molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الجنة دار الأفراح - عبد الرحمن بن علي العسكر السبت 3 ديسمبر - 10:17:25 | |
|
الجنة دار الأفراح
عبد الرحمن بن علي العسكر
الخطبة الأولى
أمَّا بعْدُ: فَإِنَّ الوَصِيَّةَ الحَقَّةَ ـ عِبادَ الله ـ هِيَ الوَصِيَّةُ بِتَقَوَى اللهِ، الَّتِي مَنْ أَخَذَ بِهَا غَنِمَ فِي الدُّنْيَا وَرَبِحَ فِي الآخِرَةِ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ حَقَّ التَّقْوَى.
عِبادَ اللهِ، الإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا يَعِيشُ بَينَ مُتَنَاقِضَاتٍ قَدْ لاَ تُوجَدُ مُجتَمِعَةً أَبدًا، بَل إِذَا جَاءَ أَحُدُهمَا زَالَ الآخَرُ، فِي أَمرٍ عَجِيبٍ يَدلُّ عَلَى إِحْكَامِ صُنعِ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيءٍ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21].
أيُّهَا النَّاسُ، شَيئانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي أَمرٍ وَاحدٍ قَطُّ: الحُزْنُ والفَرَحُ، الحزنُ وَالفَرَحُ اللذَانِ جَبَلَ اللهُ عَلَيهمَا بَنِي آدَمَ، الفَرحُ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنهُ فِي جَوارِح الإنسانِ بالابتسامة، بَلْ رُبَّمَا بَلَغَتِ الفَرْحَةُ بِبَعْضِهم إلى الضَّحِكِ، وَتَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَمَا فِي البُخاريِّ ومُسْلمٍ: مَا رَأيتُ رَسُولَ اللهِ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهواتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. بَل رُبَّمَا غَلَبَ الفَرَحُ بِبَعْضِهم حتَّى أبكاهُ فَيَبْكِي مِنْ شِدَةِ الفَرَحِ.
الفَرَحُ ـ أيُّهَا النَّاسُ ـ لَذَةٌ تَقَعُ فِي القَلْبِ بإِدرَاكِ المَحْبُوبِ وَنَيْلِ المُشْتَهَى، فَيَتَولَّدُ مِنْ إدْرَاكِهِ حَالةٌ تُسَمَّى الفَرَحُ والسُّرُورُ، كما أن الحزْنَ والغَمَّ مِنْ فَقْدِ المحبُوبِ، فَإِذَا فَقَدَهُ تَولَّد من فَقْده حَالةٌ تُسَمَّى الحُزن والغَمُّ.
الفَرَحُ ـ أَيُّهَا الإخْوَةُ ـ صِفةُ كَمَالٍ فِي البَشَرِ، وَهوَ قَبْلَ ذَلِكَ صِفةٌ لله سُبحانَهُ وَتَعَالى، وَهيَ فِي غاية الكَمَالِ وَأعَلاهُ عَلى مَا يَليقُ به سُبحانه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11].
الفَرَحُ مِنْ طَبيعَةِ البَشَرِ، وحَقٌّ للنَّاسِ أَنْ يَفْرحُوا إِذَا تحَصَّلُوا عَلَى مَا يُسْعِدُهُم وَيُفْرِحُهُمْ. أَلا وَإِنَّ مِمَّا يَحْسُنُ ذِكره أنَّ النَّاسَ يَكثر فِيمَا بَيْنَهُمْ هَذِهِ الأَيَامَ مُنَاسَبَات الأَفْرَاحِ، بَلْ رُبَّمَا شُغِل المرْءُ أَيامًا مَتوالِيةً لحُضُورِ مِثلِ هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ.
ألاَ فَلتَعْلَمُوا ـ أَيُّها النَّاسُ ـ أنَّ أَفْرَاحَ النَّاسِ في هَذِهِ الدُّنْيَا زَوَالُهَا سَرِيعٌ، فَكَم مِنْ فَرَحٍ يَتْبَعُهُ تَرَحٌ، وإلا انقَطَعَ الفَرَح بالموت الَّذي لَم يَتْرُكْ لِذِي فَرَحٍ فَرَحًا.
