molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: أهمية الإخلاص - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الإثنين 26 ديسمبر - 6:35:19 | |
|
أهمية الإخلاص
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنّ الإخلاص لله في القول والعمَل شرطٌ لقبول العمل، فالعمل لا يقبَل عند الله إلا إذا كان خالصًا لله يبتغِي به عاملُه وجهَ الله والدار الآخرة وكان هذا العملُ على وفقِ ما دلَّ عليه كتابُ الله وسنّة محمّد ، قال تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَ [الكهف:110]، وقال: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيّمَةِ [البينة:5].
أيّها المسلم، إنّ إخلاصَك لله في العمل دليل على قوّة الإيمان في قلبك، فإنّ المخلصَ لله في أعماله يدلّ [إخلاصه] على قوّة إيمانه وصدقِ يقينِه. إنّ الإخلاص لله في العمَل يدعو إلى مواصلةِ العمل والاستمرار والاستقامةِ عليه، أمّا المرائي في أعماله فإنّه سرعانَ ما يقطع أعمالَه وينحرف عن سلوكه الطيّب؛ لأنّ المرائي إنما يعمل لأجلِ الناس ولأجل ثنائهم عليه ومدحهم له ومعرفتهم لمكانتِه، ولكن إذا خلا بينه وبين الله فلا تجِده يعمل خيرًا ولا يقدّم خيرًا؛ لأنّ أعماله ليست لله، ولكنها لأجلِ الناس، وذاك شبّه بالمنافقين كما قال تعالى: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَاءونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، فهم لا يعملون لله، لا يعملون لأجل الله، إنما يعملون لأجل أن يَرى الناس أعمالهم، إذا لم يرهم أحد فهم أ+لُ الناس عن الطاعة وأبعدُهم عن كلّ خير.
فيا أخي المسلم، أخلِص لله أعمالَك كلَّها لتكون من الفائزين في الدنيا والآخرة. إنّ البشرَ لا ينفعونك، وإن أثنوا عليك اليوم فلا ينفعونَك غدًا، الغايةُ أن يثنُوا عليك ثناءً ينقضي [بذهاب يومك]، ولكن المسلمَ يرجو ثناءَ الله عليه، ويرجو أن يثيبَه الله، ويرجو أن يحقّق الله له وعدَه الذي وعد به الصادقين المخلصين.
أيّها المسلمون، الإخلاصُ عزيز على النفوس إلاّ من أعانه الله على نفسِه وأيقن بأنه ملاقي الله ورجا ما عند الله من الثواب، فتراه مخلِصًا لله في أعماله، يعمَل العملَ لأجل الله، ويعمل العملَ ليرجوَ به ثواب الله. ومن رحمة الله على المؤمن أنّ أعماله تكون دائمًا ثوابًا له حتى الأعمال المباحَة وما فيه لذّةُ نفسه وراحتُها إذا قصد بها وجهَ الله، فإنّ الله يجعل كلَّ الأشياء له أعمالاً صالحة يجري له ثوابها بفضلِ الله ورحمته.
أيّها المسلم، فعليك أن تخلصَ لله في أقوالك وأعمالك كلِّها، اصدُقِ اللهَ في أعمالك، فإنّ الصدقَ نجاة، فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21].
أيّها المسلم، أعظم شيءٍ توحيدُ الله وعبادته، فالمسلم يعبُد الله مخلصًا له الدّين، يعبد الله وحدَه لا شريك له، ينطِق بكلمةِ التوحيد: "لا إله إلا الله"، ينطق بها مخلِصًا لله فيها، موقنًا بذلك، مصدِّقًا ومنقادًا، لا يقولها رياءً ولا سمعة، لا يقولها مقالةَ من يخالف مقتضاها وما دلَّت عليه، وإنما يقولها قولَ من كان مصدِّقًا موقنًا بها حقًّا، ولهذا قال الله لنبيّه : فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ [محمد:19]، فاعلم أنه لا إله إلا الله، فالمسلم ينطِق بهذه الشهادة عن يقينٍ وصدق وإخلاص لله، يقول : ((فإنّ الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))[1]، ولهذا من كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنة.
كم يقول المنافقون "لا إله إلا الله"، ولكنّهم يقولونها رياءً وسُمعة، قد فقِد الإخلاصُ من نفوسهم، فلا تنفعهم هذه الكلِمة ولا تفيدهم شيئًا، قد يقول "لا إله إلا الله" من يعبد غيرَ الله، ويلجأ لغيرِ الله، ويعكفُ على قبورِ الأموات، ويطوف بهم، لا تنفعه "لا إله إلا الله"؛ لأنه لم يعمَل بمقتضاها وما دلّت عليه من وجوبِ إخلاص الدين لله وإفرادِ الله بكلّ أنواع العِبادة.
