molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: اتباع الهوى - حسام الدين خليل فرج السبت 29 أكتوبر - 7:23:09 | |
|
اتباع الهوى
حسام الدين خليل فرج
الخطبة الأولى
أخي الحبيب، حديثي إليك عن أخطر أوثان العصر، بل وكل عصر، إلا أنه في عصرنا ظهر في أمتنا ظهورًا لم يسبق له مثيل، فأعلامه مرفوعة، وشاراته منشورة، وعلاماته بارزة، وعُبّاده وفرة، وكهانه كثرة، إنه الهوى، وما أدراك ما الهوى، كم فيه من هائمين، وكم عليه من عاكفين.
قال تعالى: أَرَءيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43]، وقال: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
أرأيت؟! فإن حاله عجيب، يستحق العجب والتعجب، إنه لا يهوى شيئًا إلا ركبه، ولا يتمنى شيئا إلا فعله، فلا يحرم ما حرم الله سبحانه، ولا يحلّ ما أحلّ، بل واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه سبحانه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته رضي ربه سبحانه أم سخط، إن أحبّ أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده وأحبُّ إليه من رضا مولاه؛ ولذا جعل الله متبع هواه في مخالفته بمنزلة عابد وثن، وسمى ذلك الهوى المتَّبع إلهًا.
والناظر بعين البصيرة إلى واقع المسلمين يرى أن هذا الداء قد استشرى في واقعهم، يتعذبون به، ويتلوعون بمراراته، ويكتوون بحرارته، ولا نزال في كل وقت نجني من ثماره المرة ونتائجه الخبيثة.
ففي محراب الهوى أضاع كثير من المسلمين ـ ولا سيما الشباب ـ الصلوات، وارتكبوا المنكرات، واتبعوا الشهوات، واقترفوا العظائم؛ خمور ومخدرات، تفحيط ومغامرات، سهر في الليل على الحرام، ودوران في سواقي الدنيا بالنهار، رقص ومجون ومعازف، وكرة وخلاعة، ذهول عن مصائب الأمة.
وَقِرَت آذانُهم فلم تعد تسمع صرخات المسلمين في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان الجريحة وفي كشمير وفي إندونيسيا في الفلبين وفي بورما، وغيرها كثير. سَكِرت قلوبهم بالهوى حتى غدت كالأكواز المُجَخِّيَة، لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرًا إلا ما أُشْرِب من هواها.
تهتز تحت أقدامهم المدرجات في ملاعب الكرة، فيرقص اليهود والنصارى طربًا على تلك الأمة التي تخادَع وتُلهى عن قضاياها، أو تراهم وقد هاموا في سماع أغنية ساقطة، أو ترى نساء ممن أسقطن الحجاب يهمهنّ من نظر إليهن، مَن أعجب بهنّ، وتنزلق وهي لا تدري أو تدري، قال فيهم : ((ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.
هؤلاء لم يترك الهوى عيونهم ترى أبعَد من أنوفهم، وإلا لما كان هذا حالهم والأمة الإسلامية تئن من الآلام وتنزف من الجراح، قال النبي : ((ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) رواه أبو داود وصححه الألباني (3843).
رأينا هذه الأهواء كيف تتجارى بأصحابها، فأملهم بعيد، وتسويفهم طويل، لا يعرفون للتوبة بابًا وللعودة طريقًا، ساهون غافلون، مشغولون بالدنيا وزخارفها، يبيع أحدهم دينه بعَرَض حقير منها، يهيَّأ له وكأنه سيعيش أبد الدهر، غفلوا عن الله وذكره وعبادته، وعن الموت وسكرته، وعن القبر وظلمته، وعن الحساب وشدته.
ساروا وراء ما تهوى النفوس وتشتهي من غير تحكيم العقل أو رجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة، فالمتبع لهواه يرى المعصية بعين الحُسن كما يرى اللّصّ لذة أخذ المال من المسروق، ولا يرى بعين فِكره القَطع.
وهذا الذي خشيه النبي علينا، عن أبي برزة عن النبي قال: ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى)) رواه أحمد.
فتذكر ـ أخي بارك الله فيك ـ عندما تتجرأ على معصيته سبحانه على علم, وعندما تغلب الشهوة على الإرادة، ويطغي الهوى على التقوى، أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.
