molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: النكاح وتذليل العقبات التي تحول دونه - سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 8:20:00 | |
|
النكاح وتذليل العقبات التي تحول دونه
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن الزواج نعمة عظيمة منّ الله بها على عباده ذكورهم وإناثهم أحله لهم، بل أمرهم به بعد أن رغبهم فيه، قال تعالى: وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]، وقال تعالى: فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء: 3]، وقال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ٱلأيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32]، وقال رسول الله : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الْبَاءَةَ فليتزوج؛ فإنه أَغَضُّ للبصر وأَحْصَنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء))، وقال النبي في الرد على النفر الثلاثة الذين قال أحدهم: أنا أصلي الليل أبدًا، وقال الثاني: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر أبدًا، وقال الثالث: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فقال رسول الله : ((أما والله إني لأخشاكم وأتقاكم لله، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
وكما أن النكاح سنة خاتم النبيين محمد فهي سنة المرسلين من قبله، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد: 38]. ففي النكاح فوائد دنيوية وأخروية وأجر عظيم من الله، سواء فيما يأتي المسلم أو فيما يخلّف بعده، ففيه امتثال أمر الله ورسوله، وبامتثال أمر الله ورسوله حصول الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة، وفيه اتباع سنن المرسلين، ومن اتبع سنن المرسلين في الدنيا حشر معهم في الآخرة، وفي النكاح حصول السكن والمودة والأُلفة والرحمة بين الزوجين كما في الآية السابق ذكرها وهي قوله تعالى: وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]، وصدق الله العظيم الذي جعل في الزواج آية وعلامة واضحة من آياته الكونية، فتجد الشاب والشابة الذكر والأنثى في اضطراب وفي قلق، كل منهما يبحث عن النصف الآخر ليسكن إليه من هذا الاضطراب والتوتر، وخاصة في مرحلة المراهقة، وما إنْ يَلْتَقِي أحدُهما بالآخر بالزواج الشرعي إلا تَجِد الواحد منهما قد هَدَأَ وسَكَنَ من اضطرابه وخَفَّتْ حِدَّتُه وزال تَوَتُّرُه ووجد كل منهما الأُلفة والمودة والرحمة. فينبغي أن يتنبه لهذا الأمر الإلهي كلُّ مسلم ويَعِيَ ذلك تمامًا، ويسعى إلى تزويج أولاده ذكورهم وإناثهم بقدر الاستطاعة، ويعي الآية القرآنية السابق ذكرها، ويفكر كثيرًا في آخرها، ويتأمل جيدًا قول الله تعالى: إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
وفي النكاح أيضًا قضاء الوطر وفرح النفس وسرور القلب وتحصين الفرج وحماية العرض للرجل والمرأة على حدٍ سواء؛ لأنه يُعِفُّ نفسَه ويعف زوجتَه ويَغُضُّ كل منهما بصره عن الحرام ويبتعد عن الفتنة، ويحصل الأجر على قضاء الشهوة كما ورد في الحديث عن رسول الله قوله: ((وفي بضع أحدكم صدقة))، قال: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له في ذلك أجر؟! قال: ((نعم، أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟)) قال: نعم، قال: ((كذلك إن وضعها في الحلال كان له أجر)).
ومن فوائد النكاح المبكر للرجل والمرأة أنه ما إن يصل أحدهما إلى سن الأربعين إلا ولَدَيْهِمَا ابْنٌ بإذن الله يبلغ من العمر عشرين عامًا يقوم على خدمتهما، ومنها أيضًا تكثير الأمة، وبالكثرة تَقْوَى الأمة أمام أعدائها وتُهَاب بين الأمم، وكذلك تحقيق مباهاة النبي بأمته يوم القيامة حيث قال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مُكَاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة)).
وفي النكاح تكوين الأسرة وتقريب الناس بعضهم لبعض، فإن الصهر شقيق النسب، قال تعالى: وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ مِنَ ٱلْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان: 54]. وفيه حصول الأجر والثواب في القيام بحقوق الزوجية والأولاد والإنفاق عليهم، وكذلك حفظ وصيانة المجتمع من التدهور الأخلاقي وفساد البيوت والأعراض، فالنكاح أو ما يسمى بالزواج صلاح للفرد وصلاح للمجتمع في الدين والأخلاق في الحاضر والمستقبل.