أيّها المسلم، أخلِص لله توحيدَك لتكونَ من الناجين من عذاب الله.
أيّها المسلم، أخلِص لله سائرَ أعمالك لتكونَ مقبولةً عند ربّك جلّ وعلا.
وللإخلاصِ أثرٌ في الأعمال الصّالحة، فلا بدَّ للعمل من نيّة، إنما الأعمال بالنيات، ولا مدّعي للإخلاص، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فليس لك من عملك إلاّ عملاً أخلصتَه لله وقصدتَ به وجهَ الله والدار الآخرة، وأيُّ عمل صالح أردتَ به غيرَ ذلك فإنك تعذَّب به يومَ القيامة.
وقد بيَّن لنا نبيّنا حالَ الثلاثة الذين تسعَّر بهم النّار يومَ القيامة، ذكر منهم ثلاثة، هؤلاء الثلاثة أتَوا بأعمالٍ صالحة، لكنهم لم يريدوا بها وجهَ الله، فعذِّبوا بذلك يومَ القيامة، يقول : ((إنّ أوّلَ من يقضَى عليه يومَ القيامة رجلٌ استُشهِد في سبيل الله، فأتِيَ به فعرَّفه الله نِعمَه فعرفها، قال: ما عمِلتَ؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهِدتُ، قال: كذبتَ، ليقال: جريء، فقد قيل، ثم أمِر به فسحِب على وجه إلى النار. فيؤتَى بالمتعلّم وقارئ القرآن، فيوقف بين يدَيِ الله، فيعرِّفه نعمَه فيعرفها، فيقول: ماذا عملتَ؟ قال: تعلَّمت فيك العلمَ وعلَّمته وقرأتُ فيك القرآن، فيقال: كذبتَ، ليقال: عالمٌ، فقد قيل، وليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمِر به فسحِب على وجهه إلى النار. وآخر يؤتَى به قد أعطاه الله من أصنافِ الأموال، فيعرِّفه الله نعمَه فيعرِفها، يقول: ماذا عملت؟ يقول: يا ربّ، ما تركتُ سبيلاً تحِبّ أن ينفَقَ فيه إلاّ أنفقتُ فيه، فيقال: كذبتَ، ليقال: مصدّق، فقد قيل، ثم أمِر به فسحِب على وجهه إلى النار))[2].
فليحذرِ المسلم من أن تكونَ أعماله حابطةً من حيث لا يشعر، قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. ولذا عبادُ الله المتّقون يخافون على أنفسِهم أن ترَدّ عليهم أعمالهم، يقول جل وعلا: إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ [المؤمنون:57-60]، يعملون الأعمالَ الصالحة ويتقِنونها ويخافون أن لا يُتقَبَّل منهم لخوفِهم على أعمالهم وحَذَرهم من الرياء وعلمهم أنّ الرياءَ إذا صحِب العملَ الصالح أبطله.
أيّها المسلمون، أخلِصوا لله أعمالَكم لتكونَ مقبولةً عند ربّكم، والإخلاصُ في كلّ أنواع العبادات، فمن ذلكم الصلاة، فلا بدّ من إخلاصٍ لله فيها، وقد بيَّن صفةَ الرّياء: ((يقوم الرّجل فيصلِّي فيزيّن صلاته لأجلِ نظر رجلٍ إليه))[3]، وهذا من الرياءِ الذي إذا قارنَ العملَ الصالح أحبطه، ولذا أمرنا بالإخلاصِ لله في الصّلاة، ففي حديثِ الوضوء قولُه : ((ما مِن مسلمٍ يتوضّأ نحو وضوئي هذا ثم يصلّي ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسَه إلاّ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه))[4]؛ لأنه أخلصَ لله في صلاته، فلم يحدّث نفسه بأحاديثِ الدنيا، بل أقبل على صلاته بقلبه. وفي السجود يقول : ((ما مِن مسلمٍ يسجد لله سجدةً إلا رفعَه الله بها درجةً وحطَّ عنه بها خطيئة))[5].
أيّها المسلم، أخلِص لله في أعمالك الصّالحة، بناءُ المسجدِ عملٌ صالح، من بناه لله بنى الله له بيتًا في الجنة، ومن بناه رياءً وسمعة ليبقى اسمُه ويخلَّد ذكره فليس له إلاّ ما نوى من ذلك، يقول : ((من بنى لله مسجدًا بنى الله له مثله في الجنة))[6]. ((من بنى لله)) دلّ على أن البناءَ إنما قصِد به وجهُ الله، ولم يقصَد به أمرٌ من الأمور.
