molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: ففروا إلى الله - عبد العزيز بن الطاهر بن غيث / طرابلس الإثنين 12 ديسمبر - 4:23:36 | |
|
ففروا إلى الله
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث /طرابلس
الخطبة الأولى
وبعد:
فالإنسان بطبيعة خلقه ولاشك ضعيف وقد شهد عليه خالقه بهذا، ومن أعلم بالصنعة ممن صنعها يقول سبحانه: وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً [النساء:28]، والإنسان لا يملك لنفسه في أمر الدنيا والآخرة شيئاً، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولقد اعترف بهذا رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، يقول سبحانه لنبيه : قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء [الأعراف:188]، فإذا كان رسل الله على هذه الحال من الافتقار إلى الله إذا كانوا متبرئين من حولهم وقوتهم أمام الله فكيف سيكون حال غيرهم من الناس.
وهذا الإنسان الضعيف ـ عباد الله ـ لابد أن يلجأ فيما يعرض له من أمور إلى جهة يراها قوية وقادرة على أن تحميه أو توفر له الأمن والاطمئنان، فإلى من يتجه، وعلى كاهل من يضع همومه ومخاوفه وآماله؟
هنا يأتينا قول الله سبحانه: فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50]، هذه دعوة من الله للفرار إليه والرجوع والإنابة إلى رحابه، والناس في فرارهم أنواع وأصناف، فمنهم من يفر إلى الناس، ومنهم من يفر إلى نفسه، ومنهم من يفر إلى الشيطان وإلى الذنوب والمعاصي ظاناً أنها تخلصه مما يعاني من ضنك أو ضيق مادي أو معنوي.
أما السعيد والموفق فهو من يفر إلى الله وينيب إلى الله في كل ما يعترضه من أمور، يفر إلى الله إذا خاف من أي شيء لأنه القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، المتعالي فوق كل شيء، سبحانه فلا شيء يخيفك ولا أمر يقلقك يا عبد الله إلا والله سبحانه أقوى منه، بل إن الإنسان حتى إذا خاف من الله يفر إليه، وهذا الأمر لا يكون إلا مع الله سبحانه، فكل شيء إذا خفت منه فررت منه، أما الله سبحانه فإذا خفت منه فررت إليه فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه سبحانه، لهذا كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نومه وهو ما أمر به أحد أصحابه أن يقوله ويجعله آخر ما يقول قبل نومه: ((اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت)) وقال بعد ذلك: ((فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة)) متفق عليه من حديث البراء، فالإنسان إذاً حتى إذا خاف من الله فإنه يلجأ إليه، فالخوف من الله والرجاء في الله، فإذا خفت من عذابه فررت إلى رحمته، وإذا خفت من سخطه فررت إلى رضاه إلى آخر هذه الصفات الإلهية الكريمة صفات الكمال والجلال.
هذه معان تغيب على الإنسان في غمرة الحياة فيجد نفسه في كثير من الأحيان فاراً من الله لأدنى معضلة أو همّ، ولكنها لا تغيب عن الصالحين الخلّص من عباد الله وعلى رأسهم أنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم، فقد كان رسول الله يستعيذ في دعواته من كل صفة عذاب من صفات الله بصفة رحمة من صفاته ثم يستعيذ به منه خوفاً وفرقاً، يقول في الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
هكذا كان رسول الله يعيش مع الله وبالله وينقاد إلى الله ويستسلم لله ويفر إلى الله، وهكذا كان الأنبياء من قبله عليهم السلام يلتجئون إلى الله سبحانه طالبين العون والمدد والحماية منه يقول القرآن الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فعلى أحد الأقوال كما في القرطبي أن هذا الذهاب ليس الهجرة بالبدن من مكان إلى آخر بل هو الفرار إلى الله، يقول القرطبي: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى سَيَهْدِينِ ذاهب بعملي وعبادتي وقلبي ونيتي، فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن، هذا هو فرار الأنبياء إلى الله سبحانه كما أن الصالحين من أصحاب رسول الله ومن تابعيهم بإحسان كانوا يفقهون هذا الأمر ويفرون إلى الله خوفاً وطمعاً، يقول ابن عباس عن قوله تعالى فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ كما عند القرطبي: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم ويقول: فروا منه إليه، وقال الحسن بن فضل: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله.
