molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: المخرج من الفتن - سعد بن سعيد الحجري الثلاثاء 8 نوفمبر - 3:44:30 | |
|
المخرج من الفتن
سعد بن سعيد الحجري
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي الفضل والمنن، طهر قلوب المؤمنين من الإحن، وأعاذهم من الفتن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي سن في خلقه السنن، يعلم السر والعلن، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي تعوذ من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، صلى الله وسلم عليه كلما زاد الإيمان والثبات، وزالت الفتن والمضلات.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ [الحشر:18-20]، وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13، 14].
واعلموا أن حياة المؤمن حياة متميزة، تميزت بأنها حياة ابتلاء واختبار، عاقبتها الجنة دار القرار، محفوفة بالمكاره والمخاطر، يمر فيها المؤمن بعدة عقبات:
العقبة الأولى: دار الدنيا التي فيها العمل والزرع الشاق، وفيها اغتنام الأعمال قبل حلول الآجال.
والعقبة الثانية: دار البرزخ التي هي إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، إما أن يقول ساكنها: رب أقم الساعة لأرجع لأهلي، وإما أن يقول: رب لا تقم الساعة.
والعقبة الثالثة: دار الحشر والجزاء والحساب، وفيها تبيض الوجوه أو تسود، وفيها تخف الموازين أو تثقل، وفيها تؤخذ الكتب بالإيمان أو بالشمائل.
والعقبة الرابعة: الصراط المنصوب على قمة جهنم، أحدّ من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس عليه بقدر أعمالهم، فإما ناج أو مكدوس في نار جهنم، قال عبد الله ابن الإمام الأحمد لأبيه: متى نستريح؟ قال: نستريح إذا وضعت أول قدم في الجنة، وخلفت النار وراءك.
وكانت حياة المؤمن محفوفة بالمخاطر؛ لأنها حياة جهاد دائم وعمل صالح مستمر، يبذل فيها المؤمن جهده في الطاعة، فيسكت من فضول الكلام، ومن فضول النظر، ومن فضول السمع، ومن فضول الصحبة، ومن فضول الأكل، ومن فضول النوم، ويجاهد أعداءه الذين ضيعوا عمله وعمره.
وأول أعدائه النفس الأمارة بالسوء، يجاهدها بأربعة أمور:
بالعلم الشرعي الذي أرسل الله به رسوله ورفع درجات أهله وجعله الميراث الذي ورثه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وجعله الطريق الذي يوصل إلى الجنة، وأهله لا يشبعون منه كما في قول ابن عباس: (منهومان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم)، وجعله مانعًا لأهله من اللعنة، يقول : ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالما أو متعلمًا)). والعلم نور لأهله وحجة لهم، لا يناله إلا الأخيار الأتقياء، ويقول : ((من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)) ويقول: ((خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)).
ويجاهدها بالعمل الصالح، فإنه أمر الله لرسله عليهم السلام ولأممهم، وهو وظيفة الدنيا وحسنة الآخرة، وهو خير زاد يتزود به العبد، وخير لباس يتزين به، وهو الصديق عند الضيق، وهو الذي يضاعف الله به الحسنات، ويغفر به السيئات، ويرفع به الدرجات، وتحفظ به الأوقات، وهو الربح من الدنيا والآخرة، وهو الذي يحفظ القلوب من أمراضها والألسن من آفاتها، يفتح الله به أبواب الخير، ويغلق أبواب الشر.
ويجاهدها بالدعوة إلى الله تعالى، فإنها أمر الله لرسوله وأمره لأوليائه، وهي أحسن القول، وأهلها هم أهل الجمال، وأكثر الناس أجرًا، وأكثر المخلوقات محبة للخالق والخلق، وبذلها أولى من بذل المال، يقول : ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)).
ويجاهدها بالصبر؛ لأنه النصر على النفس وعلى الأعداء، وهو خير لجام لها وهو صفة أهل الجنة، يقول الله تعالى: وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ [سورة العصر].
وثاني أعدائه الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، والذي وقف للإنسان بكل طريق، وأتاه من كل جهة، وأقسم أن يغويه، وطلب الإنظار إلى يوم الدين ليواصل الحرب للإنسان، وليضله عن سواء السبيل، عداوته ظاهرة بينة، يدعو إلى المعصية، ويحذر من الطاعة، لا يزال مع الإنسان حتى الموت، فإما أن يسلسل الإنسان، وإما أن يسلسله الإنسان، إما أن ينتصر على الإنسان، وإما أن ينتصر عليه الإنسان، ويجاهد بشيئين: باليقين لتدفَع الشبهات والوساوس عن الإنسان، وبالصبر لتدفع الشهوات، وبهذين السلاحين تنال الإمامة في الدين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِـئَايَـٰتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
وثالث الأعداء أهل الفسق والعصيان الذين كثرت سيئاتهم وقلت حسناتهم، وزادت منكراتهم وقلت مراقبتهم لربهم، غلّبوا الرجاء على الخوف، فأمِنوا مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون، ومن أمن في الدنيا أخافه الله يوم القيامة خوفًا لا ينقطع، واعتمدوا على نصوص الترغيب وأعرضوا عن نصوص الترهيب، فاستحوذ عليهم الشيطان حتى أنساهم ذكر الله، أُوْلَـئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـٰنِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـٰنِ هُمُ الخَـٰسِرُونَ [المجادلة:19].