أيّها المسلم، أخلِص لله في إتيانك إلى المسجد، فإنّ إتيانَ المسجد لأداء صلاة الجماعة عبادة لله، فمن أتاها مخلِصًا لله نال الثوابَ العظيم، يقول : ((صلاةُ الرجل في الجماعة تفضُل على صلاته في بيته خمسًا وعشرين درجة، وذلك أنّه إذا توضّأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلاّ الصلاة لا ينهزه إلاّ الصلاة..))[7]، دلّ ذلك على أنّ هذا الثوابَ مرتَّب على من أتى المسجدَ مخلِصًا لله في إتيانه.
أيّها المسلم، أخلِص لله حبَّك لإخوانك المسلمين، فلتَكُن محبّتك لله وفي سبيل الله، فتلك المحبّة الصادقة الباقية، ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وفي حديث السبعة الذين يظلُّهم الله تحت ظلِّ عرشه يومَ لا ظل إلا ظلّه: ((رجلان تحابّا في الله، اجتمعا على ذلك ثمّ افترقا عليه))[8]، فالمحبّة إنما هي في الله ولأجلِ الله. ((زار رجلٌ أخًا له في الله، فأرصَد الله في مدرجته ملكًا يسأله: لماذا زرتَه؟ هل له نعمةٌ تَربُّها؟ قال: لا، إنما زرته لأجلِ الله، قال: إني رسولُ ربي إليك أنّ الله يحبّك))[9].
أيها المسلم، أخلِص لله صدقتَك، ولتكن صدقاتُك لله، لا تبتغي بها رياءً ولا سمعة، اسمع الله يقول: وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا [الإنسان:8، 9].
أخلِص لله إخراجَ الزكاة، أتَى رجل النبيَّ يسأله عن أركان الإسلام، فبيَّن له الصلواتِ الخمس، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا، إلاّ أن تطّوَّع))، وذكر له ال+اةَ والصيام فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا، إلاّ أن تطّوّع))، فلما ولّى قال: والذي بعثك بالحقّ، لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال : ((أفلَح وأبيه إن صدَق))، أو ((دخل الجنّة إن صدق))[10]. فالصّدق والإخلاص نفعَه مع اقتصاره فقط على الواجبات.
أيّها المسلم، النيّة أيضًا في الصيام لها أثرُها، يقول : ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه))[11]، ((إيمانًا واحتسابًا)): إخلاصًا وطلبَ الثواب من الله. وفي ليلة القدر: ((من قامَها إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه))[12].
أيّها المسلم، إذا حلّت بك مصيبةٌ فاحتسِب واصبر صبرًا تريد به وجهَ الله، فإنّ ذلك هو الذي ينفعك، يقول عن ربِّه أنه قال: ((ما جزاءُ عبدي المسلم إذا قبضتُ صفيَّه من الدنيا فصبَرَ إلاّ الجنة))[13]، صبر على قضاءِ الله مخلِصًا لله في ذلك.
أيّها المسلم، إنّ تناولك الملذّات والمباحات ومُتَع النفس يعطيك الله بها ثوابًا مع إخلاصك لله في ذلك، يقول : ((وفي بُضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتُم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر))[14]، فبيَّن أن إتيانَ الرجل امرأتَه وقضاءَه وطرَه إذا أرادَ به عفّةَ نفسه وعفةَ امرأتِه وغضَّ بصره وبصرِ امرأته أنّ الله جل وعلا يثيبه على هذا العمل ولو كان فيه متعةٌ للنفوس، إذا قصد بذلك وجهَ الله جمع الله له بين التنعُّم في الدنيا والثوابِ في الآخرة، والله ذو الفضل العظيم.
أيّها المسلم، اتّباع الجنازة والصلاةُ عليها والمشي معها حتى تدفَن عملٌ صالح وخيرٌ يتقرَّب به العبدُ إلى الله، ولكن قد يكون اتباع الجنازة والصلاةُ عليها والسّعي معها حتى تدفَن يرادُ به مجاملةُ الإخوان وإكرامُ الأصحاب، وليس يراد به وجه الله، فلك من نيّتك ما قصدتَ، وإن أردت بذلك ابتغاءَ وجه الله وما تتقرّب به إلى الله فأبشر بالثوابِ العظيم، يقول : ((من تبِع الجنازةَ إيمانًا واحتسابًا حتى يصلَّى عليها وتدفَن فله [قيراطان]))[15]، فجعل الصلاةَ والاتّباع إذا كان بنيّة واحتساب له قيراطان، وإن صلّى عليها فقط فله قيراط، هذا إن قصد بهذا العملِ وجهَ الله والدار الآخرة، عرف ذلك الميّتَ أو لم يعرفه، وأمّا إن قصد به المجاملةَ والاعتبارات الأخرى فإنّ له من أعمالِه ما قصَد.
