molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: ذر في صور الرجال - سعد بن سعيد الحجري الثلاثاء 8 نوفمبر - 3:48:58 | |
|
ذر في صور الرجال
سعد بن سعيد الحجري
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي قال عن نفسه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].
خلق الخلق لطاعته؛ لأنها الفطرة التي فطروا عليها، لا تبديل لخلق الله، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، ويقول : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)). ولوجود هذه الفطرة كان أهل الإسلام يزيدون ولا ينقصون، وكان من دخل في الإسلام قلما يخرج منه؛ لأنه دين الفطرة والطاعة والجبلة التي جبل الإنسان عليها إنسانا سويًا. ودليل ذلك أننا لا نجد كلفة ولا مشقة في أداء الطاعات؛ لأن الإنسان خلق لها، والله لم يجعل علينا في الدين من حرج، يقول تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13]، وفي الحديث القدسي: ((يقول تعالى: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)).
والطاعة حق لله علينا، وحقه علينا عظيم، وفضله علينا عميم، وشرف لنا أن نؤدي حقه؛ لأنه الغني ونحن الفقراء، ولأنه الذي لا ينتفع بطاعة مطيع ولا يتضرر بمعصية عاصي، يقول تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واجد منكم ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).
والطاعة رسالة الرسل التي أرسلهم الله بها، فلم يرسلهم لزرع الزروع، ولا لفتح المتاجر، ولا لتشييد العمائر، ولا للركون إلى الدنيا، ولكنه أرسلهم مبشرين لأهل الطاعة بالجنة التي عرضها السموات والأرض، وبالحياة التي لا موت بعدها، وبالشباب الذي لا هرم بعده، وبالصحة التي لا سقم بعدها، وبالغنى الذي لا فقر بعده، ومنذرين لأهل المعصية بالعذاب المقيم والعقاب الأليم.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الطاعة نعيم في الدنيا ونعيم في الآخرة؛ فهي نعيم في الدنيا تتنعم به القلوب وتسلم به وتنشرح به وتتنور به، وإذا تنعمت القلوب تنعم البدن كله، يقول عن نعيم مجالس الذكر: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا))، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: ((حِلَقُ الذكر))، ويقول عن نعيم الذكر: ((لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس))، ويقول عن نعيم الصلاة: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة))، ويقول عن نعيم الصيام: ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه))، ويقول أحد السلف: "مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا ألذ ما فيها، قال: ذكر الله وطاعته"، ويقول محمد بن المنكدر: "لم يبق من لذة الدنيا إلا صلاة الجماعة وصلاة الليل ومصاحبة الصالحين"، ويقول ابن تيمية: "إنها لتمرّ بي ساعات أقول: إن كان نعيم الجنة مثل هذا النعيم إنه لنعيم عظيم"، ويقول آخر: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك بما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف".
والطاعة نعيم الآخرة لأنها أبواب الجنة، ففي الحديث: ((فمن كان من أهل الصلاة دخل الجنة من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دخل من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دخل الجنة من باب الريان، ومن كان من أهل الجهاد دخل الجنة من باب الجهاد))، ولأن بالطاعة تعطى غرف الجنة، ففي الحديث: ((أن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)). قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وواصل الصيام وصلى بالليل والناس نيام))، ولأن شجر الجنة تغرس بها، وبيوتها تبنى بها، يقول : ((من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة))، وقال: ((وإن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر))، وقال: ((من صلى في يومه وليله ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة، أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الغداة)).
وما دامت الطاعة دام النعيم في الدنيا والآخرة، وإذا انقطعت الطاعة انقطع النعيم في الدنيا والآخرة. ومن حكمة الله أن قامت الحياة على المدافعة بين أهل الحق وأهل الباطل والابتلاء بالشر والخير، وأول عاص عصى الله من المخلوقات هو الشيطان الرجيم، وعليه إثم هذه المعصية وإثم من تبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا. وقد استحق بهذه المعصية لعنة الله، واستحق بهذه اللعنة الطرد من الجنة والطرد من السماء والحرمان من جوار الرب والحرمان من صحبة الصالحين وعدم قبول السماء له وعدم قبول الأرض له وبغض المخلوقات له وحرمانه من التوبة وحرمانه من الطاعة وخلوده في نار جهنم.
وأول معصية عصي الله بها هي معصية الكِبر، وقد أوبقت هذه المعصية دنيا الشيطان وآخرته، وجعلته شقيا إماما للأشقياء، يقول تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [البقرة:34].
