فقه الخطبة
الهدي النبوي في الخطبة
أيها الإخوة الأفاضل رواد المنابر وفرسانها، حري بنا ونحن نردد كل جمعة: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، أن نكون أول من يتأسى به في كل كبيرة وصغيرة، سيما خطبة الجمعة. والنقاط التي بين يديك تذكرة مختصرة قطفها إخوانك في المنبر من "زاد المعاد من هدي خير العباد" لابن القيم، بتصرف وزيادات يسيرة (1/ 186-191 و 364-440)
كان صلى الله عليه وسلم ينتظر اجتماع الناس، ثم يخرج إليهم ويسلم.
ثم يتوجه إلى المنبر، وكان منبره ثلاث درجات.
وكان في جانب المسجد الغربي قريباً من الحائظ.
فإذا صعد المنبر استقبل الناس وسلّم عليهم.
ثم يجلس فيشرع بلال في الأذان.
فإذا فرغ بلال من الأذان شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل (أي بين الأذان والخطبة).
فيقوم ويستقبل الناس بوجهه.
ويستفتح الخطبة بحمد الله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله.
ويتشهد فيها بكلمة الشهادة، ويشير بالسبابة.
ويقول: أما بعد.
وكانت تحمرّ عيناه.
ويعلو صوته.
ويشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم.
ويكثر من ذكر الله عز وجل.
وينتقي جوامع الكلم.
فيعلمّهم قواعد الإسلام، ويذكر الجنة والنار، ويأمر بتقوى الله تعالى، ويُبيّن موارد غضبه، ومواقع رضاه.
ويخطب أحياناً بالقرآن، فيقرأ سورة (ق) ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان يرتلها، على كثرة ما قرأها على المنبر.
وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم.
وكان يأمر وينهى ويعلم أثناء الخطبة إذا عرض ما يقتضي ذلك.
وكان يقطع الخطبة لحاجة تعرض له.
وكان يدعو الرجل باسمه في خطبته.
وكان يشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى ودعائه.
ويستسقي إذا قحط المطر, ويرفع يديه.
وكان يختم خطبته بالاستغفار.
فإذا انتهى من الخطبة الأولى جلس جلسة خفيفة ثم يقوم فيخطب الخطبة الثانية. {ولم يصح أنه كان يخطب خطبتين في غيرخطبة الجمعة، وقياس خطبة العيدين على الجمعة، لا وجه له}.
وكان يُقصر الخطبة غالباً، ويطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس.
فإذا فرغ من الخطبة الثانية نزل فصلى بالناس.
وكان يطيل الصلاة، فيقرأ بسبّح والغاشية، أو بالجمعة والمنافقون، ولم ينقل عنه أنه قرأ بغير ما ذكر. فتنبه والزم غرزه تهتدي.
فإذا فرغ من الصلاة دخل بيته وصلى ركعتين.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا
كان صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً :
وهذا القيام مذكور في كتاب الله تبارك وتعالى ، قال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً إنفضوا اليها وتركوك قائماً .. }1 ، أي على المنبر تخطب ، هكذا ذكره غير واحد من التابعين منهم: أبو العالية، والحسن، وزيد بن أسلم، وقتادة .
وقال ابن كثير : وفي قوله: {وتركوك قائماً} دليل على أن الإمام يخطب قائماً2، وسبب نزول هذه الآية مارواه سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: قدمت عير مرة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي إثنا عشر رجلاً، فنزلت {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً}3، ورواية مسلم صريحة في قيام النبي صلى الله عليه وسلم : فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام، فأنتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً ، فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة {وإذا رأوا تجارة أو لهواً إنفضوا إليها وتركوك قائماً}4 .
وفي لفظ آخر للحديث عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: بينما النبي يخطب يوم الجمعة، وقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لايبقى منكم أحد لسال بكم الوادي النار)) فنزلت هذه الآية {وإذا رأوا تجارة .... الآية}5.
وقد إشتد إنكار السلف على من يخطب قاعداً: فعن أبي عبيدة عن كعب بن عجرة رضي الله عنه : أنه دخل المسجد وعبدالرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً ، فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً}6 .
1 - سورة الجمعة ، من الآية رقم (11) .
2 - تفسير القرآن العظيم (4/367) .
3 - رواه البخاري (كتاب الجمعة-باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة –1/166)، ومسلم (كتابالجمعة –باب في قوله تعالى (وإذا رأوا) –2/590) عن جابر .
