molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: قصة قوم سبأ - عبد الرحمن بن الصادق القايدي الخميس 1 ديسمبر - 8:23:03 | |
|
قصة قوم سبأ
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، تحدثنا في الجمعة الماضية عن أثر التقوى، وأن الذي يتقي الله يجعل له فرقانا، فيحسن التصرف. وأما حديثنا اليوم فعما قصه الله لنا في كتابه الكريم عن قوم سبأ، فالقصة توضح اتجاهين: الأول لأهل الإيمان والشاكرين لنعم الله تعالى وأفضاله، ويبين حسن تصرفهم في نعمائه، والثاني يمثل صورة الجاحدين لنعم الله المنكرين لأفضاله، ويبين سوء تصرفهم في نعمائه، فكانت النتيجة الهلاك والدمار لجاحدين والمنكرين، وفضل الله والعاقبة الحسنة للمحسنين الشاكرين، ولا يظلم ربك أحدا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ.
إن سبأ -يا عباد الله- قبيلة معروفة في اليمن، ومسكنهم بلدة مأرب، ومن نعم الله علينا أن قص علينا أخبار المهلكين من الأقوام التي تجاورنا، وأبقى آثارهم شاهدة على جحودهم وكفرهم؛ لعلنا نعتبر وندرك أهمية قصص القرآن.
كانت سبأ في أرض خصبة، ولا تزال بقية منها حتى يومنا هذا، وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى نجحوا في التحكم في مياه الأمطار الغزيرة التي تنحدر إليهم من الجبال والوديان العظيمة، فأقاموا خزانا طبيعيا يتألف جانباه من جبلين عظيمين، وجعلوا بينهما على فم الوادي سدا كبيرا، به عيون تفتح وتغلق، وخزنوا المياه بكميات عظيمة وراء السد، وتحكموا فيها حسب احتياجاتهم، فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم أطلق عليه: سد مأرب، ولا تزال آثار هذا السد حتى الآن.
عباد الله، بعد هذا السد أنعم الله عليهم بالرخاء ووفرة الرزق والمتاع الجميل، أنعم عليهم بجنتين عن يمين وشمال، فكانت آية تذكرهم بالمنعم سبحانه، وقد أمروا أن يستمتعوا برزق ربهم شاكرين له، وذكرهم بنعمة البلد الطيب، ومن زيادة نعمة الله عليهم المغفرة على التقصير والتجاوز عن السيئات. فلا إله إلا الله! ما أكرم ربي! سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء، وسماحة بالعفو والغفران، فما الذي يمنعهم من الحمد والشكر لذي الجلال والإكرام؟! إنه قلة التقوى، فلم يوفقوا، ولم يجعل لهم الله فرقانا، بل أعرضوا عن شكر الله، ولم يعملوا بما أمرهم الله، وأساؤوا فيما أنعم الله عليهم، وما أحسنوا، فكانت العقوبة من الله بأن سلبهم النعم والخضرة والأشجار المثمرة.
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: "أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا"، وقيل: أكثر من ذلك، والله أعلم. المقصود أنهم طغوا وسجدوا للشمس من دون الله، وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها، والتي ذكرنا قصتها مع سليمان عليه السلام. وقد ذكر غير واحد من علماء السلف أن المرأة كانت تمر بالمكتل أي: الزنبيل على رأسها فيمتلئ من الثمار مما يتساقط فيه من نضجه وكثرته، وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من الدواب والحشرات المؤذية ولا البراغيث لصحة هوائهم وطيبته، لكنهم لم يشكروا، وكفروا بالنعم، فأرسل الله عليهم سيل العرم، فانفجر السد، واندفعت المياه المحتجزة، فأغرقت ودمرت ذلك النعيم، وقضت على الجنتين، وانقطعت تلك الثمار، وتبدلت الزروع والأشجار إلى نباتات ذات شوك وقليل من السدر، وضيق عليهم الرزق من الرفاهية والنعماء إلى الشدة وخشونة العيش، إلا أن الرحمن الرحيم لم يقض عليهم كليا، ولم يمزقهم ويفرقهم، بل كان عمرانهم متصلا بينهم وبين القرى المباركة: مكة والشام، فيخرج المسافر من قرية ويدخل القرية الأخرى ولما يظلم الليل عليهم وهم آمنون، لا يحتاجون لأخذ زاد أو متاع، كل ذلك متوفر في الطريق بين القرى الآمنة.
ولكن غلبت على قوم سبأ الشقاوة، فلن يتعظوا بالنذير الأول، ولم يرجعوا إلى ربهم ويستغفروه، بل دعوا دعوة الحمق والجهل: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
عباد الله، لقد استجاب الله دعوتهم، ففرقهم في المدن والأمصار، وبدد شملهم بعد أن كانوا مجتمعين، وصاروا أحاديث يرويها الرواة وقصة يعاد ذكرها على الألسن والأفواه، فأزالهم الله بعد أن كانوا أمة لها شأنها بين الأمم.
وبعد ذلك كله تختم القصة بتوجيه رباني عظيم لمن يقرأ هذا القرآن ويعتبر بما فيه من الأحكام والأخبار ويفهم معنى قوله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أن ما ذكر في هذه القصة آية وموعظة لكل صبار شكور، فيحذر تعالى المعتبر من الجزع وقلة الصبر وعدم شكر النعم، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.
أحبتي في الله، تأملوا أثر المعاصي والذنوب، كيف حولت أمة ممكنة في أرضها ترفل في خيراتها إلى أمة ممزقة تفرقت وأصبحت حكايات تروى.
جنبني الله وإياكم أسباب سخطه وعقابه، أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
فاعلموا -عباد الله- أن الجحود والنكران لنعم الله وعدم شكرها يعرضها للزوال وتغير الأحوال، يقول ابن القيم في كتابه الداء والدواء: "ومن عقوبات الذنوب أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا لسبب ذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة)، وقد قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ". وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
أيها الإخوة المؤمنون، دعونا نستلهم وإياكم أهم العبر والدروس من هذه القصة العظيمة:
فأولا: نرى فضل الله ورحمته بعباده وتيسير أمورهم وتذليل الصعاب لهم وتمكينهم في الأرض بعمل السدود وغيرها.
ثانيا: عدم الأمن من مكر الله، والحذر من طول الأمل، ولا يغتر المرء بنعم الله وهو عاكف على معاصيه، فإن الله يمهل ولا يهمل.
ثالثا: الحذر من الغفلة عن آيات الله عند نزول البلاء، وربط ذلك بالذنوب والمعاصي، وعدم الاغترار والقول بأن هذه ظواهر طبيعية، وربنا تعالى يقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا.
رابعا: الصبر على البلاء وعدم السخط على أقدار الله تعالى والرضا بقضائه وقدره، والعلم بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
خامسا: الاعتبار والاتعاظ بما يجري لمن حولنا من الأمم، واجتناب أسباب هلاكهم ودمارهم.
سادسا: الأمن والأمان أساس الرخاء واتساع العمران وانتشار الألفة والمحبة بين الناس، ولا يتم ذلك إلا بشكر المنعم تعالى.
سابعا وأخيرا: الدعاء، فما من عسير إلا يسره الله، ولا من بلاء إلا كشفه، ولا من كرب إلا نفسه، فعليكم به، فإنه السلاح الذي لا يغلب ولا يقهر.
فاللهم رحمتك يا أرحم الراحمين، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة...
| |
|