ولقد دعا الشيطان أتباعه إلى الاتصاف بهذه الصفة، فأقفلت القلوب وأظهرت العيوب وضاعفت الذنوب واستحقت المرهوب، وقد أتعب الكبر صاحبه؛ لأنه حمل نفسه ما لا تطيق وكلفها بغير وسعها؛ بالتطاول على الناس واحتقارهم وتضييع حقوقهم، فضيع المتكبر حق نفسه، وضيع حق غيره، وبالكبر ضياع حق الله تعالى، فهو الذي منع المستكبر من الدعاء مع حاجته الماسة له واضطراره إليه، يقول تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
والكبر هو الذي منع أهل المناصب وأهل الأموال من الصلاة في المسجد؛ لأنهم يرون أنهم طبقة أعلى من الناس، ويرون أنهم غير مكلفين، وتناسوا أن الله لا ينظر إلى المناصب ولا إلى الأموال، ولكنه ينظر إلى القلوب والأعمال، وكم من أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، وتناسوا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنياهم بخمسمائة سنة، وقد وجد من تكبر على الله بالسجود وأقسم أن لا يسجد فابتلاه الله بالصداع في رأسه، ما كان يهدأ هذا الصداع إلا إذا سجد، ولا يظلم ربك أحدًا.
والكبر هو الذي حمل بعض الناس على ترك العمل بسنة الرسول ، ففي الحديث أن رجلاً أكل عند النبي بشماله فقال له : ((كل بيمينك))، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت))، ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه.
والكبر يمنع من تعلم العلم النافع لما فيه من مزاحمة العلماء بالركب وملاحقة مجالسهم، قال بعض السلف: "لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر"، وطلب هارون الرشيد من الإمام مالك أن يعلمه علما خاصًا فقال: تعلم مع الناس، فجلس في مجلسه.
والكبر هو الذي يحمل بعض الناس على إسبال ثيابه تحت الكعبين والتبختر في مشيته، قال الله تعالى عن لقمان وهو يوصي ولده: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، ويقول : ((من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان))، وقال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، ورأى عمر رجلاً يجر إزاره خيلاء فقال: (إن للشيطان إخوانا).
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الكبر مفتاح لكل شر ومغلاق لكل خير، منه ما يكون تكبرًا على الله تعالى مثل ترك أمره والوقوع في نهيه وعدم تصديق خبره وعدم تطبيق حكمه، وهذا هو بطر الحق الذي يعني رد الحق وعدم الإذعان له وعدم الانقياد لله وعدم الاستسلام له، ومن هذا النوع تكبر النمرود الذي قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، فعاقبه الله ببعوضة تسومه سوء العذاب حتى أهلكته، وكذلك تكبر فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، وقال: ما علمت لكم من إله غيري، فعاقبه الله بالجراد والقمل والضفادع والدم ثم الغرق ثم جهنم وبئس القرار.
ومنه ما يكون تكبرًا على رسل الله، وذلك بأذيتهم والتطاول عليهم ومخالفتهم والتحذير منهم وتكذيبهم، ومن ذلك قول فرعون وقوله لهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، وقول أهل مكة: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، وقول مسعود بن عمرو بن عمير: ما وجد الله أحدًا غيرك يرسله؟!
ومنه ما يكون تكبرًا على الخلق؛ وذلك بغمطهم حقوقهم واحتقارهم والتعالي عليهم، يقول : ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)). ومن هذا تكبر إبليس الذي قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
ولنعلم ـ عباد الله ـ أن التكبر لله وحده، ولا تكون لأحد سواه كائنًا من كان، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل؛ لأنه صفة لا تليق إلا بالله، يقول تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية:37]، ويقول : ((يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في جهنم)).
والكبر كبيرة من الكبائر حرمها الله إلا في الحرب أمام الأعداء كما فعل أبو دجانة في غزوة أحد أمام الكفار، فقال : ((هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)).
وقد أعلن الله الحرب على المتكبرين فأبغضهم، قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23]. والكبر طريق إلى الضلالة وحرمان من الهداية، فهو صد عن سبيل الله واتباع لسبيل الشيطان، يقول تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]. والكبر موجب لعذاب الله وطريق إلى النار، يقول تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68]، ويقول : ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله لوجهه في النار))، وقال: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل ـ الجافي شديد الخصومة ـ جَوَّاظ ـ الجموع المنوع ـ والمختال في مشيه مستكبر))، ويقول: ((احتجت النار وقالت: فيّ المتكبرون والجبارون، قال: أنت عذابي أعذب بك من أشاء)).
والكبر حرمان لصاحبه من الجنة، يقول : ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر))، ويقول: ((من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدَّين دخل الجنة)). والكبر سبب من أسباب الخسف، فقد خسف الله بقارون الأرض؛ لأنه جحد نعمة الله، ولأنه تكبر على عباد الله وخرج على قومه في زينته، وخسف الله بالمتكبر الذي أعجبته نفسه فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة، يقول : ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)).
والكبر هلاك على الله لصاحبه حتى إذا أخذه لم يفلته، فقد كانت ناقة رسول الله العضباء لا يسبقها شيء، وفي يوم من الأيام جاء إعرابي على قعود له فسبقها بقعوده، فشق ذلك على الصحابة فقال : ((حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)).