عَبادَ الله، إنَّ الفَرَحَ الحَقِيقيَّ هُوَ الفَرَحُ الدَّائِمُ، الفَرَحُ الَّذِي لاَ يَزُولَ، الفَرَحُ الَّذي يَسْعَد بِهِ أَهْلهُ وَهُمْ فِي زِيَادَةٍ مِنهُ إِلى أَنْ يَشَاءَ اللهُ. وَمَا أَحْوَجَنَا ـ عِبادَ الله ـ أنْ نَتَذَكَّرَ بِأفْرَاحِنَا هَذِهِ فِي الدُّنْيَا بِلاَد الأَفْرَاحِ الَّتِي تَنْتَظرُ الَمؤمِنَ يَومَ القِيَامَةِ. أَتَدْرُونَ مَا بِلاَدُ الأفَرَاحِ الَّتِي لاَ حُزْنَ فِيهَا وَلاَ كَدَرَ؟! إِنَّهَا جَنَّةُ المَأْوَى. يَقُولُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضي اللهُ عَنْهُمَا: (لَيسَ فِي الجَنَّةِ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إلاَّ الأَسَماءَ). نَعَم، هُمْ فِي فَرَحٍ وَلَكِنْ لَيسَ كَفَرَحِنَا، هُمْ فِي سَعَادةٍ لَيسَت كَسَعَادَتِنَا.
أَيُّهَا النَّاسُ، ((إِنَّ الجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا)) أي: لاَ مَثِيلَ لَهَا وَلاَ عِوَض، هِيَ ـ وَرَبِّ الكَعْبَةِ ـ نورٌ يَتَلألأُ وَرَيحَانةٌ تَهْتَزُّ وَقَصرٌ مَشِيدٌ وَنَهرٌ مُطَّرِدٌ وثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ وزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ وَمَقَامٌ في أَبَدٍ في دَارٍ سَلِيمَةٍ وَفَاكِهَةٌ وَخُضْرةٌ وَنِعْمَةٌ فِي مَحِلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهيَّةٍ، هكَذَا وَصَفَهَا رسولُ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ لأصْحَابِهِ: ((أَلاَ هَل مِنْ مُشَمِّرٍ إلى الجَنَّةِ؟!))، فَقَالُوا: نَحن المُشَمِّرُونَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((قُولُوا: إن شاء اللهَ))، فَقَال القومِ: إِن شَاءَ اللهَ. رَوَاهُ ابنْ مَاجَه وَالبَيْهَقِيُّ وَابنُ حِبَّانَ.
الجَنَّةُ ـ عِبادَ اللهِ ـ لَهَا أبوَابٌ كَمَا أنَ لِبيوتِكُم أبوابًا، وَلَكنَّ الجَنَّةَ تَخَتلِفُ، فِي صَحِيح مُسْلِمٍ أنَّ رَسولُ اللهِ قَالَ: ((ما مِنْكمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فيُسْبِغُ الوُضُوءَ ثمَّ يقولُ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ إلا فُتِحَتْ لهُ أبوابُ الجنَّةِ الثَّمانيةُ يدْخُلُ منْ أيِّها شاءَ)). أبَوابٌ لَيستْ كَأبَوابِ أَهُلِ الدُّنْيَا, فِي الصَّحِيحينِِ أَنَّ الرَّسُولَ قال: ((والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، إنَّ مَا بَينَ المِصْرَاعَينِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالأَحسَاء))، وَفي رِوَايةٍ: ((وَلَيَأتينَّ عَلَيه يومٌ وَهُو كَظِيطٌ مِنَ الزِّحَامِ)).
لئنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَافَسُونَ فِي جَمَالِ رَوَائحِهم فَإِنَّ الجَنَّةَ يَجِدُ النَّاسُ رِيحَهَا مِنْ مَسِيرَةِ مائةِ عَامٍ، كَمَا صحَّ بِذَلِكَ الحَديثُ. لئنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَافَسُونَ فِي البُنْيَانِ وَجَمَالِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَرَونَقِهِ فَإِنَّ لأَهلِ الجَنَّةِ مَنَازِلَ وَدَرَجَاتٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ فِي الحَديثِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَاريُّ: ((إنَّ في الجنَّةِ مائةَ درَجَةٍ أعدَّها اللهُ للْمُجاهِدِينَ في سبيلِهِ، بَينَ كُلِّ دَرَجتَينِ كَمَا بَينَ السَّمَاءِ والأرضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فاسْأَلُوهُ الفِردَوسَ الأَعْلَى؛ فَإِنَّهُ وَسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوقَهُ عَرشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَتَفَجَّرُ أَنْهارُ الجَنَّةِ))، وَفي الصَّحِيحَينِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِنَّ أَهلَ الجَنةَ ليَتراءَوْنَ الغُرَفَ مِنْ فَوقِهم كَمَا تَتَرَاءونَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ أَو المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَينَهُمْ))، قَالَوا: يَا رَسُولَ اللهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيرُهُمْ، قَالَ: ((بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقَوا المُرَسَلِينَ)).