أيّها المسلم، برُّ الوالدين عملٌ صالح، ولكن قد يبرّ أبويه مجاملةً وحياءً من الناس، وقد يبرّ بالأبوين طاعةً لله وابتغاءً لثوابه، فالثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرةُ حتى لم يستطيعوا أن يخرجوا توسّلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فكان منهم من قال: ((اللهمّ كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنتُ لا أغبق قبلهما أهلاً ولا ومالاً، فنأى بي طلبُ الشجر، فلم آتيهما حتى ناما، فحلبتُ غبوقهما، وجلست أنتظرهما حتى برقَ الفجر والصِّبية يتضاغَون تحتي، فما قدّمتُ عليهما أحدًا حتى قامَا فشربا. اللهمّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرُج عنا ما نحن فيه، فانفرَجت الصخرة شيئًا)). المهمّ أن تبرَّ الوالدين، لمَّا برَّهما ابتغاءَ وجهِ الله صار ذلك تفريجًا لهمِّه وإزالةً للغمّ، كلّ ذلك بفضل الإخلاص.
أداؤك الحقوقَ لأهلها بالإخلاص يجعله الله سببًا لنجاتك من المكارِه، ففي قصّة الثلاثة: ((ورجل قال: اللهمّ استأجرتُ أجراءَ فأعطيتهم كلَّهم أجرَهم إلا واحد، ترك الذي عليه وذهب، فثمّرتُه له حتى جاءَ فقال: يا عبد الله، أعطني حقّي، فقلت: ما ترى من رقيقٍ وإبل وبقر وغنَم فهو لك، قال: أتستهزئ بي؟ قلت: لا، فأخذَ الكلَّ ولم يعطِني شيئًا. اللهمّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج عنّا، ففرّج الله عنهم جزءًا من ذلك)).
أيّها المسلم، كفُّك عن محارم الله إخلاصًا لله ينجِّيك الله به، ففي حديث الثلاثةِ قال أحدهم: ((كان لي ابنةُ عمّ كنتُ أحبّها أعظمَ ما يحبّ الرجال النساء، وراودتها عن نفسِها فأبت حتى ألمّت بها سنة، فأتتني وأعطيتُها عشرينَ دينارًا على أن تخلّيَ بيني وبين نفسِها، فلمّا تمكّنتُ منها قالت: اتّقِ الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقِّه، فقمتُ عنها وتركتُ الدنانير لها. اللهمّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرَجت الصخرة وخرجوا يمشون))[16]. هذه أعمالٌ صالحة أخلصوها لله، فنفعتهم يومَ الحاجة إليها.
أيّها المسلم، أخلص لله في أقوالك وأفعالك، أخلِص لله مرادَك في القول والعمل، فإنّ الله مطَّلع عليك وعالمٌ بالسرائر والضمائر، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ [غافر:19]، وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ [البقرة:235].
أسأل الله لي ولكم عملاً صالحًا خالصًا، إنّه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصلاة (425)، ومسلم في المساجد (33) عن عتبان بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الإمارة (1905) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] رواه أحمد (3/30)، وابن ماجه في الزهد (2404)، وابن عدي في الكامل (3/174)، والبيهقي في الشعب (5/334) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه، وصححه الحاكم (7936)، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/237)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (30).
[4] أخرجه البخاري في الوضوء (160، 164)، ومسلم في الطهارة (226) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] رواه مسلم في الصلاة (488) عن ثوبان وأبي الدرداء رضي الله عنهما نحوه.
[6] أخرجه البخاري في الصلاة (450)، ومسلم في المساجد (533) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في البيوع (2119)، ومسلم في المساجد (649) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الزكاة (1423)، ومسلم في ال+اة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في البر (2567) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[10] أخرجه البخاري في الصوم (1891)، ومسلم في الإيمان (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في الصوم (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في الرقاق (6424) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[14] أخرجه مسلم في ال+اة (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[15] أخرجه البخاري في الإيمان (47)، ومسلم في الجنائز (945) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[16] قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة الخالصة أخرجها البخاري في الأدب (5974)، ومسلم في الذكر (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوها.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، إنّ الإخلاصَ في القول والعمل فضلٌ من الله يتفضّل به على من يشاء من عبادِه، فهذا الإخلاصُ يقوّي الإيمان، وهذا الإخلاص يجعَل العمل مستمِرًّا، وهذا الإخلاصُ يجعل العبدَ صادقًا، يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ [التوبة:119].
