molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: النار (1)- سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 7:25:58 | |
|
النار (1)
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فعلينا ـ معشر المسلمين المؤمنين ـ أن نتقي الله تعالى ونتقي النار التي أعدت للكافرين، نتقيها بطاعة الله وطاعة رسوله بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فإنه لا نجاة لنا من النار إلا بذلك بعد رحمة الله ورضاه. وعلينا أن نتقي النار فإنها دار البوار والبؤس والشقاء والعذاب الشديد، دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ساكنوها شرار خلق الله من الشياطين وأتباعهم، قال الله تعالى: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85]. دار فرعون وهامان وقارون وأبيّ بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق وفجّارهم.
طعام أهلها الزقوم، وهو شجر خبيث مُرّ الطعم والمذاق، كريه المنظر، لا يسمن ولا يغني من جوع، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قرأ هذه الآية: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] فقال رسول الله : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟!)) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال: ((فكيف بمن ليس له طعام غيره؟!)) ورواه الحاكم أيضًا إلا أنه قال فيه: فقال: ((والذي نفسي بيده، لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الأرض لأفسدت ـ أو قال: لأمرت ـ على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟!)) وقال: "صحيح الإسناد".
ذلك طعامهم إذا جاعوا، فإذا أكلوا منه التهبت أكبادهم عطشًا، فيستغيثون ويطلبون الماء، فيأتيهم الماء البالغ نهاية الحرارة يشوي وجوههم حتى يتساقط عنها اللحم، قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29]. فإذا شربوه على كُرْه وضرورة وهو كالمهل أي: كالنوع السائل من القطران، عندها تتقطع أمعاؤهم وتغلي منه بطونهم وتُمزق جلودهم، فهو كالمهل المتخلف بعد القطران في حرارته وكالصديد والقيح في نَتَنِهِ ورائحته وخبثه، يضطر شاربه إلى شرابه اضطرارًا، قال الله جل جلاله في وصف ذلك الماء والشراب وحال المعَذَّب به في نار جهنم: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 16، 17]، وقال تعالى: كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 45، 46].
أما لباس أهل النار فلباس الشر والعار، قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج: 19]، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم: 50]. فلا يقيهم هذا اللباس حرّ جهنم، وإنما يزيدها اشتعالاً وحرارة، ولا يستطيعون أن يقوا به وهجَ النار وحرَّها عن وجوههم، بل يأتيهم كذلك الماء البالغ نهايته في الحرارة الشديدة ويصب من فوق رؤوسهم ليصهر ويذيب ما في بطونهم والجلود، قال الله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 19-22].
أيها المؤمنون، إن الحديث عن دار البوار والخسران المبين ليس كالحديث عن دار النعيم الأبدي عن دار الأبرار؛ لأن النفس تنبسط وتفرح وتنشرح عند سماع النعيم وترتاح له وتلذ وتتطلع إليه، أما عند سماع الشقاء فإنها تقشعر وترتاع منه وترهبه وتخافه.
وإن آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله وافية الشرح والبيان حول ذلك وغيره، فيجدر بكل مؤمن أن يتأمل ويتمعَّن ويتدبر كتاب الله وسنة رسوله محمد ليعيش بين الخوف والرجاء ومحبة الله جل جلاله والطمع في رحمته سبحانه، يخاف عقاب الله ويرجو رحمته، يخاف من النار ويطمع في الجنة، نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار.
وأستعرض بعض الآيات والأحاديث الواردة بقصد الذكرى والاتعاظ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فدار البوار ذات دركات، كل دركة تحت الأخرى حتى نهايتها، وهي سبع تتفاوت في شدتها وعذابها، أخفها عذابًا أعلاها، وأشدها عذابًا أسفلها، ولكل دركة اسمها الخاص وبابها الخاص، قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 43، 44]، وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ [النساء: 145]. وقد وردت أسماء دركات دار البوار في القرآن الكريم مفرقة في عدة سور، فأسماؤها: نار جهنم، لظى، الحطمة، السعير، سقر، الجحيم، الهاوية. اللهم أجرنا منها واصرف عنا عذابها، إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 65، 66].
يؤتى بأهل النار يساقون إليها أفواجًا متتابعة فوجًا بعد آخر، وزمرًا متداركة زمرة بعد أخرى، وقد برزت لهم كما قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر: 71]، وما إن تراهم من مكان بعيد إلا سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا كما قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12]، وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 6-11]، ثم يخرج منها عنق يَلْتَهِمُ من شاء الله أن يلتهمهم من أهل الموقف من الجبارين والمشركين، وقد جاء هذا واضحًا في حديث رسول الله حيث قال: ((يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وُكّلتُ بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصوّرين)).