4 - رواه مسلم (كتاب الجمعة-باب في قوله تعالى {واذا رأوا} –2/590} .
5 - حديث صحيح ، رواه أبو يعلي (3/468 ، 469) .
6 - رواه مسلم (كتاب الجمعة-باب في قوله تعالى{ واذا رأوا} –2/591) .
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب على منبر:
أصل كلمة (المنبر) : نبر الشيء رفعه ، وبابه (ضرب) ومنه سمي (المنبر) لإرتفاعه7 .
ما قبل إتخاذ المنبر:
كان صلى الله عليه وسلم يخطب مستنداً إلى جذع شجرة قبل أن يتخذ منبراً، ودليل ذلك مارواه البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله قال: ((كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه))8، قال الخطابي رحمه الله تعالى : العشار : الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة9 .
كان الحسن رحمه الله تعالى إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عبادالله الخشبة تحن إلى رسول الله شوقاً إليه لمكانه من الله صلى الله عليه وسلم ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه10 .
أصل صنع المنبر ، وصانعه ، ومم صنع :
الأصل في صنع المنبر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بصنعه ، وصنعه له غلام صحابية وصنع من طرفاء الغابة ودليل ذلك: حديث أبي حازم بن دينا: أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد أمتروا في المنبر مم عوده؟ فسألوه عن ذلك ؟ فقال: والله إني لأعرف مماهو، ولقد رأيته أول يوم وضع وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة- امرأة قد سماها سهل- مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس ، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها فوضعت هاهنا، ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها، وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقري فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ، ولتعلموا صلاتي 11.
(والطرفاء) هو الأثل ، نوع من الشجر ، (والغابة) أصلها كل شجرة ملتف والمراد بها هنا: موضع من عوالي المدينة جهة الشام، وقوله الراوي: (فوضعت) أنث لإرادة الأعواد والدرجات، وقوله (فسجد في أصل المنبر) أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه 12 .
7 - مختار الصحاح (642) يتصرف .
8 - البخاري (كتاب الجمعة-باب الخطبة على المنبر-2/398) .
9 - أعلام الحديث (1/582) .
10 - رواه أبو يعلي (5/143) .
11 - رواه البخاري (كتاب الجمعة-باب الخطبة على المنبر-2/397) .
12 - فتح الباري (2/399 ، 400) .
عدد درجات المنبر:
منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو ثلاث درجات ، فكان صلى الله عليه وسلم يخطب على الثانية ويجلس على الثالثة ، ودليل ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مطول فيه: ((فصنع له منبر له درجتان ويقعد على الثالثة))13 .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله ....) ، وقال ابن النجار : إستمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن أحترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، فأحترق ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبراًثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبراً، فأزيل منبر المظفر، فلم يزل ذلك إلى هذا العصر، فأرسل الملك لمؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبراً جديداً ...)14 .
13 - حسن لغيره رواه الدارمي (1/25) وابو يعلي (5/142) وأنظر أخبار مدينة الرسول (ص81) .
14 - فتح الباري(2/399) وأخبار مدينة الرسول (80 – 82) .
التنبيه على مخالفة الناس هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في صنع المنبر:
وهكذا كان منبر الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات يقف رسول الله عليه الصلاة والسلام على درجتين منها، فيخطب الناس، فلم يكن هناك تكلف في صنعه ولامبالغة في إظهاره على خلاف مانراه اليوم من مظاهر التكليف والمباهاة والمبالغة في صنع (المنبر) فنرى منابر مرتفعة بدرجات كثيرةوهذا مع مافيه من مخالفة ماكان عليه منبر رسول الله فيه مشقة على الجالسين حين يرغبون في تطبيق سنة الإلتفاف إلى الإمام بالوجوه كما كانت عادة الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .وكذا من الغربة في المنابر تطويلها، حتى يؤدي طولها إلى قطع الصفوف الأولى للمصلين وقد قال صلى الله عليه وسلم : ((من وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله عز وجل)) 15 .
15 - صحيح ، رواه النسائي (كتاب الإمامة – باب من وصل صفاً – 2/93) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب أحمرت عيناه،
وعلا صوته، وأشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ، ودليل ذلك : حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا خطب أحمرت عيناه وعلا صوته وأشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم..) حديث بطوله16 .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (يستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته ويجزل كلامه ويكون مطابقاً للفصل الذي يتكمل فيه من ترغيب أو ترهيب ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمراً عظيماً، وتحذيره خطباً جسيماً) 17.
