molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: القول على الله بلا علم - صلاح بن محمد البدير الإثنين 21 نوفمبر - 4:52:31 | |
|
القول على الله بلا علم
صلاح بن محمد البدير
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله فتقواه أربحُ بضاعة، واحذروا معصيتَه فقد خابَ عبدٌ فرَّط في أمر الله وأضاعه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، للشريعةِ حُرمةٌ عظيمة، لا يجوز انتهاكُها ولا يحِلّ تنقُّصها، ولها أحكامٌ لا يجوز تغييرها ولا تبديلها.
وإنَّ مِن التعدِّي على حرمةِ الشريعة وأحكامها نشرَ فتاوى شاذَّة وأقوالٍ ساقطة تهدِم الإسلامَ وتثلم الدينَ، وتثير البلبلةَ والفِتنة، وتفتِن ضعافَ العقول والعلمِ والدّين، وتظهِر الحقَّ في صورةِ الباطل والباطلَ في صورة الحق.
ومن البلاءِ تصدُّرُ أقوامٍ للإفتاءِ أحدُهم بين أهل العلم منكَر أو غَريب، ليس له في مَقام الفتوَى حظٌّ ولا نصيب. غرَّهم سؤالُ من لا علمَ عنده لهم ومسارعةُ أجهلَ منهم إليهم.
يقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: أخبرني رجلٌ أنّه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخَلت عليك؟! فقال: لا، ولكن استُفتِيَ مَن لا عِلم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، وقال: ولَبعضُ من يفتي ها هنا أحقُّ بالسّجن من السُّرَّاق.
وإنَّ من الافتراءِ على الله تعالى والكذِب على شريعتِه و عبادِه ما يفعَله بعضُ من رغِبوا في الأغراضِ الدنيوية العاجلة والأعراضِ الدنيئةِ الزائلة من التسرّع إلى الفُتْيا بغير علم، والقول على الله تعالى بلا حُجّة، والإفتاء بالتشهّي والتلفيق، والأخذِ بالرّخَص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبّع الأقوال الشاذّة المستنِدة إلى أدلّة منسوخةٍ أو ضعيفة، والتي لا يخفَى على من له أدنى بصيرةٍ مفاسدُها الكثيرة وآثارُها السيّئة العظيمة على الإسلام وأهله، والتي لا يقول بها إلا من فَرَغ قلبه من تعظيم الله وإجلاله وتقواه، وعُمِّر بحبّ الدنيا والتقرّب إلى الخلق دون الخالق. يقول بعض السلف: "أشقى الناس من باع آخرتَه بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره".
ألا فليتذكّر هؤلاء يومًا تكعّ فيه الرجال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، ويحصَّل يومئذ ما في الصدور كما يُبعثر ما في القبور، وهناك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدَعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 123]، لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [النحل: 25].
جهلاء سفهاءُ، قصُر في باب العِلم باعُهم، وقلَّ فيه نظرهم واطِّلاعهم، يخوضون في نوازلَ عامّة وقضايا حاسمة وهامّة بلا علم ولا رويَّة، يخبِطون خَبْط عشواء، ويأتون بما يُضادّ الشريعة الغرّاء، ويقولون باسم الإسلامِ ما الإسلامُ منه براء. قال سحنون بن سعيد رحمه الله تعالى: "أجسرُ الناسِ على الفتيا أقلّهم علمًا، يكون عند الرجل البابُ الواحد من العلم فيظنَّ أنّ الحقَّ كلّه فيه"، وقال ابنُ وهب: سمعت مالكًا يقول: "العجلةُ في الفتوى نوعٌ من الجهلِ والخرقِ"، وقال الإمام مالكٌ رحمه الله تعالى:"ما أفتيتُ حتى شهِد لي سبعون أني أَهْلٌ لذلك"، وقال عبد الرحمن بنُ مهدي: كنّا عند مالك فجاءَه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، جئتُك من مسيرةِ ستة أشهر، حمَّلني أهل بلدي مسألةً أسألُك عنها، فسأل الرّجل عن المسألةِ، فقال الإمامُ مالك رحمه الله تعالى: لا أدرِي، فبُهت الرجل وقال: أيّ شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟! قال: تقول لهم: قال مالك: لا أدري. وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يقول: "ليتَّق الله عبدٌ، ولينظر ما يقول وما يتكلَّم به؛ فإنه مسؤول"، وقال بعض السلف: "ليتَّق أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا وحرَّم كذا، فيقول الله له: كذبتَ لم أحلَّ كذا ولم أحرِّم كذا.
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116، 117]، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من البيِّنات والحكمة. أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله حقَّ تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ورضوانه، وحاذِروا أسباب غضبه وسخطه وعذابِه.
أيّها المسلمون، لا يجوز أن يمكَّن من الخوضِ في الفتوَى الجاهِلون بمقاصدِ الشريعةِ ومداركِ الأحكام، المتخرِّصون على معانيها بالظنّ، المتعالمون بلا رُسوخ، الخائِضون في مظانّ الاشتباه بلا تمييز، المقتَحِمون غمارَ الفتوى بلا علم ولا عدّة ولا تأهيل. وفي الأمّة علماءُ متمكِّنون من دَركِ أحكامِ الوقائع، بصيرون بمسالك النّظر والاستنباط، راسِخون في التخريجِ والترجيح. ولا تنبع الأفكارُ الزائغة والعقائد المنحرفة والأقوال الشاذّة إلا بترك مجالسة العلماء والصدور عنهم، وأخذِ العلم والفتوى عن أهل الجهل والهوَى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله قال: ((إنَّ الله لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتزِعه من الناس، ولكن يقبِض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسا جهّالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا)) متفق عليه، وعن عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه قال: (ليس عامٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهابُ علمائكم وخياركم، ثم يحدث قومٌ يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويُثلم).
ومن أعظم سمات أهل الأهواء أنهم لا يجالسون العلماءَ، ولا يأخذون عنهم. قال خلف بن سليمان: "كان الجهم على معبر ترمذ، وكان رجلًا كوفيَّ الأصل فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم".
ومن سمات أهل الأهواء إظهارُ الخصومة والشنآن للعلماء الراسخين في العلم، وتسفيهُ اجتهاداتهم، وتنفيرُ الناس من فتاويهم وكتُبهم. قال الإمام الشاطبيّ رحمه الله تعالى: "وربما ردوا فتاويهم وقبَّحوها في أسماع العامّة؛ لينفِّروا الأمة عن اتّباع السنة وأهلها".
فاتقوا الله أيّها المسلمون، وراعوا حرمةَ هذه الشريعةِ، ولا تقولوا على الله ما لا تعلمون، واسألوا أهلَ الذكر إن كنتم لا تعلمون؛ ترشدوا وتسعَدوا وتفوزوا.
أيّها المسلمون، إن ثمرةَ الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنَه.
وصلّوا وسلّموا على أحمد الهادي خيرِ الورى طرًّا؛ فمن صلّى عليه صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا.
اللّهم صلِّ وسلّم على نبيّنا وسيّدنا محمدٍ، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنة المتبعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بمنك وفضلك وجودِك وإحسانِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين...
| |
|