molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: داء العصر- سعيد بن عبد الباري بن عوض السبت 12 نوفمبر - 9:05:31 | |
|
داء العصر
سعيد بن عبد الباري بن عوض
الخطبة الأولى
أما بعد:
إن هذه الحياة على سعتها وكبرها تصبح لا تسع الإنسان ولا تكفيه إذا ضاق صدره واهتم واغتم. نعم هذه الأرض برحابتها وسعتها لا تكفي من ضاق صدره فتجده تائها حائراً لا يدري ما يصنع، ولولا بقية باقية من إيمان لقتل ذلك الإنسان نفسه.
ولتعلم مدى صدق هذا الكلام تأمل في أحوال الدول الكافرة اليوم، فكم سمعنا عن قتلهم لأنفسهم، بل وسمعنا عن مؤسسات متخصصة في طرق قتل النفس بعدة أشكال، وذلك لأنهم قد ضاقت صدورهم وكثرت همومهم وحاصرتهم فما عاد للحياة معنى عندهم.
وهكذا إذا ضاق صدر الإنسان لم يعد للحياة أي معنى أو قيمة عنده بل تصبح الحياة هماً يريد التخلص منه بالموت. وهم يفعلون ذلك لأنه ليس عندهم الإيمان الذي يردعهم عن ذلك، وليس عندهم الإيمان الذي يدفعهم للصبر قال تعالى: فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء [الأنعام:125]. وقال تعالى: أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ [الزمر:22].
وإن هذا البلاء عباد الله قد انتشر اليوم عند بعض المسلمين حيث أصبح البعض يشتكي من الضيق والهم والشعور بالقلق وعدم الطمأنينة. حتى أنشئت العيادات النفسية التي لم تكن معروفة من قبل، وكثرت وأصبح الازدحام عليها ملحوظاً. فما سبب ذلك؟
إن السبب عباد الله هو ضعف الإيمان والبعد عن منهج الله وترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه. نعم.. لقد ترك كثير من الناس ما أمرهم الله به من صلاة وصيام وحج وعمرة وطاعة للوالدين وحب الخير للمسلمين…. تركوا ذلك فضاقت صدورهم، وما عرفوا أن ذلك هو السبب، فذهبوا يبحثون عما يشرح لهم صدورهم بعيداً عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضلوا. ذهبوا يبحثون عن ذلك في النظر إلى ما حرم الله وسماع الغناء والذهاب إلى دول الكفر بحجة النزهة والترفيه عن النفس، فزادوا الأمر سوءاً ولم يزدادوا إلا هماً وغماً وضيقاً في الصدور وحرجاً.
ولو عادوا إلى المنهج الصحيح والمنهل الأصيل لوجدوا فيه شفاء صدورهم وذهاب همومهم وغمومهم. لو عادوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدوا الدواء والعلاج. ولما كثر اليوم هذا المرض وهذا البلاء الذي لم يكن يعرفه المسلمون من قبل صار هناك حاجة للحديث عن بعض الأسباب التي تسبب انشراح الصدر وارتياح النفس.
فاعلم إذاً أخي المبارك أن من أعظم أسباب انشراح الصدر التوحيد وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه قال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه، ومنها النور الذي يقذفه الله في قلب العبد وهو نور الإيمان فإنه يشرح الصدر ويوسعه ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصعبه قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح. قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله)) [رواه الحاكم والبيهقي في الشعب].
ومن أسباب انشراح الصدور العلم، فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً وأوسعهم قلوباً وأحسنهم أخلاقاً وأطيبهم عيشاً.
ومن الأسباب التي تشرح الصدر: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ومحبته بكل القلب والإقبال عليه والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك. حتى إنه ليقول أحياناً: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحالة إنهم لفي عيش طيب، وذلك مما يلقاه من سعادة وراحة ولذة يجدها في قلبه لا توصف، ولا يمكن للكلمات أن تعبر عن مداها. ولمحبة الله تأثير عجيب في انشراح الصدر وطيب النفس ونعيم القلب، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح.
ومن أعظم أسباب ضيق الصدر: الإعراض عن الله تعالى وتعلق القلب بغيره والغفلة عن ذكره ومحبة سواه، فإن من أحب شيئاً غير الله عذب به وسجن قلبه في محبة ذلك الغير.