( الجزل ) خلاف الركيك18 .
وقال النووي رحمه الله (ويكون مطابقا للفصلً) فيه لفتة مهمة في تفاعل الخطيب مع موضوع الكلام الذي يخطب به، فاذا كان الكلام عن النار وعن الجهاد فهذا يقتضي تفاعلاً ، ورفعاً للصوت وغضباً أكثر من الكلام عن رحمة الله وعن الرجاء وعن الجنة وهكذا ، وقال الأبي رحمه الله : (وهكذا تكون صفة الواعظ مطابقة للذي هو يتكلم فيه، حتى لايأتي بشيء ضده)19 .
16 - رواه مسلم (كتاب الجمعة – باب تخفيف الصلاة والخطبة – 2/592 ) .
17 - المنهاج (6/155 ، 156 ) .
18 - لسان العرب (11/109) .
19 - إكمال الكمال المعلم (3/21 ، 22) .
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل على الناس بوجهه:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد يوم الجمعة سلم على من عند منبره من الجلوس ، فاذا صعد المنبر إستقبل الناس بوجهه ثم سلم))20، وعن عطاء والشعبي رحمهما الله تعالى قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ثم قال: السلام عليكم21
20 - رواه الطبراني في الأوسط(2/226/مجمع البحرين) قال الهشمي: وفيه عيسى بن عبدالله الأنصاري وهو ضعيف.المجمع(2/18) ورواه البيهقي (3/205) من طريق عيسى به واللفظ به .
21 - هذا المرسل رواه عبدالرزاق (5281) عن عطاء وفيه عنعنه إبن جريح، وعن الشعبي رواه عبدالرزاق أيضاً (5281) وإبن أبي شيبة (2/114) وفي إسناده مجالد بن سعيد، قال إبن حجر: ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره، التقريب(ص338) .
وكان صلى الله عليه وسلم يتوكأ على عصاً أو قوس:
فعن الحكم بن حزن الكلفي قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة فدخلنا عليه فقلنا يارسول الله زرناك فادع الله لنا بخير، فأمر بنا أو أمر لنا بشيء من التمر – والشأن اذ ذاك دون – فأقمنا بها أياماً ، شهدنا فيه الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوس ، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال: ((أيها الناس إنكم لن تطيقوا – أو لن تفعلوا – كل ما أمرتم به، ولكن سددوا وأبشروا))22.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : (وكان الخفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك، ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف)23 .
22 - رواه أبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر الألباني ، التلخيص الحبير (2/65) وصحيح أبي داود (1/240) .
23 - زاد المعاد (1/189) .
وكان صلى الله عليه وسلم يشير بأصبع السبابة
فعن حسين بن عبدالرحمن السلمي قال: كنت إلى جانب عمارة بن روبية24 وبشر يخطبنا25، فلما دعا رفع يديه فقال عمارة يعني قبح الله هاتين اليدين – رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا ورفع السبابة وحدها26 .
وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بين أصبعه السبابة والوسطى ففي حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه في وصف خطبة رسول الله وفيه : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى27
24 - عمارة بن روبية الثقفي صحابي جليل رضي الله عنه التجريد (1/395) .
25 - بشر هو ابن مروان الأموي أمير العراقين وأخو عبدالملك بن مروان، وهو المذكور في بيت الأخطل النصراني الذي تستدل به الجهمية على تأويل الاستواء بالإستيلاء وهو قوله :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولادم مهراق
26 - رواه مسلم (2/595) ، وأحمد (4/136) واللفظ له وسنده حسن .
27 - رواه مسلم (كتاب الجمعة – باب تخفيف الصلاة والخطبة – 2/592) .
وكان صلى الله عليه وسلم يقطع الخطبة لحاجة :
ومن تلك الحاجات التي عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع الخطبة من أجلها تنبيهه صلى الله عليه وسلم على ضرورة صلاة ركعتين – تحية المسجد - فعن جابر رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصليت يافلان))؟ قال: لا، قال: ((قم فأركعها))28
والرجل المبهم هنا هو سليك الغطفاني 29 .