وهو كذلك درء للمفاسد الناتجة عن تركه وعدم المبالاة به وفيما يحول دونه من عقبات، وكل شخص لديه معلومات كافية في هذا المجال ولا تخفى على أحد، وما يحصل من مفاسد وارتكاب للزنا والفواحش والموبقات هو بسبب عدم الزواج في السن المبكر، وخاصة بين الشباب الذين يعيشون في اضطراب واكتئاب نفسي حتى يحصل كل منهم على النصف الآخر لتكمل له السعادة ويجد السكن والمودة والرحمة بمعناها الرحب الواسع.
وهناك عقبات تحول دون الزواج، منها: عزوف كثير من الشباب ذكورهم وإناثهم عن الزواج، أي: أنهم لا يرغبون فيه في سن المراهقة وما بعدها إلى أن يبلغوا الثلاثين من أعمارهم، أو قد لا يرغب بعضهم فيه للأفكار الدخيلة عليهم؛ بأن الزواج قَيْدٌ وارتباط عائلي وأسري، أو أنه يريد أحدُهما إِكْمَالَ دراستِه ولا يرغب أن يُخَلِّفَ أطفالاً في سن مبكرة؛ لأنه لا يستطيع الإنفاق عليهم أو أنهم يُتْعِبُونَهُمَا في التربية والرعاية، إلى غير ذلك من الحجج الواهية، وما ذلك إلا للغزو الفكري والعقدي والتقليد الأعمى لأعداء الإسلام والمسلمين واهتزاز العقيدة وضعف الإيمان والقصور في التصور الإسلامي الواضح.
إن الزواج لا يمنع من المضي في الدراسة والنجاح فيها والتحصيل العلمي والمعيشي، بل هو عَوْنٌ على ذلك خاصة مع الاستطاعة وممن وسع الله عليهم في المعيشة، الاستطاعة التي حددها رسول الله كما وردت في الحديث السابق ذكره؛ لأن الشاب أو الشابة في سنّ المراهقة وما بعدها إذا لم يكونا متزوجَيْنِ فإن كل واحد منهما مشغول بالآخر أيًّا كان، وكيف يتصل بعشيقته أو كيف تتصل بعشيقها، وسبب رسوب وفشل كثير من الشباب الذكور والإناث في المراحل الثانوية والجامعية هو ذلك التفكير الذي أشغلهم وربما خرج بهم عن الطريق السوي، مع أنه لو حصل الزواج الشرعيّ لَخَلا فِكْرُ كُلٍّ منهما ووجدا السعادة والراحة والسكن والأمن والطمأنينة واشتغلا بدراستهما وبأمورهما في جَوٍّ مريح وهادئٍ تَغْمُرُهُ السعادةُ التي يبحثان عنها، خاصة عندما يجد كُلٌّ منهما شريكَ حياتِه صالحًا، عندها يكون كل منهما عونًا للآخر على دراسته وما يَعْرِضُ له في الحياة، وما أكثر الذين تَكَلَّلَتْ زِيجَاتُهُمْ بالتوفيق ولله الحمد والمنة، ولم يجدوا العقبات والجبال الشاهقة التي صورها لهم شياطينُ الإنس والجن عن الزواج المبكر، وأما عن الغنى فسوف يغنيهم الله وينجز لهم ما وعدهم إياه، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6]، وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات: 22،23].
ثم تأتي الآية التي تُبْعِدُ عن المسلم ذلك التصور المادي الذي دخل إلى ضعيفي التوكّل على الله وهو خاص في الزواج والنكاح، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ٱلأيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32]، وفي الحديث عن النبي : ((ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله))، وقال أبو بكر رضي الله عنه: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح يُنْجِزْ لكم ما وعدكم من الغنى)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير المقطع التالي من الآية: (رغبهم الله تعالى في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال تعالى: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور: 32]).
وهذا مَرْهُونٌ ببساطة الناس وتسهيل أمور الزواج وتكاليفه، وليس فيه مطامعٌ وَإِثْقَالُ كاهلِ الزوج بالديون ومِنْ ثَمَّ الحكمُ عليه بالسجن الذي يجب على من أصدره وقضى به عليه أن يعيد النظر فيه حيث لم يتركه يت+ب لعائلته، سواء من مرتب شهري معلوم أو من طرق أخرى لاكتساب المعيشة وتسديد الدين بعد الإنْظَارِ والْمُهْلَةِ، فمن أين لهذا المسكين أنْ يُسَدِّدَ وقد حُرِمَ الموارد المالية وَزُجَّ به بين جدران أربعة كما يُقَال ينتظر إحسان المحسنين إلى عائلته إن هم انتبهوا لذلك وتفقدوا، وينتظر أيضًا صدقات الناس إن شَمَلَتْهُ ووصلت إليه في رمضان المقبل؟! فليتق الله من يُصْدِر على الناس مثل هذه الأحكام وينظر برؤية واسعة وعادلة.
