molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: قدوات الأمة - سعيد بن عبد الباري بن عوض السبت 12 نوفمبر - 9:07:12 | |
|
قدوات الأمة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
الخطبة الأولى
أما بعد:
معاشر المسلمين إن النظر في سيرة العظماء يثير في النفس كوامن محبة التشبه بهم والاقتداء بسيرتهم. ولقد ذكر الله لنا في كتابه سير من سبقنا منهم لنهتدي بهديهم ونقتدي بسيرتهم، فكم ذكر الله في كتابه من سيرة نبي كريم وقوم صالحين تسلية لنبيه وللمؤمنين وتربية لنا جميعاً لنتشبه بالقوم ونخطو على خطاهم. وهذه الأمة عباد الله تملك من رجالها ونسائها رصيداً ضخماً قد امتلأت به كتب السير. ولكن أين الذين يقرؤون؟ وإذا وجدنا الذين يقرؤون فأين الذين يقتدون ويعملون؟ واليوم إخوة الإيمان نتحدث عن سيد من سادات التابعين وكلهم سادة..
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يهتدي بها الساري
اليوم معاشر المؤمنين نقف مع رجل منهم قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: "كان سيد أهل زمانه علماً وعملاً" فمن هو هذا الجبل يا ترى؟
إنه الحسن البصري رحمه الله. كنيته أبو سعيد. واسمه الحسن بن يسار. كان أبوه عبداً من سبي ميسان بالعراق. وكان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. فأبوه عبد من العبيد، والابن سيد من سادات التابعين. إنه دين الله ، كتاب الله ، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي يرفع الله به مكانة الرجل أو يضعها. تلك هي المعايير التي كان يقيس بها أسلافنا رحمهم الله. لا النسب ولا الحسب ولا المال ولا الجاه. إنه الدين يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ [المجادلة:11].
فمن هو الحسن البصري؟ وما شأنه؟
لنرجع إخوتي إلى كلمة الإمام الذهبي رحمه الله في الحسن وقوله "كان سيد أهل زمانه علماً وعملاً" ونتأمل قليلاً لنعلم أن سيادة الحسن رحمه الله لم تكن بسبب علمه فقط. بل لأنه كان عالماً عاملاً لقد كانت حياته تطبيقاً عملياً لما يقول وينصح به الناس. إن الذي رفع قدر الحسن هو عمله بعلمه وليس علمه فقط.
لقد علم سلفنا الصالح وفقهوا قوله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]. قال الذهبي عنه: كان كثير الجهاد وكان رجلاً تام الشكل مليح الصورة بهياً، وكان من الشجعان الموصوفين.
إذاً فإن الحسن رحمه الله لم يكن عالماً مدرساً فقط، بل كان مقاتلاً شجاعاً، وتلك منقبة من مناقبه. قال جعفر بن سليمان: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقدمه.
ولما جمع هذه الصفات كان أقرب الناس شبهاً بالصحابة رضي الله عنهم، فعن أبي بردة قال: ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
وأما عن خوفه من الله وتقواه فقال عنه مطر الوراق: لما ظهر الحسن، جاء كأنما كان في الآخرة فهو يخبر عما عاين. وقال إبراهيم بن عيسى البشكري: ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة. وقال عنه كذلك علقم بن مرشد: وأما الحسن فما رأينا أحداً أطول حزناً منه ما كنا نراه إلا حديث عهد بمصيبة.
وتأمل أيها الموحد ما وصفه به هؤلاء الذي رأوه، ثم اسمع إلى بعض كلامه لتعلم أن الرجل كان يعيش ما يقوله للناس وينصحهم به، ولم تكن كلماته مجرد كلمات جوفاء. كان الحسن رحمه الله يقول: نضحك ولا ندري لعل الله اطلع على بعض أعمالنا وقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم هل بمحاربة الله ـ قوةـ والله لقد رأيت أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه. ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ولا يجد عنده إلا قوتاً، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني فيتصدق ببعضه، ولعله أجوع إليه ممن يتصدق به عليه.
وكذلك من أقواله رحمه الله أنه قال: يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك.
هذا عباد الله هو قوله، وذاك الذي سبق ذكره عنه حاله وعمله، فانظروا رحمني الله وإياكم كيف تطابق القول والعمل.
ولقد كان رحمه الله رجلاً مهيباً يهابه من رآه وجالسه، قال أيوب السخيتاني رحمه الله: كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث حجج ـ يعني ثلاث سنين ـ ما يسأله عن المسألة هيبة له.
أما حاله مع الدنيا متمثلة في المال فكان يقول: والله ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله. وقال بعض السلف: سمعت الحسن يقول: بئس الرفيقان: الدينار و الدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك.