أَمَّا أَدْنَى أَهلِ الجَنَّةِ فِيهَا فَرَوى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيُّ قال: ((سألَ موسَى ربَّهُ: مَا أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنزِلَةً؟ قالَ: رجلٌ يجيءُ بعدَما دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، فيقال له: ادْخُلِ الجَنَّةَ، فيقولُ: رَبِّ، كيفَ وقدْ نزَلَ النَّاسُ مَنازِلِهمْ وأخَذُوا أخذَاتِهمْ؟! فيقالَ له: أَلا تَرْضَى أنْ يكونَ لكَ مِثْلُ مُلكِ مَلِكٍ مِنْ مُلوكِ الدُّنيا؟ فيقولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فيقولُ اللهُ: هذا لك ومِثْلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ، فيقولُ في الخامِسَةِ: ربِّ رضيتُ، فيقولُ اللهُ: هذا لكَ وَعَشْرَةُ أمثَالِه ولكَ ما اشْتَهَتْ نفسُكَ ولَذَّتْ عَينُكَ، فيقُولُ: رَبِّ رَضِيتُ، قال مُوسَى: رَبِّ، فما أَعْلاهُم مَنزِلةً؟ قال: أولئكَ الذينَ أرَدْتُ غَرْسَ كَرامَتِهمْ بيدِي وخَتَمْتُ عليها، فَلَمْ ترَ عَينٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، ولم يخْطُرْ على قَلْبِ بَشَرٍ)).
وَرَوَى مُسْلمٌ أَيضًا وَالبُخَارِيُّ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: ((إني لأعْلمُ آخِرَ أهْلِ النَّار خُرُوجًا منها ـ أوْ: آخرَ أهل الجنةِ دُخُولاً فِيهَا ـ: رجلٌ يخرُجُ منَ النَّارِ حَبْوًا، فيقولُ اللهُ لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجنَّةَ، فيأْتِيهَا فيُخَيَّلُ إليهِ أنَّهَا مَلأَى، فيرْجعُ فيقولُ: يا رَبِّ، وجَدْتُهَا مَلأَى، فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ له: اذْهبْ فادْخُلِ الجنَّةَ، فيَأْتيها فيُخَيَّلُ إليه أنها مَلأَى، فيقولُ: وجدْتُها مَلأَى، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اذْهَبْ فادْخُلِ الجنَّةَ، فإنَّ لكَ مِثْلَ الدُّنيا وعَشَرَةَ أمْثالِها، فَيقُولُ: أتَسْخرُ بِي وْأنْتَ المَلِكُ؟!)) قَالَ الرَّاوِي: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ ضَحِكَ حتَّى بدَتْ نوَاجِذُهُ، فكانَ يقولُ: ((ذلكَ أَدْنَى أهلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً)).
عِبادَ اللهِ، لئنْ كَانَ الإنْسَانُ فِي الدُّنْيَا لاَ يَقْوَى أَنْ يَأكُلَ فَوقَ طَاقَتِهِ أَو يَتَنَعَّمَ فَوقَ جَهدِه فَإنَّ أَهلَ الجَنَّةِ أعْلَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُم يَسْتَوعِبُونَ مَا أُعِدَّ لَهمْ مِنَ النَّعِيمِ، لِكمَالِ حَيَاتِهمْ وَضَخَامَةِ أَجْسَامِهمْ وَتَوافُرِ قِوَاهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يُمْنُونَ، رَوَى الإمَامُ أَحمدُ والنَّسَائيُّ والحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهَودِ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يَا أبَا القَاسِمِ، ألسْتَ تَزُعُمُ أَنَّ أَهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فِيهَا ويَشْرَبُونَ؟! وَيَقُولُ اليَهُودِيُّ لأصْحَابِهِ: إِنْ أَقَرَّ لي بِهَذَا خَصَمْتُهَ، فَقَالَ : ((بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائةِ رَجُلٍ فِي المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالجِمَاع))، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَأكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الحَاجَةُ، فَقَالَ : ((حَاجَتُهُمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهمْ مِثْلُ المِسْكِ، فَإِذَا البَطْنُ قَد ضَمُرَ)).