والسنة في هاتين الركعتين تخفيفها ، فعن جابر مرفوعاً : ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما))30، ومن تلك الحاجات تعليم العلم لرجل غريب مسافر يفوته التفقه في الدين لو اقتصر على سماع خطبة الجمعة ثم انصرف .
فعن حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال فقلت: يارسول الله ، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لايدري مادينه ، قال: فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى الي فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله ثم اتى خطبته فأتم آخرها31 ، قال الأبي رحمه الله : فيه أن مثل هذا من التعليم والأمر بالمعروف في الخطبة ليس من اللغوو ولا يقطعها32 .
28 - رواه مسلم (كتاب الجمعة – باب التحية والإمام يخطب – 2/596) .
29 - رواه مسلم – الإحالة السابقة – وانظر تنبيه المعلم (ص168) .
30 - رواه مسلم (كتاب الجمعة – باب التحية والإمام يخطب – 6/164)
31 - رواه مسلم (كتاب الجمعة – باب حديث التعليم في الخطبة – 2/597) .
32 - إكمال إكمال المعلم (3/30) .
وكان صلى الله عليه وسلم يجلس بين الخطبتين :
دليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما))33 ولايتكلم صلى الله عليه وسلم في هذا الجلوس ، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً ، ثم يقعد قعدة لايتكلم))34، واستدل به الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على (وجوب) الجلوس بين الخطبتين ، لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك وأكثر العلماء على (عدم وجوبه)35 .
وقدر هذا الجلوس : حدده العلماء بقدر جلسة الإستراحة وبقدر ما يقرأ سورة الإخلاص.
وقال ابن حجر زمن القعود بين الخطبتين لايطول36 ، وحكمته قيل للفصل بين الخطبتين وقيل للراحة ورجح ابن حجر الأمر الأول والله أعلم37 .
33 - رواه البخاري (كتاب الجمعة – باب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة – 2/406 الفتح) .
34 - رواه أبو داود (1/240) صحيحه) وحسنه الألباني .
35 - المغني (3/176) .
36 - الفتح (2/409) .
37 - الفتح (2/406) .
وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الخطبة ويطيل الصلاة:
أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وتفجرت من بين شفتيه الشريفتين صلى الله عليه وسلم ينابيع الحكم، فكان إذا خطب تكلم بكلمات لو عدهن العاد، لأحصاهن. لأن القصد من الخطبة هو التذكير والوعظ من غير إثقال ولا إملال ولذلك كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بتقصير الخطب، وعلى رأسهن خطبة الجمعة وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن قصر الخطب مما يدل على فقه عند الرجل قال صلى الله عليه وسلم: ((من مئنة فقه الرجل قصر خطبته وطول صلاته))38 ، والمئنة هي : العلامة 39 .
ولذا أمر في حديث بتقصير الخطبة فقال صلى الله عليه وسلم : ((أطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة))40 .
وعن عمار بن ياسر قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقصار الخطب)41 .
وهكذا كان التوجيه منه صلى الله عليه وسلم هو هديه الذي سلكه وسار عليه ، وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات42 .
وإن كان يطيل صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة أحياناً، لكن أغلب أحواله هو التقصير، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وكان بقصر في خطبته أحياناً، ويطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة)43 ، وما الضابط في طول صلاة الجمعة؟ الجواب ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ يوم الجمعة بسبح والغاشية، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (كان رسول الله يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ، وهل أتاك حديث الغاشية.
وصح عنه أنه قرأ في الركعتين بالجمعة والمنافقون، فقد أم أبو هريرة الناس بالمدينة يوم الجمعة لما استخلف عليها ، فقرأ بالجمعة والمنافقون ثم قال بعدما انصرف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما44 .
38 - رواه مسلم (2/594) .
39 - لسان العرب (13/397) .
40 - رواه مسلم (كتاب الجمعة – باب تخفيف الصلاة والخطبة – 2/594) .
41 - رواه أبو داود (1/205) 206 / صحيحه) وحسنه الألباني .
42 - رواه ابو داود(1/205/ صحيحه) وحسنه الألباني .
43 - زاد المعاد (1/191) .
44 - رواه مسلم (كتاب الجمعة – باب ما يقرأ في صلاة الجمعة –2/598) .
