molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: صلاح القلب - حسين بن حسن أحمد الفيفي الإثنين 31 أكتوبر - 6:00:16 | |
|
صلاح القلب
حسين بن حسن أحمد الفيفي
الخطبة الأولى
عباد الله، إن للصلاة والعبادة والقرآن والذكر وقعا خاصا في النفوس ولذة لا يشعر بها إلا من قويت صلته بالله سبحانه وحضر قلبه وسكنت جوارحه لمولاه، فبذلك تنشرح الصدور وتحيا القلوب، فيعيش المسلم في راحة نفسية وسعادة لا يعدلها سعادة، قال سبحانه: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه: 123، 124]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تكفل الله لمن اتبع هداه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة)، وروي عنه أنه قال: (أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة).
وصلاح القلب يحصل بالتجرد من كل الحظوظ الدنيوية وعدم التفكير وإشغال الذهن بأي أمر من أمور الدنيا، وأن يصرف همه كله لله وحده والإقبال عليه، وذلك إنما يتم بالمجاهدة، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
قال ثابت البناني رحمه الله: "جاهدت نفسي بالصلاة عشرين عامًا حتى استقامت، ثم تلذذت بها عشرين عامًا، والله إني لأدخل في الصلاة وأنا أحمل هم خروجي منها". فبالمجاهدة يتم المقصود وتصبح الصلاة قرة عين لصاحبها كما كانت قرة عين للمصطفى ، وبالمداومة على مجاهدة النفس يصلح القلب ويستقيم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فإذا صلح القلب أصبحت سعادته وراحته في الصلاة، كما كان يقول : ((أرحنا بالصلاة يا بلال)).
ولأهمية القلب سنذكر أمراض القلوب ومفسدات القلب وأقسام القلوب وعلامات صلاح القلب وأسبابها؛ لأن القلب إذا كان سليما من المفسدات واجتمعت فيه علامات الصلاح استطاع صاحبه أن يخشع في صلاته، فالقلب هو أشرف شيء في الإنسان، وبحياته حياة البدن، وبموته موت البدن، ولهذه الأهمية العظيمة للقلب جاءت النصوص الشرعية الكثيرة بذكره والتنويه بمكانته، قال سبحانه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37]، وقال سبحانه: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]، وقال سبحانه: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب: 5].
وقال في الحديث الذي يرويه النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري. فصلاح العمل مرتبط بصلاح القلب؛ لأن الإيمان قول وعمل ونية، وصلاح الباطن يؤثر في صلاح الظاهر، وكلما ازداد صلاح الباطن كان ذلك زيادة في صلاح الظاهر.
ومما يدل على هذا الترابط حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما السابق، وأيضًا قوله : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "فالقوم إذا صلحت قلوبهم فلم يبق فيها إرادة لغير الله عز وجل صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله عز وجل وبما فيه رضاه".
وأمراض القلوب نوعان:
النوع الأول: أمراض شبهات، وهي أشد النوعين، ويدخل فيها جميع الاعتقادات الباطلة من شرك ونفاق، قال سبحانه عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10].
النوع الثاني: أمراض شهوات، ويدخل فيها أنواع العمل بخلاف الاعتقاد، ومن أمثلة ذلك الحسد والغل والبخل والحقد وشهوة الزنا والنظر الحرام، قال سبحانه: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32].
وصلاح القلب يحصل بإبعاده عن كل ما يفسده، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن مفسداته تنقسم إلى أربعة أقسام، وهي:
أولاً: التعلق بغير الله تبارك وتعالى، وهذا من أعظم المفسدات على الإطلاق، فإذا تعلق بغير الله سبحانه وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره، قال سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82]، ويدخل في ذلك الرياء وحب السمعة وحب الرياسة والعجب وغيرها من مفسدات القلب.
ثانيًا: ركوب بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس الناس، وكما قيل: إن الأماني رأس أموال المفاليس، وبضاعتهم مواعيد الشيطان وخيالات المال. وهذا المفسد هو مما ابتلي به كثير من الناس اليوم، خاصة بعد انفتاح الدنيا على الناس، حتى أصبحت أكبر هم كثير منهم، فأصبح المصلي يدخل في صلاته ثم يفتح المشاريع التجارية والصفقات حتى لا يدري كم صلى، يصلي ببدنه فقط، أما قلبه فقد انشغل بالأماني والخيالات.
ثالثًا: الطعام. والمفسد منه نوعان:
الأول: ما يفسد لعينه، وذلك كالمحرمات وهي نوعان: محرم لحق الله سبحانه كالميتة والدم ولحم الخنزير وذي الناب من السباع والمخلب الطير، ومحرم لحق العباد كالمسروق والمغصوب والمنهوب وما أخذ بغير رضا صاحبه.
والثاني: ما يفسد القلب بالإسراف فيه وتعدي قدره وحدوده، كالشبع المفرط فهو يثقل عن الطاعات ويشغل بمزاولة مؤونة البطن.
رابعًا: كثرة النوم فإنه يميت القلب ويثقل البدن ويضيع الوقت ويورث الغفلة وال+ل.