وتساق تلك الزمر إلى جهنم حتى إذا وصلوها وجدوا أبوابها مغلقة، فتفتّح لهم، ويدفعون إليها دفعًا كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 13-16]، ثم يُلقون منها في أماكن ضيقة وهم مقيّدون في الأصفاد مكبلون بالسلاسل والأغلال كما قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان: 13]، وقال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم: 49، 50].
وما إن تستقر تلك الجماعات الهالكة والزمر الخاسرة في جهنم بعد أن ألقوا فيها مهانين حقيرين ذليلين حتى ينزل بهم عذاب نفساني أليم مُهين، ذلك هو عذاب التوبيخ والتقريع والتأنيب الذي يلقونه من ملائكة العذاب الموكلين بهم مثل قولهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8]، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر: 71]، هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 14-16]، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا [النبأ: 30].
كل هذا التوبيخ والتقريع والتأنيب جاء بيانه في كتاب الله عز وجل، والذي ذُكِرَ هُنا قليل من كثير، فعلينا بتلاوة القرآن الكريم وتدبره وعدم اتخاذ سماعه وتلاوته طربًا لا يجاوز الحناجر ولا يصل إلى القلوب فما أُنزل لهذا؛ إنما أُنزل للتدبر والتفكر والعمل والتطبيق، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29].
وأما عن تلاوم أهلها فيكفينا أن نصغي إلى بعض الآيات القرآنية لنعرف عن ذلك شيئًا يسيرا، لقد أخبر عنهم عز وجل بقوله: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 38، 39]، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31-33]، وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: 27-33].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده تعالى وأشكره وأستغفره وأتوب إليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن من أغرب ما يُعرف عن أهل النار من أحوال في غاية العجب أن يخطب فيهم إبليس خطبة من أبلغ الخطب وأفصحها وأشدّها أثرًا ووقعًا في نفوس سامعيها، فيزيدهم في كربهم وطول محزنهم وشدة إبلاسهم وإفلاسهم، وذلك لما ي+بهم خطابه من الندامة والحسرة القاتلة حيث كان يغرّهم ويخدعهم في الدنيا ثم يتخلى عنهم ويرد اللوم عليهم باستجابتهم له، فعليهم أن يلوموا أنفسهم بسبب استجابة دعوته لهم، ولنستمع إلى تلك الخطبة كما وردت في القرآن الكريم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22].
فأهل النار في عذاب مستمر لا يُفَتَّر عنهم، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودًا غيرها حتى يحِسُّوا ويذوقوا العذاب، فيكون التبديل والعذاب في الجلد لأنه منطقة الإحساس بالألم والحرارة والبرودة وغيرها، وهذه إحدى المعجزات لنبينا محمد التي تدل على صدق رسالته وأنه لم يأت بشيء من عند نفسه مهما كان صغيرًا ودقيقًا في أعين الناس، فهو يخبر بأشياء لا يعلم ولا يعرف عنها أصلاً أيّ معلومات سابقة إلا بما أوحى الله إليه، فالعلم بأن الجلد هو منطقة الإحساس بالألم لم يكتشف إلا في هذا العصر مع أن حقيقة الإخبار عنه موجودة في القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، قال تعالى: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 75]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56]، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20].
يُنوَّعُ عليهم العذاب فلا يستريحون، فيقولون لخزنة جهنم: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ [غافر: 49]، فهم لا يطمعون في التخفيف الدائم ولا في الانقطاع ساعة من العذاب، وإنما يسألون أن يخفف عنهم يومًا واحدًا من العذاب، ولكن لا تجيبهم الملائكة إلا بالتوبيخ والتَّهَكُّم تقول لهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالأدلة الواضحات؟ فيقولون: بَلَى، فتقول الملائكة: فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [غافر: 50]، فلن يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل وأتباعهم حين دعوهم إلى الله وعبادته في الدنيا، وحينئذٍ يتمنون الموت من شدة العذاب فيقولون: يَا مَالِكُ وهو خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ أي: يطلبون أن يهلكهم ويميتهم، فيقول لهم مَالِك: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، ويقال لهم: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ، قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 74-78]، كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة: 167]. يتوجهون إلى رب العالمين ذي العظمة والجلال والعدل الفعال لما يريد فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون: 106، 107]، فيقول لهم أحكم الحاكمين: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون: 108-110].
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إن أهون أهل النار عذابًا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم)) رواه البخاري ومسلم ولفظه: ((إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا وإنه لأهونهم عذابًا))، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرّ بي نعيم قط، ولم أرَ خيرًا قط، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك من شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) رواه مسلم.
لنَرَ كيف نسي كل نعيم الدنيا الذي مرّ به حينما غُمس في النار غمسة واحدة، فكيف به وهو مخلّد فيها أبدا؟! قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 64-68].
أيها المسلمون، أكتفي بما أشرت إليه من أحوال أهل النار، وأستعرض في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى ما أمكن من أوصافها وأوصاف أهلها وطعامهم، نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها.
| |
|