كم يرى الناسُ من مجاملاتٍ في محبّتهم وتعاملهم، ولكنها على غير الله، فلأدنى سببٍ تنخرِم تلك المودّةُ وتنقصِم تلك العرى، يحبُّك ويظهِر لك المحبةَ والمودة، ولكن عند أيّ نزاعٍ يظهر البغضُ والعداوة، وتتحوّل الصداقة والمحبة إلى قطيعةٍ وبَغضاء.
يصِل رحمَه ولكنه يريد الثناءَ والمدح، فلا يصِل إلا من يخاف من لسانِه، وأمّا من لا يخاف منه فلا يبالي به رحمًا قربت أم بعُدت؛ لأنّه لم يصِلهم لله ولأجل الله، ولكن إمّا رجاءَ مدحهِم أو خوفًا منهم فقط، لا أقلّ ولا أكثر، فمن يرجو ثناءَه ويخاف ذمَّه تراه يصِله ويدنيه ويقول: أنتَ رحمي وقريبي أمرني الله بصِلتك، وإن رآه حيِيًّا لا يقول سوءًا ولا يخشى من ذمِّه ولا يرجو مدحَه فإنه لا يبالي به.
يتصدَّق إذا رأى الناسَ يثنون عليه، ويمسِك إن لم يُثنوا عليه، كلّ مواقفه وأعماله لا يريد بها وجهَ الله، إنما يريد بها ثوابَ الدنيا، مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [الإسراء:18]، فمن كان يريد الله والدارَ الآخرة نال الثوابَ العظيم، مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [هود:15].
ترى هذا الموظَّف في إدارتِه إن راجعَه ذو قولٍ قويّ ولسان ذرِب أنجز معامَلته، وإن راجعه الضعيفُ ومن لا جاهَ له عطّل معاملته وأهملَها ولا كأنّ شيئًا [كان]، لا يدفعه للعمَل إخلاصٌ ولا رجاءُ ثوابِ الله، وإنما يدفعه الرياءُ ومحبّة الثناء والقول فيه والثناء عليه وتمجيدُه، وإلا فلولا ذلك لم يقدِّم خيرًا ولم يعمَل خيرًا، معاملةُ الناس تبقى شهرًا أو شهرين، لماذا؟ لأنّ صاحبَها ضعيف لا لسانَ له ينطِق به بيانًا ولا جاهَ ولا سلطانَ ولا مقال، فلذلك لا يبالي به، وإنسان ربّما ينجِز معاملته في الساعةِ والساعتين، لماذا؟ لأنّ الإخلاصَ مفقودٌ من نفس ذلك الموظّف، مفقودٌ الإخلاصُ منه، يعامِل الناسَ على قدر مصالحه الخاصّة، لا على قدر مصالحِ الناس، هذا مستحقّ أن يُرفعَ ويُقدَّر، وهذا لا يستحقّ، فيقدِّم من لا أداءَ له ولا عملَ عنده لأجل أن يرجوَ به مصلحةً دنيويّة حاضِرة، ويؤخِّر من يستحقّ التقديمَ لأنّه لا يرجو منه مصلحةً حاضرة.
فالإخلاص لله في كلِّ الأحوال مطلوبٌ من المسلمين، في تعاملهم فيما بينهم وبين ربهم، وفي أهليهم، وفي أنفسهم، وفي تعاملهم مع الآخرين، يقول لسعد بن أبي وقّاص: ((إنك لن تنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلاّ أجِرت عليها حتى ما تضَع في في امرأتك))[1]، فإنفاقُك على زوجتِك وإنفاقك على أولادِك إذا ابتغيتَ به وجهَ الله مع أنه أداءٌ للواجب فإنّ الله يثيبك على هذا العمل.
إنجا+ لأعمالِ المراجعين وأداءُ حقوقهم وعدَم المماطلة إذا قصدتَ بها وجهَ الله أثابك الله عليها.
فكن ـ يا أخي ـ مخلِصًا لله في تعاملك، ومخلصًا في أداءِ واجباتك، فإنّ الإخلاص عزيزٌ على النفوس إلاّ من عصمه الله ووفّقه الله وأعانه، فالمخلِص يضع الله له المحبّة والقبول؛ لأنه أخلصَ لله، فيضع له المحبةَ في قلوب الناس، والمرائي وإن انتفَع بالرياء يومًا فلا بدّ أن ينكشِفَ أمره ويعلَمَ الناس حاله. أعاذني الله وإياكم من حالة السوء.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الرّاشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمِك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه نحوه.
| |
|