وَرَوَى مُسْلِمٌ مَرفُوعًا: ((يأْكلُ أهلُ الجنةِ فِيها ويَشْربونَ، ولا يتَغوَّطُونَ ولا يَمتَخِطونَ ولا يَبُولونَ، ولكنْ طعَامُهمْ ذاكَ جشاءٌ كرَشْحِ المسكْ، يُلهمُونَ التَّسْبيحَ والتَّكبيرَ كما يُلْهَمُونَ النَّفَسَ))، وفِي روايةٍ في الصَّحِيحَينِ: ((لا يَبُولُونَ ولا يتَغَوَّطُونَ ولا يَتْفُلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهمْ الذَّهبُّ، وَرَشحُهمُ المِسكُ، وَمَجَامِرُهم الألوَّة ـ وَهُو عُودُ الطِّيبِ ـ، أَزوَاجُهم الحُورُ العِينُ، آنيتُهم الذَّهبُ، لِكلِّ واحدٍ منهم زَوْجتانِ، يُرَى مُخُّ ساقَيها من رواءِ اللحمِ منَ الحُسْنِ، لا اخْتلافَ بينَهم ولا تبَاغُضَ، قلوُبهم قَلبُ رجلٍ واحدٍ)).
النَّاسُ فِي أفَرَاحِهمْ فِي الدُّنْيَا يَلتَقُونَ بِأحبَابِهم وأَصْحَابِهم، وإنَّ أهلَ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ يَلْتَقُونَ بِأَحْبَابِهم وَإِخْوَانِهم، يَقُولُ الرَّسُولُ : ((إنَّ في الجنَّةِ لَسُوقًا يأْتُونَها كُلَّ جمُعةٍ، فِيهَا كُثْبَانْ المِسْكِ تَهُبُّ رِِيحُ الشَّمَالِ فتَحْثُو في وُجوهِهم وثِيابهم فيزْدادُونَ حُسنًا وَجَمَالاً، فيَرْجِعُونَ إلى أهْلِهم وقَدِ ازْدَادُوا حُسنًا وجمالاً، فيقولُ لهم أَهْلُوهُم: واللهِ، لقدِ ازْدَدْتُم بعدَنَا حُسنًا وجمالاً! فيقولُونَ: وأنْتُم ـ واللهِ ـ لَقَدِ ازْدَدْتُم بعْدَناَ حُسْنًا وَجَمَالاً)) رَوَاهُ مُسْلمٌ.
لأَهْلِ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ طَرَبٌ وَغِنَاءٌ وَلَذَةٌ، رَوَى ابنَ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِي قَالَ: ((إنَّ أَزْوَاجَ أَهْلِ الجَنَّةِ لَيُغَنِينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ مَا سَمِعَهَا أحدٌ قَطُّ، وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِينَ به: نَحْنُ الخيرات الحِسَانُ، أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ، يَنْظُرُونَ بِقُرَّةِ أَعْيَانٍ. وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِينَ به: نَحْنُ الخَالِداتُ فَلا يَمُتنه، نَحْنُ الآمِنَاتُ فَلا يخَفْنَه، نَحْنُ المُقِيمَاتُ فَلات يَظعَنَّهُ)) رواه الطَبْرَانيُ في الصغير والأوسط بسند رجالهُ رجالُ الصَّحيحِ.
لئنْ كَانَ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا يَفِرُّونَ مِنْ حَرِّ الشَّمسِ وَلهيبِهَا فَإِنَّ الجَنَّةَ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 13]. لئنْ كَانَ النَّاسُ يَتَسَابقُونَ إِلى الفَيءِ واَلظِّلِّ فِي الدُّنْيَا، ((فَإِنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا)) متفقٌ عليهِ.
عِبادَ اللهِ، هَذَا نَعيمُ الجَنَّةِ وَهَذَا وَصْفُهُ، وَلَكِنَّ الفَرْحَةَ الَّتِي فَوقَ هَذَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ يَقُولُ : ((إِذَا صَارَ أَهلُ الجَنَّةِ إِلى الجَنَّةِ وأهلُ النَّارِ إلى النَّارِ أُتيَ بالموتِ حتَّى يُجْعلَ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ ثمَّ يُذبحُ، ثُمَّ يُنادِي منادٍ: يا أهلَ الجنَّةِ خُلُودٌ لاَ مَوتٌ، وَيَا أَهلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوتٌ، فَيَزدَادَ أَهلُ الجَنَّةِ فَرحًا إِلَى فَرَحِهمْ، وَيَزدَادُ أَهلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهمْ)).
اللَّهمْ إنَّا نَسأَلُكَ الفِردَوسَ الأَعْلَى وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ الَّذِي لاَ نَبأَسُ بَعْدَهُ أبدًا.
