعد عن محارم ربنا، أسأل الله أن يحفظَ مكاسبنا ومكاسِبكم من الخبائث، وأن يطهِّرها من الحرام، وأن يغنِيَنا بما أحلَّ لنا عمّا حرّم علينا، إنه على كلِّ شيء قدير.
اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعَلَيكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجَمَاعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى محمّد امتثالا لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1960)، ومسلم في الصيام (1136) عن الربيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في المساقاة (1598) من حديث جابر رضي الله عنه.
| |
|