وأما عن المرأة فقد دخل أكثرَ النساء المتعلمات مَوْجَةٌ من أعداء دين الله بطريقة الاستعمار الفكري يُرِدْنَ أنْ يَخُضْنَ تجربةً قد مَجَّتْهَا وسَئِمَتْهَا نساءُ الغرب، فتجد العوانسَ اللائي بَلَغْنَ الأربعين سنة وأكثر لم يتزوجن، ومنهن من قاربها والموجة الطاغية الآن سائرة في الطريق، بحجة إكمال الدراسات العليا ثم يفوتها الركب، أو بحجة العمل والوظيفة لأن والدها يريد راتبها لتبقى تكدح وتعمل له وتعوله، أو أنها لا تريد القيود على حَدِّ زعمها وهي تقضي شهوتها كيف تشاء ولا داعي للارتباط الأسري عياذًا بالله من ذلك، وهناك إحصاءات دقيقة في العالم كله تفيد بأن ما يقارب أكثر من نصف النساء غير متزوجات.
أيها المسلمون، ينبغي التفكير وإعادة النظر وإمعانه في هذه القضية الخطيرة التي غزت مجتمعنا، وأن يعمل كل فرد منا على الحلول المناسبة كل بحسبه. وأسوق إليكم قصة ترويها أستاذةٌ جامعية نشرتها إحدى الصحف قبل أربعين سنة تقريبًا، ونحن مع ذلك لا زلنا نخوض التجارب التي قد مَرَّ بها غيرُنا ولم نستفد منها، وأورد ذلك استشهادًا ليكون الجميع على بصيرة من أمرهم:
جاء في الصحيفة: أستاذة جامعية في إنجلترا وقفت عام 1961م أمام مئات من طلبتها وطالباتها تلقي خطبة الوداع بمناسبة انتهاء خدمتها من التدريس، قالت: ها أنا قد بلغت الستين من عمري، وصلت فيها إلى أعلى المراكز، نجحت وتقدمت في كلّ سنة من سنوات عمري، وذكرتْ أشياءَ إلى أن قالت: هل أنا سعيدة الآن بعد أن حققت كل هذه الانتصارات؟ لقد نسيتُ في غمرة انشغالي في التعليم والتدريس والسفر والشهرة أن أفعل ما هو أهمّ من ذلك كله بالنسبة للمرأة، نسيتُ أن أتزوّج وأن أنجب أطفالاً وأن أستقرَّ، إنني لم أتذكر ذلك إلا عندما جئت لأقدم استقالتي، شعرتُ في هذه اللحظة أنني لم أفعل شيئًا في حياتي، وأن كل الجهد الذي بذلته طوال هذه السنوات قد ضاع هباءً... وتمضي في كلامها إلى أن تقول: لو كنتُ قد تَزَوَّجْتُ وكَوَّنْتُ أسرة كبيرة لتركت أثرًا أكبر وأحسن في الحياة، إنّ وظيفة المرأة الوحيدة هي أن تتزوج وتكوِّن أسرة، وأيّ مجهود تبذله غير ذلك لا قيمة له في حياتها هي بالذات، إنّني أنصح كل طالبة تسمعني أن تضع هذه المهامَّ أولاً في اعتبارها، وبعدها تفكر في العمل والشهرة. انتهى كلامُها.