أقُولُ قَولي هَذَا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِِ وَاسِعِ الفضلِ كَرِيمِ العَطَايَا، يَقْبَلُ القَلِيلَ وَيُجَازِي بالكَثِيرِ، يَغفرُ الذَّنْبَ وَيُقيلُ العَثرةَ، رَحمةً مِنه وَتَفَضُّلاً، وأشهدُ أنْ لاَ إله إلا اللهُ وَحدَهُ لاَ شَرِيكَ له، وَأشهد أنَّ مُحمدًا عَبدُه وَرَسُولُه، بَشَّرَ وَأَنْذَرَ وَتَوَعَّدَ وَحَذَّرَ، صلى اللهُ عليه وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِه، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثيرًا.
أمَّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أيُّها النَّاسُ، فَإِنَّ نِهَايَةَ التَّقْوَى دُخُولُ الجَنَّةِ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ أَهلَ الجَنَّةِ إِذَا نَالُوا مَا نَالُوا يُنَادِيهمُ اللهُ بِصَوتٍ يَعْرِفُونَهُ، فَيقُولُ: ((يَا أهْلَ الجَنَّةِ، إِنَّ لَكم مَوعِدًا أُريدُ أَنْ أُنْجِ+ُموُهُ فَيقُولُونَ: يَا رَبِّ، ألم تُدْخِلنَا الجَنَّةَ وَتُجِرنَا مِنَ النَّارِ؟! قَالَ: فَيَطَّلعُ اللهُ إِليهم، فَمَا رَأوا شَيئًا هُوَ أَحبُّ إِلَيهم مِنَ النَّظَرِ إِلى وَجهِهِ الكَرِيمِ وَسَمَاعِ صوتِهِ)) رَوَاهُ مُسلِم بِمَعنَاهُ.
أيُّها النَّاسُ، هَذِهِ الجَنَّةُ الَّتِي يَقُولُ عَنَها: ((لَغَدوةٌ فِي سَبيلِ اللهِ أَو رَوحَةٌ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَاب قَوسِ أَحدِكمْ أَوْ مَوضِعُ قَيدِه ـ يَعْنِي سَوطهِ ـ مِنَ الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَو اطَّلَعَتَ امرَأةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهلِ الجَنَّةِ إلى الأرْضِ لَمَلأتْ مَا بَينَهُمَا رِيحًا وَلأَضَاءتْ مَا بَينَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأسِهَا خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) رَواهُ البُخَاريُّ.
ومَعَ هذا كلِّهِ فإنَّ كثيرًا منَ النَّاسِ يأبَونَ منْ دخُولِ الجنَّةِ ولا يرغَبُونَ فيها، وهم في ذلكَ في تمامِ عقُولِهم وكمالِ أجسَامِهم، قالَ رسولُ اللهِ يومًا لأصْحابِهِ: ((كُلُّكُم يَدخُلُ الجنَّةَ إلا منْ أَبَى)) قالُوا: ومَنْ يَأْبَى يَا رسُولَ اللهِ؟! قال: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصانِي فَقَدْ أَبَى)) رَواهُ البُخَارِيُّ.
نَعم أيُّها النَّاسُ، مَا مِنَّا أَحدٌ إِلاَّ وَهُوَ يُريدُ الجَنَّةَ، وَلَكِنَّ الأعَمالَ تُصَدِّقُ هَذهِ الإرَادَةَ أَو تُكَذِّبُها، كَيفَ نُريدُ الجَنَّةَ وَلَم نَعْمَلْ مَا يُوصلُنَا إِلَيها؟!
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلِمَ تَسَلكْ مَسَالِكَهَا إنَّ السَّفِينةَ لاَ تَجري عَلَى اليَبَسِ
كَأنِّي بِكمْ ـ أيُّها النَّاسُ ـ وَأَنفُسكمْ تَقُولُ: إنَّ رَحَمَةَ اللهِ وَاسِعةٌ، وَلَكِنَّ اللهَ يَقُولُ: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر: 49، 50]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28]، وَيَقُولُ : ((أيُّها الناسُ، أطعِمُوا الطَّعامَ، وَصِلُوا الأرْحامَ، وصَلُّوا بِاللَّيلِ والناسُ نيامٌ؛ تدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
اللَّهم رَحْمَتَكَ نَرجُو فَلاَ تَكِلنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرفَةَ عَينٍ، اللَّهمَّ إِنَّ رَحْمَتَكَ أَرْجَى عِنْدَنَا مِنْ أَعْمَالِنَا، وَعَفْوكَ أَوسَعُ مِنْ ذُنُوبِنَا، فَلاَ تَجْعَلنَا أشْقِياءَ وَلاَ مَطْرُودِينَ.
اللَّهم صَلِّ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمَّدٍ ، وَارضَ عَنْ أَصْحَابِه أَجْمَعِينَ...
| |
|