إنه يُخشىَ والله على من اتبع هواه أن يُسلب الإيمان وهو لا يشعر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) قال النووي:" رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح".
قال ابن رجب: "هذا الحديث كقوله سبحانه وتعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]".
وتحت اتباع الهوى كل مكروه وسوء، كما قال تعالى: إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِٱلسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ [يوسف:53]، وهي تأمر صاحبها بما تهوى.
قال ابن عباس: (ما ذَكر الله هوى في القرآن إلا ذمّه، قال الله تعالى: وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ [الأعراف:176]، وقال تعالى: وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ [القصص:50])، قال أبو عثمان النيسابوري: "من أَمَّر السُّنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ [النور:54]".
وقال : ((ثلاث مهلكات))، فذكر منهن: ((هوى متبع)) أخرجه البزار والطبراني في الأوسط وهو في السلسلة الصحيحة (1802).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في خطبته: (أفلح منكم من حُفِظَ من الهوى) رواه البيهقي، وقال الشعبي: "إنما سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه".
ولذا فإن اتباع الهوى هو الذي جرَّع أمتنا غُصصَ الهوان، ونتساءل: كيف رضيت الأمة بالدَّنية في دينها؟!
سؤال يتردد في كل مكان وفي كل حين، نقرؤه في العيون الحائرة والقلوب الملهوفة، في العبرات، في الآهات، في الدماء والجراح، وفيما نراه منقوشا على صفحات الوجوه. والجواب: إنه اتباع الهوى وحبّ الدنيا.
لكي تهزم عقيدة فإنك تحتاج إلى عقيدة، ما هي عقيدتنا نحن؟! الأَثَرة الفردية، اتباع الشهوات، طلب الملذات، الحياة الرغيدة، كلها أهواء. يقول بعضهم عند مناصحته على معصية: أنا حرّ في تصرفاتي، نقول: لست حرًا في معصية الله، بل إذا عصيت ربك فقد خرجتَ من عبودية الله إلى عبودية الشيطان والهوى.
حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى جاءت أمور لا تطاق كِبار
كم أوقع الهوَى في رذائل، وكم فوّت من فضائل، وكم ن+ من رأس، وكم ألزم من عار، بل كم زحزح عن الملّة وأخرج عن حياض الدين.
وهذا جميل بن معمر مجنون بثينة يقول لمن أمره بالجهاد:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة قلت: وأي جهاد غيرهن أريد
فلكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيـل عندهن شهيـد
حذرنا الله سبحانه من اتباع الهوى لأن اتباع الهوى مانع من اتباع الهدى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ [القصص:50]، ولأن اتباع الهوى يفسد العالم: وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَـٰهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ [المؤمنون:71]، ولأن اتباع الهوى سبب كفر من سبقنا من الأمم، فهو سبب كفر اليهود: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَـٰتِ وَأَيَّدْنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، وهو سبب كفر النصارى: قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ [المائدة:77]، وهو أيضا سبب كفر المشركين: وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ [القمر:3]، ولأن متبع الهوى يضلّ عن سبيل الله، قال عز وجل: وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ [ص:26]، ولأن متبع الهوى يُزيَّنُ له سوء عمله: أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد:14]، لأن متبع الهوى ظالم: بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ [الروم:29]، ولأن متبع الهوى قلبُه قاسٍ أسود، قال رسول الله : ((وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) رواه مسلم وأحمد، ولأن متبع هواه مَثَلُه في الذلة والهوان كمثل الكلب: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـثَايَـٰتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [لأعراف:176]، ولأن اتباع الهوى يمنع الفهم النافع: وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءانِفًا أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد:16]، ولأن المتبع هواه عاجز، عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" وضعف إسناده الألباني. قال الترمذي وغيره من العلماء: معنى ((دان نفسه)) أي: حاسبها.
وفي أساليب ترويض الهوى يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص56): "وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً لأنه قُهِر، بخلاف من غلَب الهوى فإنه يكون قويَّ القلب عزيزًا لأنه قهر هواه".