والاستدلال بهذا الكلام للاعتبار والاتعاظ، وخاصة من تَخَمَّرَتْ في رؤوسهم فكرة تأخير الزواج أو عدمه البتة؛ لتتضح الرؤيا ولئلا يَخُضْنَ تجربةً قد خَاضَها الغربُ والشرقُ وجَنَوْا الوَيْلاتِ وانحلَّت بسببها الأخلاق وتدهورت المجتمعات، قال تعالى عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ [الروم: 7]. وإن كانت هذه الظاهرة قد غزت بلاد المسلمين بشكل مُلْفِتٍ للنظر ولم يسلم منها أي بقعة من العالم فإن واجب المسلمين أن يتأمّلوا هذا الواقع ويفكّروا تفكيرًا جادًّا ويضعوا الحلول العاجلة لمجتمعاتهم صيانةً لأعراضهم وحمايتِها وإِبْعَادِها عن كل ما يُدَنِّسُهَا من حيث الصحة والأخلاق وهدم البيوت وتشتيت الأسر؛ بسبب انحراف تلك الفئات عن منهج الإسلام ودين الفطرة السليمة والأخلاق الحميدة، ولا يظن أولئك المفسدون المنحرفون أن عامة الناس لا يعلمون ما هم عليه مُكِبُّونَ وما هم عليه مُدْمِنُون من تدمير المجتمع وهَتْكِ أعراضه، فإذا كان هذا أمر العامة من عدم علمهم ومعرفتهم فهناك من الخاصة من يعرف ذلك تمامًا، ولكنهم يريدون السَّتْرَ على العباد وعدم إشاعة الفاحشة لعلهم يتوبون ويرجعون عن غَيِّهِم وفسادهم، ولو أن لديهم قليلاً من التفكير في العواقب في الدنيا والآخرة لسلكوا الطريق القويم، والله عز وجل يمهل ولا يهمل، ولو يؤاخذنا عز وجل بذنوبنا أو بما هو منتشر من الزنا والانحرافات الخطيرة لعجل لنا العقوبة، ولكنه الرَّؤُوفُ الرحيمُ اللطيفُ بعباده العليمُ بضعفهم وغلبة شهواتهم عليهم وتَسَلُّطِ شياطين الإنس والجن عليهم، فتح بابَ التوبة للمذنبين من المسلمين وبابَ الدخول في الإسلام لغير المسلمين، وأمهلهم سبحانه وبحمده ولم يؤاخذهم بذنوبهم أو بكفرهم وإعراضهم عنه جل وعلا، قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]، ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وقال تعالى: وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً [الكهف: 58]
قال إبراهيم بن ميسرة رحمه الله: قال لي طاووس: لَتَنْكِحَنَّ أو لأقُولَنَّ لك ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عَجْزٌ أو فجور. إن هذه العبارة الجميلة تعطي معاني كثيرة، ويقف المتأمل لأحوال عدم الراغبين في الزواج وقفة تدبر وتأمل وتعجب عند هاتين الكلمتين: عجز أو فجور. نعم، إنه لا يعدل عن سنة الزواج وهو قادر على تكاليفه إلا مَنْ به عَجْزٌ من الناحية الجنسية أو العجز عن السعي وال+ب لمن يعول أو العجز عن التربية والتعليم لمن تَقَدَّمَتْ به السِّنُّ إلى غير ذلك من أنواع العجز، أو الفجور والانحراف عن الطريق المستقيم؛ لأنَّ الْفَاجِرَ لَمَّا يَرَى مُسَايَرَةَ الفاجرات مثله يشكُّ ولا يَثِقُ في أنه سوف يرتبط بامرأة عفيفة أو يجدها في المجتمع، ولا يرضى مع فجوره أن تكون له امرأة بزواج شرعي وهي فاجرة مثله، فلذلك يعرض عن الزواج لفجوره وقضائه شهوته من الفاجرات وبالطرق الأخرى.
والعجز والفجور ينطبق على الجنسين الذكور والإناث، وقد انتشر في المجتمعات بسبب تأخر سن الزواج الذي له أسباب عدة، منها ما ذكرناه، ومنها ما هو نابع من كثرة التكاليف للوصول إلى الزواج الشرعي المباح، وفي المقابل سهولة الوصول إلى الحرام. فلينتبه الناس من غفلتهم ورَقْدَتِهِمْ وليُفِيقُوا من نُعَاسِهِمْ ونومهم، فالأمر في غاية الخطورة وإنْ قَلَّلَ من شأنه من لا يعلم ما الناس عليه وما يدور حوله، أما عدمُ زواجِ قَلِيلٍ من العلماء في القديم والحديث لانشغالهم بالعلم وإِفَادَةِ الناس والعبادة فعملهم هذا وإن كان مُبَرَّرًا بما سلف ولكنه مخالفٌ للقرآن والسنة ولهدي رسول الله ، وليسوا في ذلك بِقُدْوَةٍ وإنما قُدْوتنا وأسوتنا رسول الله ، ولا يدخلون في تلك العبارة التي أُثرَتْ عن عمر، بل هي لعامة الناس ممن لم تكن حالهم كحال هؤلاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]. وما أجمل السياق القرآني والتعقيب الإلهي بهذه الآية التي جاءت بعد آيات الحجاب والنكاح وقبلها آياتُ أَحْكَامٍ في الحياة الزوجية وهي قول الله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَـٰتٍ مُّبَيّنَـٰتٍ وَمَثَلاً مّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ [النور: 34].