وكان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه على المنبر حين الإستسقاء :
وكان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه على المنبر حين الإستسقاء :
ودليل ذلك حديث أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ثم قال: يارسول الله هلكت الأموال وأنقطعت السبل فادع الله يغثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، الله أغثنا )) قال : أنس ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولاقزعة45، وما بيننا سلع46 ، من بيت ولادار .قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً . قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائماً، فقال: يارسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا ، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: ((الله حولينا ولاعلينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس47 . (الترس) بالضم من السلاح مايتقى به ضرب السيوف وطعن الرماح48 ، (سبتا) أي اسبوعاً ، من السبت إلى السبت 49 ، (والآكام) هي الروابي ، و(الظراب) الجبال الصغار50 .
ووصف أنس رضي الله عنه رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه في الإستسقاء بوصفين قال في أحدهما : (.. كان لايرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الإستسقاء حتى يرى بياض إبطيه)51 .والآخر قال فيه : ( . فأشار بظهر كفيه إلى السماء )52 .
وكان الناس يرفعون أيديه مع رفعه صلى الله عليه وسلم : ففي احدى روايات أنس : (فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا ورفع الناس أيديهم معه يدعون ... الحديث53
45 - القزعة : قطعة من الغيم ، النهاية (4/59) .
46 - سلع: نفتح أوله وإسكان ثانيه بعده عيين مهملة ، جبل يقع شمال المدينة ، المعالم الأثيرة (ص142) ومعجم المعالم الجغرافية (ص160) .
47 - رواه مسلم (كتاب صلاة الإستسقاء – باب الدعاء في الإستسقاء - 2/613) .
48 - لسان العرب (6/32) .
49 - النهاية (2/331) .
50 - النهاية (1/59) ، (3/156) .
51 - رواه البخاري (كتاب الإستسقاء – باب رفع الإمام يده في الإستسقاء – 2/517) ومسلم (كتاب الإستسقاء – باب رفع اليدين بالدعاء في الإستسقاء – 2/612) .
52 - رواه مسلم في الموضع السابق .
53 - رواه البخاري (كتاب الإستسقاء – باب رفع الناس أيديهم مع الإمام – 2/516) .
هدي النبي صلى الله عليه وسلم القولي في خطبة الجمعة :
1 – هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في افتتاح خطبه بالحمد، والتشهد والصلاة والسلام وقول أما بعد:
قال ابن القيم رحمه الله : ولم يكن يخطب خطبة صلى الله عليه وسلم إلا افتتحها بحمد الله ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ، ويذكر فيها نفسه بإسمه العلم54 .
ودليل ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة : ((إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) ثم يقرأ آيات ثلاثة وهي {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون} { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} 55 , فهذا الحديث فيه حمد الله وفيه الصلاة والسلام على رسول الله وفيه الشهادتان وفي رواية للحديث ذكر فيها لفظة أما بعد56 ، قال صديق حسن خان : كان النبي صلى الله عليه وسلم يلازمها – يعني لفظة أما بعد – في جميع خطبه وذلك بعد الحمد والثناء والتشهد57 .
ومما يؤكد ذكر الشهادة في خطبة الجمعة وأنها آكد ما ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء))58 ، والجذماء : المقطوعة59 .
54 - زاد المعاد (1/189) .
55 - حديث صحيح رواه أحمد (1/392) وللعلامة الألباني رسالة مستقلة في روايات هذه الخطبة .
56 - رواها مسلم (كتاب الجمعة – باب تخفيف الصلاة والخطبة – 2/592) من حديث جابر ..
57 - الأجوبة النافعة (ص56) .
58 - رواه أبو داود (كتاب الأدب- باب في الخطبة – 3/918/صحيح أبي داود) وصححه الألباني .
59 -النهاية (1/252) .
سلامه صلى الله عليه وسلم على الناس حين وقوفه على المنبر :
روي في هذا حديث مر بنا في (هديه صلى الله عليه وسلم في مقابلة الناس بوجهه) وفيه ثم قال: (السلام عليكم ) وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك )60 .
وعن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم )61 ، وثبت هذا عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى أنه كان إذا استوى على المنبر سلم على الناس، وردوا عليه62
60 - من وجهين مرسلين: وثالث عن ابن عمر مرفوعاً في إسناده ضعف .
61 - رواه ابن ماجة (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ماجاء في الخطبة يوم الجمعة – 1/352) وحسنه الألباني صحيح ابن ماجة (1/183) .
62 - رواه ابن ابي شيبة (2/114) بإسناد حسن .