والكبر ذل وصغار يوم القيامة، حتى إن المتكبر يأتي يوم القيامة على صورة الذرة الصغيرة، يطؤه الناس ويستذلونه ويستطرقونه؛ لأنه كان يستذلهم ويستصغرهم ويحتقرهم، والجزاء من جنس العمل، يقول : ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولَس، تعلوهم نار الأنيار، ويسقون من عصارة أهل النار طينه الخبال)).
وأضرار الكبر كثيرة جدًا، وحتى يسلم المسلم من الكبر فإنه يدفعه بأمور:
منها استحضار الآيات التي حذرت منه وبينت عاقبته أهله، والتعوذ بالله منه، فإن الله تعالى يقول: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27]، واستحضار الأحاديث التي حذرت منه أشد التحذير وتوعدت أهله بأشد الوعيد.
ومنها النظر في سير المتكبرين الذين بطروا الحق وغمطوا الناس حقوقهم وتعالوا على المخلوقين، وإمهال الله لهم ثم أخذه لهم أخذًا عزيزًا، ومن ذلك أخذه لأبي جهل الذي قالوا له: نرجع في بدر، فخرج مختالاً متكبرا وقال: والله، لا نعود حتى نرِد ماء بدر فننحر الجزور ونشرب الخمور وتضرب القينات على رؤوسنا بالطبول، قتله الله على يد شابين صغيرين ثم أجهز عليه ابن مسعود. وكذلك أحد المتكبرين الذي اعتدى على فقير وضربه قبل صلاة المغرب في رمضان، وتعالى عليه حتى أغمي على هذا المظلوم، فلما أفاق عند غروب الشمس وقت الإفطار رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم انتقم منه، وأجاب الله دعوته وأصيب هذا المتكبر بمرض السرطان في قدمه التي تعالى بها على هذا المظلوم، حتى بترت وحيل بينه وبينها.
الخطبة الثانية
ومنها أن يعلم هذا المتكبر حقيقة أمره، من أنه بشر خلق من تراب والتراب تحت القدم، ومن أنه خلق من نطفة تعافها النفوس، وأنه يحمل البول والعذرة في جوفه والرجيع في أمعائه والدم في عروقه والمخاط في أنفه واللعاب في فمه والصمغ في أذنه والعرق في إبطه، وأنه خرج من مجرى البول مرتين: مرة عند خروجه نطفة ومرة عند خروجه مولودًا، ومن هذا حاله فلا يتكبر. قال أبو بكر لرجل زاجرًا له: كيف تتكبر وقد خرجت من مجرى البول مرتين؟! وقال مطرف بن عبد الله الشخير للمهلب بن أبي صفرة لما رآه يتكبر: هذه مشية يبغضها الله. قال: ألا تعرفني؟! قال: بلى، أوَّلك نطفة قذرة، وتحمل في أحشائك العذرة، وآخرك جيفة قذرة.
ومنها أن يعود المرضى الذين فقدوا لذة الطعام ولذة الشراب ولذة المنام ولذة القعود والقيام والصحة، يئنون من شدة المرض، ولربما فارقوا بعض جوارحهم، ويزور المقابر ويرى أن أهلها محبوسون بلا عمل، وأنهم إما في حفرة من حفر النيران، وإما في روضة من رياض الجنة، ويزور الفقراء المساكين الذين أذلهم الفقر والجوع والعري، ويعرف فضل الله عليه.
ومنها البعد عن حمية أهل المكر الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والذين ينسونه الله ويقودونه إلى الهلاك ويدعونه إلى أبواب جهنم، وصحبتهم ضعف في العقل، قال محمد بن علي بن الحسين: "ما وجد الكبر عند أحد إلا ونقص عقله".
ومنها النظر في سبب التكبر؛ هل هو العلم؟ فإن موسى ذهب إلى الخضر يتعلم ثلاث مسائل، وإن الهدهد قال لسليمان: أحطت بما لم تحط به، وإن كان لنسب فإن الله أبطل موازين الجاهلية ولا ينظر إلى الأنساب، يقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ويقول : ((لينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان))، وقال للذي انتسب إلى تسعة: ((هو في النار))، وإن كان تكبره للجمال فإنه صفة النساء ومن تشبه بقوم فهو منهم، وإن كان للمال فإنه ليس للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى ولبس فأبلى وتصدق فأبقى.
ويدفع الكبر بالسجود؛ لأن الشيطان لما تكبر أبى أن يسجد، وإذا سجد ابن آدم ولى الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت أن أسجد فلم أسجد فلي النار. ويدفعه بالتواضع فإن الله قال لرسوله: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، وقال عن عباد الرحمن: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]، ويقول : ((من تواضع لله رفعه))، وقال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضع))، وخيّر بين الملك والنبوة والعبودية فاختار العبودية والنبوة.
ومنها محاسبة النفس ومنعها من جموحها وتكبرها، فلقد كان عمر يلبس الثوب المرقع وهو أمير المؤمنين، وأبو هريرة يحمل الحطب على ظهره وهو أمير المدينة، وغيرهم كثير.
| |
|