ومن النوم المكروه عند العارفين النوم ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت لطلب الرزق ولطلب العلم، فإن الرسول دعا الله أن يبارك لأمته في بكورها. وأيضًا النوم بعد صلاة العصر فإنه من النوم المكروه الذي قد ورد النهي عنه.
ومن النوم الذي لا ينفع النوم أول الليل ـ قبل صلاة العشاء ـ عقب غروب الشمس، فقد كان النبي يكرهه، فهو مكروه شرعًا وطبعًا.
وقد يزاد على كلام ابن القيم رحمه الله أن من مفسدات القلب حب الدنيا، فإذا استولت الدنيا وحبها على قلب عبد أفسدته. قال يحيى بن معاذ: "مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة".
وإذا فرغ العبد قلبه لطاعة مولاه وجعل همه لله وحده أتته الدنيا وهي راغمة، قال : ((من أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، وكان الله بكل خير له أسرع)) رواه الترمذي من حديث أنس.
عباد الله، وأقسام القلوب ثلاثة:
أولاً: القلب الميت، وهو القلب الخالي من الإيمان وجميع الخير، فهو لا يعرف ربه ولا يعبده، إنما يتبع هواه وشهواته مع غفلة شديدة عن مراد ربه منه، وهذا قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها! قال: وما يفعل الشيطان بالبيت الخراب؟!
الثاني: القلب المريض، وهو قلب فيه حياة وبه علة، ففيه محبة لله عز وجل وإيمان به، وفيه بالمقابل محبة لشهواته وإيثار لها وحرص على تحصيلها، فربما غلب عليه المرض فالتحق بصاحب القلب الميت، وربما غلبت عليه الصحة فالتحق بصاحب القلب السليم، فللشيطان عليه إقبال وإدبار وبينه وبين الشيطان سجال.
الثالث: القلب الصحيح السليم، وهو قلب محشو بالإيمان ومليء بالنور الإيماني، وقد انقشعت عنه حجب الهوى والشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، مليء بالإشراق، فقد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فهو يقابل خبر الله سبحانه وخبر رسوله بالتسليم، ولا يعارضه كما يفعل أهل الشبه والبدع والزيغ والضلال. ذلك هو قلب المؤمن الصادق المخلص، لو اقترب منه الشيطان لأحرقه، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منه الشيطان لرجم واحترق، فليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، فقلب المؤمن هو مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان، وفيه أنوار الإيمان، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئا إلا خطفة. وهذا الذي ينجو يوم القيامة، قال سبحانه وتعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 87-89].
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
عباد الله، ومن علامات صلاح القلب وأسبابها توحيد الله تعالى والإيمان به وتجديد ذلك، والعمل بالفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده، فهذه الأمور رأس حياة القلوب وسعادتها.
التضرع إلى الله تعالى واللجوء إليه ودعاؤه بأن يرزقك الله قلبًا سليمًا، قال الله تعالى مخبرًا عن دعاء الراسخين في العلم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران: 8]، وكان من دعاء النبي : ((اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم، وكان من دعائه أيضًا: ((وأسألك قلبًا سليمًا)).
كثرة ذكر الله ومراقبته والتفكر في آلائه ومخلوقاته، قال سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] أي: يسعد وترتاح.
تدبر القرآن والنظر في معانيه والعمل بما جاء فيه، قال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24].
ترك الذنوب فإن الذنوب تميت القلوب وبتركها حياة القلوب، قال سبحانه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]. قال ابن المبارك رحمه الله تعالى:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يـورث الذل إدمانهـا
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسـك عصيـانُها
الاهتمام بتصحيح الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
التألم والتحسر على فوات الطاعة أشد من تحسر المرء على فوات حظه من الدنيا.
الاهتمام الكبير بشأن الآخرة والإقبال عليها وتذكرها والاستعداد لها.
زيارة المرضى والمقابر، فإنها تذكر الآخرة وتحيي القلب وتذكر نعمة الله تعالى على الإنسان.
وصلاح القلب وإقباله على الله سبحانه يجعل العبد يقبل على صلاته بخشوع وخضوع. ومما يعين العبد على الإقبال على سبحانه في صلاته علمه بأنه ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، وإلا فكيف يقبل الله من قلب ساه لاه؟! قال : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب ساه لاه)) رواه الترمذي (3401) وصححه الحاكم. قال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى: "إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة". فاعرف نفسك يا عبد الله، واحذر أن تلقى الله عز وجل ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك.
وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي الخراب من ذلك، فينبغي للعبد إذا وقف بين يدي الله في الصلاة أن يقف بقلب مخبت خاشع له قريب منه، سليم من معارضات السوء، قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة، وسطع فيه نور الإيمان، وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات، فيرتع في رياض معاني القرآن، ويخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم، وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله، فاجتمع همه على الله، وقرت عينه به وأحس بقربه من الله قربا لا نظير له، ففرغ قلبه له، وأقبل عليه بكليته، وهذا الإقبال منه بين إقبالين من ربه، فإنه سبحانه قد أقبل عليه أولا فانجذب قلبه إليه بإقباله، فلما أقبل على ربه حظي منه بإقبال آخر أتم من الأول.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
| |
|