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الناس من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها، والحمد لله الذي يسّر لعباده كل طريق يتمتعون به فيما أباح لهم من الطيبات في المناكح والأقوات واللباس والمساكن لتتم بذلك النعمة ويحصل الابتلاء والاختبار، فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فكفره على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أَدَّخِرُهَا ليومٍ تُجْزَى فيه النفوسُ بما لها وما عليها، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن من العقبات والْمُعَوِّقَاتِ والعراقيل الكثيرة التي تحول دون الزواج ومصالحه عَضْلَ النساء أي: منع المرأة من الزواج بِكُفْئِهَا، واحتكارَ بعض الأولياء لبناتهم أو من لهم ولاية تزويجهن، أولئك الأولياء الذين لا يخافون الله ولا يرعون أماناتهم ولا يرحمون من تحت أيديهم من النساء، فإذا تقدم للمرأة خاطبٌ كُفْءٌ مُنِعَتْ منه سواء كانت هذه المرأة بنتًا أو أختًا أو أمًّا أو غيرها ممن هي تحت ولاية هذا الرجل، وقد يكون المنع من قبل الولي أو لِتَدَخُّلِ بعض النساء والسفهاء والحاسدين لهذا الزوج بحجج فاسدة يقتنع بها الولي أو المرأة لئلا يَتِمَّ ذلك الزواجُ كَأَنْ يقولوا: هذا كبير في السن أو فقير أو مُتَدَيِّنٌ مُتَشَدِّدٌ، إلى غير ذلك مما يقدحون به في هذا الخاطب، والسبب الحقيقي أنه لا يوافق مزاج أولئك السفهاء، وعندما يتمّ رَدُّ هذا الْكُفْءِ بعد التفكير والتقدير وتداول الآراء الفاسدة يقولون الكلمة الأخيرة له: البنت قد خُطِبت، أو هي مخطوبة، أو شاورناها فَأَبَتْ، أو البنت صغيرة، يقولون أقوالاً هي في الحقيقة كذب، فقد يأتي في اليوم الثاني أو بعد ساعات خَاطِبٌ فاسِقٌ أو كثيرُ المالِ أو الذي يدخل مزاج هؤلاء الذين تدخلوا، فتتم الموافقة وتُرْغَمُ البنتُ على الزواج منه وهي لا ترضى به، فسبحان الله! بين عشية وضحاها وخلال ساعات كبرت البنت وأصبحت مناسبة للزواج، بينما كانت مخطوبة عند الرد الكاذب على الأول إذا بالأمر ينكشف بأنها غير مخطوبة أصلاً للثاني، إنما هو للتخلص من الأول، وبينما هي لم تُسْتَشَرْ في الحقيقة على الخاطب الأول إذا هي ترغم على الثاني، انتكاس في الفطر، ويوم يتولى السفهاء زِمَامَ أُمور النساء ولا يخافون الله ولا يُحَكِّمُونَ شرعه عندها تضيع المسؤولية وتُهْدَرُ المصالِحُ ويفسد الأمر.
إنه يجب على ولي المرأة الرشيد الحازم إذا اقتنع من صلاحية الخاطب ورَضِيَتْهُ المخطوبةُ أنْ يُقْدِمَ على التزويج ولا يدع فرصة للمغرضين والعابثين والمفسدين، وليتبع قول رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
إن في منع المرأة من التزويج بكفئها في الدين والخلق لمثل هذه الأقوال الكاذبة معصيةً لله ورسوله وخيانةً للأمانة وجناية الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله، وجناية على المرأة حيث منعها وعضلها من كفئها وفوّت عليها فرصة الزواج الذي هو عين مصلحتها، وأيضًا هو جناية على الخاطب حيث منعه من حق أمر الشارعُ إعطاءَه إياه، فمثل هذا الولي تسقط ولايته على المرأة، وتنتقل إلى من هو أصلح منه ولاية عليها من القرابة، لدرجة أنه إذا عضلها الجميع فإن السلطان وليها والقاضي يزوجها، وهذا الولي الذي يتكرر منه العضل يَصِيرُ فاسقًا ناقصَ الإيمان والدين، لا تُقْبَلُ شهادتُه عند جَمْعٍ من العلماء.
أيها المسلمون، إن أمر الزواج والعقبات التي تحول دونه أمر يهم الجميع، وهناك عقبة كَؤُودٌ مهمة لم يستطع كثير من الشباب صعودها لصعوبة الوصول إلى الحلال عن طريقها والسير في دروبها ومسالكها وطرقها، ووقفت غُصَّةً في حلوقهم وحاجزًا وسدًا منيعًا أمام تحقيق فطرتهم حسب منهج دين الإسلام، وسوف تكون مِحْوَرَ الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
| |
|