هذه أمور لابد أن نفقهها ـ عباد الله ـ ونضعها نصب أعيننا ولا نغفل عن الله لأننا نحن الفقراء إلى الله وهو الغني الحميد سبحانه، والكثير من الناس لا يفكرون في الفرار الحقيقي إلى الله في هذه الحياة ويؤخرون وقت الفرار إلى الله حتى إذا قضي الأمر وفات الأوان أدركوا أنه لا ملجأ إلا الله ولا ملاذ إلا الله، يقول سبحانه فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ يَقُولُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ [القيامة:7-10]، ها قد بدأ الإنسان الآن يسأل عن المفر بينما كان في غفلة عنه في غمرة الحياة فهل ينفعه سؤاله عن المفر في هذه الظروف إن لم يكن فاراً إلى الله في دنياه يقول ابن كثير في تفسير هذه الآيات: يَقُولُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول: أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ أي هل من ملجأ أو موئل قال الله تعالى كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَىٰ رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ [القيامة:11، 12]، قال ابن مسعود وابن عباس: أي لا نجاة. وهذه الآية كقوله تعالى: مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ [الشورى:47].
هذا عباد الله فرار من الإنسان، يفر فيه من كل شيء، ولكنه فرار متأخر عن وقته، ثم هناك فرار آخر يفره الإنسان حتى من أقرب الناس إليه لهول ما يرى من أمور عظيمة، هذا الفرار يكون يوم الحساب، يوم يجمع الله الخلائق في صعيد واحد لفصل الحساب ذلك اليوم العظيم، ذلك الموقف الرهيب، إذا عاينه الإنسان ووقف عليه وعاشه بكل حواسه، عند ذلك لا يصبح حتى لصلة القرابة والدم عنده مكان، ما يهمه في ذلك الموقف نفسه وحسب، يفر الإنسان في ذلك الموقف من كل من يمتون له بصلة في هذه الحياة يفر حتى من أبنائه وفلذات كبده، ولكن هل ينفع هذا الفرار إن لم يكن الإنسان من الفارين إلى الله في هذه الحياة الدنيا يقول سبحانه في كتابه العزيز: يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ قال عبد الله بن طاهر كما عند القرطبي: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئاً سوى ربه تعالى، فلماذا عباد الله نؤخر الفرار إلى العزيز الجبار؟ لماذا نؤخر الفرار إلى الواحد القهار؟ هل نحن مغترون بصحتنا وقوتنا التي هي إلى ضعف وزوال؟ أم نحن مغترون بأموالنا التي لن يلحقنا منها شيء إذا متنا؟ أم نحن عالمون بموعد موتنا وانتقالنا عن هذه الحياة؟ لهذا نحن نؤخر الفرار إلى الله إلى قرب هذا الموعد، هذه أسئلة لابد أن يسألها المسلم لنفسه، ولابد أن يجد لها الإجابات المقنعة إن كان حقاً يريد مرضاة الله سبحانه وإن كان حقاً يريد النجاة من عذاب الله وعقابه.
ولعل من أجلى مظاهر الفرار إلى الله أن يتبرأ الإنسان من حوله وقوته ويعتمد على حول وقوة الله سبحانه، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة: ((أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها من كنوز الجنة)).
ومن مظاهر الفرار إلى الله سبحانه أن يكتفي المؤمن بالله فيما يعرض له من مخاوف وأخطار، وهذا ما علمنا إياه رسول الله أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((كيف أنعمُ، وصاحب القرن قد التقم القرن)) ـ والقرن معناه الصور، وصاحب القرن هو إسرافيل ـ ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا الجبهة وأصغى السمع ينتظر متى يؤمر بالنفخ قالوا: كيف نصنع قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)).
كما أنه من أجلى مظاهر الفرار إلى الله التوبة النصوحة إلى الله سبحانه: يقول تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
إخوة الإيمان، إن المسلم في هذه الحياة إما أن يكون حازماً في أموره عالماً بخطورة وضعه في هذه الحياة مدركاً لمحدودية الزمان الذي سيبقى فيه في هذه الحياة وعارفاً بأن ساعة الصفر ولحظة النهاية تأتي فجأة بلا موعد ولا استئذان، فهو بالتالي يتجهز لها في كل وقت وحين بالفرار إلى الله واللجوء إليه، وإما أن يكون لاهياً لاغياً منغمساً في ملذاته منهمكاً في مشاريعه حتى يكون في لحظة من اللحظات جنازة تحمل على الأكتاف إلى المقابر حيث لا عمل ولا استدراك ولا عبادة، فأيهما تحب أن تكون يا عبد الله؟ ولا ينفع في هذا الإجابة القولية، بل الذي ينفع هو الإجابة العملية، الذي ينفع الفرار إلى الله باكراً قبل أن يدركك أجلك وأنت لا زلت تقلب الأمور وتسوف للتوبة يقول فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: ((من خاف أدلج ـ أي من خاف لأن يدركه هجوم العدو خرج مستتراً بالليل حتى يبتعد عن منطقة الخطر ـ من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)).
| |
|