ويجاهد هؤلاء بثلاثة أمور: باليد لإنكار منكرهم ورد باطلهم، وهذه المرتبة لأهل الولاية العامة من الولاة والحكام، ولأهل الولاية الخاصة كالآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات ونحوهم والأسياد والمعلمين ونحوهم، ويجاهَدون باللسان، وهذه المرتبة للعلماء والدعاة الذين يبلغون رسالة الله ويرثون رسل الله، فإن المواعظ للقلوب كالسياط للأبدان، وإن القلوب لا تفتح إلا بالمواعظ، ولا توصل إلا بها، ولا تذرف العيون إلا بها، ولا تقشعر الأبدان إلا بها، ويجاهَدون بالقلوب ببغضهم وعدم محبتهم وعدم الرضا بفعلهم وعدم القعود معهم، فهذا الحب في الله والبغض في الله، يقول : ((من رأى منكم منكرًا فلْيغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
والعدو الرابع هم الكفار من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين وغيرهم، ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وممن أفسدوا في الأرض ولم يصلحوا، وممن نشروا الرذائل وحاربوا الفضائل، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، وجهادهم بأربعة أشياء: بالقلب، نبغضهم ولا نحبهم، ونتقرب إلى الله بكرههم، وباللسان نحذِّر منهم ونبين عداوتهم، وندعو عليهم، وبالمال نبذله في حربهم، وبالنفس في قتلهم وتشريدهم.
وكانت حياة المسلم محفوفة بالمكاره والمخاطر؛ لأن الحياة مليئة بالفتن، وبسدّ هذه الأبواب الأربعة يسلم الإنسان من الفتن التي تفسد على الإنسان دينه ودنياه، وما نراه من كثرة الفتن في القلوب، حتى أظلمت وانتكست، ومن الألسن حتى استحقت غضب الله واستوجبت النار وبئس القرار، وفي الأبصار حتى أفسدت الأعمال الصالحة، وفي الأسماع حتى طمست الفطرة السليمة، وفي الجوارح كلها بترك أوامر الله والوقوع في نهيه، وفتن في الأموال ب+بها من الحرام وإمساكها عن حقوقها، وفتن في الأولاد بانحرافهم وضلالهم واتباعهم لخطوات الشيطان، وفتن في المجتمع كله بانتشار المنكرات وكثرة الاعتداءات وتسابقهم في المنكرات، ويوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، وفتن في البيوت بجلب وسائل الدمار التي دمرت الرجال والصبيان والنساء، ودمرت الأخلاق والحياء والآداب، وخرب الناس بها بيوتهم بأيديهم، وفتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي.
وإن أشد الفتن أن يقوم الأعداء بتشكيك المسلم في دينه، ويزهدونه فيه، ويصفونه بأوصاف لا تليق، ولا يزالون به حتى يردوه عن دينه إن استطاعوا، ويدعونه إلى نقض عرى الإسلام عروة عروة، وإلى خلع الإسلام من عنقه، قال تعالى عن فتنة هؤلاء الأعداء: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217], ويقول: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف:8].
وفتنة الإنسان في دينه هي أشد الفتن؛ لأنها تضيّع الدنيا والآخرة، وتجعل الإنسان كالحيوان، لا همّ له إلا بطنه وفرجه، وتخرج الإنسان من النور إلى الظلام، ومن الهداية إلى الضلالة، ومن الحياة إلى الموت، ومن النعيم إلى الحميم، ومن السعادة إلى الشقاء، ومن عبادة رب العباد إلى عبادة العباد، ومن عدل الإسلام إلى جور الأديان، ومن سعة الدنيا إلى ضيقها، والسعيد من سلم من الفتن، يقول : ((إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن)).
والفتن تعرض على القلوب؛ لأن افتتانها افتتان للجسد كلّه، وسلامتها سلامة للبدن كله، يقول : ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشْربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أَنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشْرب من هواه)).