فهما محبتان: محبة هي جنة الدنيا وسرور النفس ولذة القلب ونعيم الروح وغذاؤها ودواؤها بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده بكل القلب وانجذاب قوى الميل والإرادة والمحبة كلها إليه سبحانه.
والمحبة الثانية هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر وهي سبب الألم والنكد والعناء وهي محبة ما سواه سبحانه كمحبة المال أو الأهل والأولاد أو الجاه والمنصب أو غير ذلك من أمور الدنيا.
ومن أسباب انشراح الصدور الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكن من المال والجاه والنفع بالبدن وجميع أنواع الإحسان. فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً. والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً وأنكدهم عيشاً وأعظمهم هماً وغماً.
ومن أسباب انشراح الصدر بل من أعظمها: إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه وتحول بينه وبين حصول البرء. فإن الإنسان إذا قام بالأسباب التي تشرح الصدر ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه مثل الحسد والغل والغش وغيرها من دغل القلوب فإنه لا يحصل لصدره انشراح ولا سعة.
كذلك من الأسباب التي تساعد على انشراح الصدر ترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم فإن الإكثار من هذه الأمور يجلب الهموم والغموم إلى القلب.
وأخيراً عباد الله، هذه بعض أهم أسباب انشراح الصدور واتساعها، مرجعنا فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هما المنهل والمورد الذي دلنا عليه رسولنا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم فقال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي)).
لكن بعض المسلمين يبحث عن حل مشكلاته في كل مكان ناسياً أو متناسياً هذين المصدرين. إننا والله بحاجة إلى معرفة ما الذي يصلح مرجعاً لنا عند الشدائد والملمات وكذلك في الرخاء، فلقد ضاع ذلك منا ولا سيما في هذا العصر الذي طغت فيه المادة. وأصبح الكثير من الناس لا يؤمن إلا بالمحسوس ولا يرى إلا الموجود. فإن كلمته عما وراء المادة كما يقولون تشكك وتردد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين. وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين ومن أسباب انشراح الصدر وذهاب الهم والغم الدعاء. ذلك السلاح الذي غفلنا عنه وأهملناه وتركناه. فوالله الذي لا إله إلا هو لا يصيب المؤمن هم فيرفع يديه صادقاً إلى ربه طالباً منه إزالة الهم وتفريج الكرب إلا زال همه وجاءه الفرج. وخاصة عندما يتحرى المؤمن بعض الأدعية الواردة في مثل هذه الحالات. فمثلاً مما يروى عن النبي في هذا الأمر ما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ما قال عبد قط، إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أَمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحاً. قالوا: يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن) [رواه ابن حبان].
فكم من المسلمين اليوم يعرف هذا الدعاء؟ وكم هم أولئك الذين يعملون به ممن يعرفونه؟ وتلك إخوة الإيمان مشكلة ثانية وهي أننا نجهل العلاج الشرعي لبعض مشاكلنا، وحينما نعلم لا نعمل.
وفي سنن الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)).
فهل دعونا الله يوماً بهذا الدعاء؟
عباد الله، إن الله تبارك وتعالى يستجيب للمشركين إذا دعوه مخلصين. فكيف إذا دعاه عبده المؤمن الذي هو أحب خلقه إليه سبحانه. يقول تعالى: فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]. هذا حاله مع المشركين يقصه علينا. فلندع الله ولنتجه إلى الله وسوف نأنس بقربه. ونسعد بذكره. وتتسع صدورنا، وتذهب همومنا.
وأما الإعراض فجزاؤه ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى [طه:124]. أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]. أي ضنكاً في الدنيا, فلا طمأنينة له ولا انشرح لصدره, بل صدره ضيق حرج لضلاله, وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء, فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك, فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]. قال: الشقاء. وقال العوفي عن ابن عباس: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]. قال: كلما أعطيته عبداً من عبادي قل أو كثر، لا يتقيني فيه، فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة، وقال أيضاً: إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفاً لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به، اشتدت عليه معيشته، فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث, وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار.
| |
|