عباد الله، وهذا هو الفقه والعقل والنظر السليم، فالمال لا ينفع الإنسان إلا إذا فارقه فذهب في يد فقير محتاج لا يجد ما يسد به رمقه ورمق عياله، أو ما ذهب ليد صاحب عيال يسكن في بيت مستأجر لا يجد قيمة الإيجار يهدده صاحب البيت في كل حين بالطرد والسجن، أو ما ذهب ليد مدين معسر قد أثقلت الديون كاهله لا يستطيع سداد ما عليه، فلا يدري أين يذهب. أو لبناء بيت من بيوت الله. أو كفالة طالب علم يطلب علم الشريعة ويصبح من علماء الأمة، فينفع الله به الكثير ويهدي على يديه الكثير، أو لكفالة مدرس تحفيظ وحافظ للقرآن، أو لكفالة داعية إلى الله يسيح في بلاد الله الواسعة يدعو إلى الله ويبلغ دينه، فذلك المال أيها المؤمنون الذي ينفع صاحبه. وما سوى ذلك فيموت صاحبه ويخلفه لورثة الله أعلم بما هم فيه عاملون.
وكان الحسن رحمه الله فصيحاً. قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن والحجاج.
وأما عن تواضعه رحمه الله: قال إياس بن أبي تميمة شهدت الحسن في جنازة أبي رجاء على بغلة، والفرزدق إلى جنبه على بعير فقال له الفرزدق: قد استشرفنا الناس يقولون: خير الناس، وشر الناس، قال: يا أبا فراس كم من أشعث أغبر ذي طمرين خير مني، وكم من شيخ مشرك أنت خير منه، ما أعددتَ للموت؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله. قال الحسن: إن معها شروطاً، فإياك وقذف المحصنة. قال الفرزدق: هل من توبة؟ قال: نعم.
فانظر رحمك الله كيف بين رحمه الله للفرزدق الشاعر الذي ظن أن الناس إذا رأوه بجانب الحسن فسوف يقولون هذا شر الناس -يعني الفرزدق- وهذا خير الناس -يعني الحسن-، فبين له الحسن أنه لا يعلم من هو خير الناس من شر الناس إلا الله.
ولقد كان الحسن رحمه الله تسيل الحكمة من فمه سيلاناً. وقد كان إذا ذكر الحسن عند أبي جعفر الباقر يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
ومن أقواله رحمه الله:
ـ ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
ـ فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحاً.
ـ ضحك المؤمن غفلة من قلبه.
موته رحمه الله: لما مات الحسن رحمه الله جاء رجل إلى محمد بن سيرين فقال: مات الحسن، فترحم عليه محمد، وتغير لونه وتوقف عن الكلام، فما تكلم حتى غربت الشمس. قال الذهبي: وما عاش ابن سيرين بعد الحسن إلا مائة يوم. قال الذهبي مات أول رجب وكانت جنازته مشهودة، صلوا عليه عقيب الجمعة فشيعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على نبيه الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد:
أيها الموحدون: هذه سيرة رجل من رجالات هذه الأمة وما أكثرهم، وإمام من أئمتها وما أعظمهم. جبل من جبالها، ومنارة من مناراتها أضاءت به الدنيا حيناً، وارتوت من معين علمه وخلقه ودينه. فلله كم لهذه الأمة من قمم شامخة فأين المقتدون؟ ولله كم لهذه الأمة من منارات هدى فأين المهتدون؟
لكن البلاء معاشر المؤمنين أننا ما عدنا نعرف القدوة الصالحة من القدوة السيئة، وما عدنا نفرق بين البطولة والبطالة.
إننا اليوم عباد الله نعيش أزمة قدوات، لكنها والله أزمة مفتعلة، ننظر إلى قدوات ما هي إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. أما القدوات الحقيقية التي تستحق النظر والتأسي فهي حبيسة التعتيم والتجهيل. وأما تلك القدوات السيئة فإنها تفرض على هذه الأمة على أنها القدوة التي تستحق التقدير والإجلال من فنان أو لاعب كرة أو مغن، وهكذا من قائمة الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع.
نعم، تلك هي قدوات شبابنا اليوم، وليت الأمر وقف عند قائمة من المسلمين بل لقد تعدى ذلك لتصبح القدوة من بلاد الكفرة أعداء الدين.
لماذا أيها المسلمون يعرف اليوم شبابنا الكثير عن سيرة لاعبي الكرة من المسلمين وغيرهم، والكثير عن سيرة من يسمون بالفنانين من المسلمين وغيرهم، والكثير عن سيرة المغنين من المسلمين وغيرهم، يحدث ذلك بينما تراهم يجهلون الكثير من رجالات هذه الأمة من العلماء العاملين والدعاة الناصحين، بل ومن الصحابة والتابعين، يجهلون سيرتهم وبطولاتهم، وما قدموه لهذا الدين من تضحيات، بل ويجهلون أسماء الكثير منهم. إن هذا الفصام النكد الذي تعيشه الأمة بين ماضيها وحاضرها، وبين رجال الأمس ورجال اليوم، سبب كبير ضمن أسباب أخرى أدت إلى ضعف الأمة الإسلامية، وضياع مجدها وعزها السابق.
| |
|