ولنعلم ـ عباد الله ـ أن المخرج من هذه الفتن عدة أمور:
الأمر الأول: الاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بهما، فإنهما حِفظٌ لمن تمسك بهما، والتمسك بهما يقتضي قراءتهما والعمل بهما والتحاكم إليهما وتقديمهما على كل كتاب وعلى كل قراءة وإشغال المجالس بهما وتذكير الناس بهما، فإنهما مصدرا الشريعة، وهما حبل الله القويم وصراطه المستقيم، من تمسك بهما رشد، ومن تركهما ضل، يقول تعالى: فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ [طه:123]، ويقول: إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، ويقول : ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)).
والأمر الثاني: كثرة العبادة لله الواحد القهار، فإنها اتصال دائم بالله، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وهي وظيفة الإنسان في الدنيا، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهي حق الله على العبيد، قال لمعاذ: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)).
والعبادة دوام للتوبة، ودوام للطاعة، وحفظ من الشيطان، ومضاعفة للحسنات، ومغفرة للسيئات، ورفعة في الدرجات، وحفظ للأوقات، يقول تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ [يس:60-62]، ويقول : ((العبادة في الهرج كهجرة إليّ))، والمراد بالهرج الفتنة واشتغال الناس بها، فالعبادة تشغل عن الفتنة وتسد أبوابها.
الأمر الثالث: الاستعاذة بالله تعالى والالتجاء إليه والتحصن به وتفويض الأمور إليه والتوكل عليه؛ لأنه الذي يفعل ما يريد، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون، وهو الذي له الأمر من قبل ومن بعد، وهو الذي له مقاليد السماوات والأرض، وهو الذي كل شيء بأمره، وقد وعد تعالى أولياءه بإعاذتهم إذا استعاذوه، يقول تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)). وقد كان يتعوذ بالله من الفتن فيقول: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)), وكان يقول: ((وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات)), ويقول: ((وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)).
الأمر الرابع: الصبر على طاعة الله والمداومة عليها وعدم الملل، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن الطاعة باب حصين يتحصن بها العبد من الفتن، وهي رضوان الله الذي يكتب به رضوانه إلى يوم القيامة، وهي حفظه الذي يحفظ بها عبده، وهي النور في القلب والبياض في الوجه والصبر عن المعصية؛ لأنها طريق إلى النار، وخطوة من خطوات الشيطان، ونافذة من نوافذ الهلاك، والصبر عن المعصية أهون من الصبر على النار، والصبر على أقدار الله التي قدرها على العبد من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، يقول تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، ويقول : ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)).
وقد أمرنا الله بالاستعانة بالصبر يقول تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [البقرة:153]، ومن حديث خباب بن الأرت قال له لما شكا فتنة الأذى: ((لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)) رواه البخاري.
الأمر الخامس: الثبات على دين الله، وذلك بالاستقامة على التوحيد وعلى الأمر وعلى الإخلاص وعلى العمل الصالح وعلى الدعاء الدائم: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وأمر الاستقامة عظيم، لكثرة الفتن وضعف الإيمان، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، والرجل يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، وقد أمر الله رسوله بالاستقامة فقال: فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، وأمر بها عباده المؤمنين فقال: فَٱسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6]، وقد قال عليه الصلاة والسلام لسفيان الثقفي: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)).
الأمر السادس: الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف الصالح، فإنهم خير القرون، وهم أسلم الناس من الأهواء، وأبعدهم عن الشهوات والشبهات، وهم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, يقول : ((فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)), وقال: ((وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة))، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)).
وقد ورد أن ابن حذافة أسر عند الروم، وأرادوا فتنته عن دينه فأبى، وأرادوا حرقه فأبى إلا الإسلام، فأطلق هو ومن معه، وآخر أسر عند الروم فقيل له: إما أن تتنصر وإما سُحِلت عيناك، قال: تُسحل عيناي ولا أضيع ديني.
الأمر السابع: الفرار من الفتن بسلامة القلب منها، وسلامة الأبصار منها، وسلامة الأسماع منها، وسلامة الجوارح منها، وسلامة البيوت منها، وسلامة الأولاد منها، وترحيل الفتن من الجوارح، وترحيلها من البيوت، ومن المجتمع، وتطهير الجوارح لتبقى على الفطرة، وتطهير البيوت لتشتغل بالقرآن والسنة والمواعظ وكل خير، وتطهير المجتمع ليبقى كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد، وفي الحديث أن رجلاً قتل مائة نفس، فأرشد إلى الفرار من بلد الفتنة، فصلحت أحواله وتاب الله عليه، فهلا هرب الصادقون من الفتن، وهلا طهروا منها الأنفس والأولاد والبيوت والمجتمعات...
الخطبة الثانية
لم ترد.
| |
|