ذكر ابن كثير وغيره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشًا لحرب الروم، وكان من ضمن هذا الجيش شاب من الصحابة هو عبد الله بن حُذافة رضي الله عنه، وطال القتال بين المسلمين والروم، وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين وجرأتهم على الموت، فأمر أن يُحضَر إليه أسير من المسلمين، فجاؤوا بعبد الله بن حذافة يجرّونه، الأغلال في يديه، والقيود في قدميه، فأوقفوه أمام الملك، فتحدث قيصر معه فأُعجِب بذكائه وفطنته، فقال له: تنصَّرْ وأطلِقك من الأسر، فقال عبد الله: لا، فقال قيصر: تنصّرْ وأعطِك نصف ملكي، فقال: لا، فقال: تنصر وأعطك نصف ملكي وأشركك في الحكم معي، فقال عبد الله: والله لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وملك العرب والعجم على أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت، فغضب قيصر وقال: إذًا أقتلك، قال: اقتلني، فأمر قيصر به فسُحِب وعُلِّق على خشبة، وجاء قيصر وأمر الرماة أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه، وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية وهو يأبى وينتظر الموت، فلما رأى قيصر إصراره أمر أن يمضوا به إلى الحبس.
ثم أُوقف عبد الله بن حذافة أمام قِدر، وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثّقًا بالقيود، حتى ألقوه في هذا الزيت وغاب جسده في الزيت ومات، وطفت عظامه تتقلّب فوق الزيت، وعبد الله ينظر إلى العظام، فالتفت قيصر إلى عبد الله وعرض عليه النصرانية فأبى، فاشتد غضب قيصر وأمر بطرحه في القِدر، فلما جروه إلى القدر وشعر بحرارة النار بكى ودمعت عيناه، ففرح قيصر وقال: تتنصر وأعطِك وأمنحك، قال: لا، قال: إذًا لماذا بكيت؟! فقال عبد الله: أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القِدر فتموت، ولقد ودِدت والله أن لي مائة نفس كلّها تموت في سبيل الله مثل هذه الموتة، فقال له قيصر: قبِّل رأسي وأخَلِّي عنك، فقال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين عندك؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه ثم أطلقه مع الأسرى.
عجبًا! لله دره، أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات؟! وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن من المسلمين اليوم من يتنازل عن دينه لأجل دراهم معدودات أو تتبّع الشهوات أو الولوغ في الملذّات، ثم يختَم له بالسوء والعياذ بالله من ذلك.
ومن أساليب ترويض الهوى خوف الله تعالى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ [النازعـات:40، 41]، قال إبراهيم بن أدهم: "الهوى يُردي، وخوف الله يشفي، واعلم أنَّ ما يزيل عن قلبك هواك أن تخاف من تعلَم أنه يراك" رواه البيهقي في شعب الإيمان (876).
إذا ما خلوتَ بريبةٍ في ظلمـةٍ والنفسُ داعيةُ إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلامَ يراني
ومن أساليب ترويض الهوى مجاهدة النفس، فإن النفس البشرية كالطفل تمامًا، إن أدبتها وهذبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت.
والنفس كالطفل إن تهملْه شبّ على حبّ الرضاع وإن تَفْطِمْه ينفطم
قال سهل بن عبد الله: "هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك"، وقال وهب: "إذا شككت في أمرين ولم تدرِ خَيْرَهما فانظرْ أبعدهما من هواك فأتِهِ".
وجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد، أي الجهاد أفضل؟ قال: "جهادك هواك"، قال ابن القيم: وسمعت شيخنا يقول: "جهاد النفس".
والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، حتى يخرج إليهم من جاهد نفسه في الله. وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عن الجهاد: (ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزُها).
فأين أنت من قوله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]؟! وأين أنت من قوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ [غافر:19]؟! وأين أنت من قوله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ [التحريم:6]؟! وأين أنت من قوله تعالى: إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، وأين أنت من قوله تعالى: وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَاء ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ [المؤمنون:5-7]؟! وأين أنت من قوله : ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم؟! أين أنت من قوله : ((ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء)) متفق عليه؟! وأين أنت من قوله : ((العينان تزنيان وزناهما النظر)) متفق عليه؟!
ومن أساليب ترويض الهوى التفكّر في العواقب، قال ابن الجوزي في فصل البعد عن أسباب الفتنة (126): "من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمّل عواقبها وعقابها وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل فلم يلتفت إلى ما قيل له كان مثله في سوء اختياره كالمثل المضروب أن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غيّر اسمي فإنه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم، قال: فجربني، فأعطاه شِقَّة لحم، وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغيّر اسمك، فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر، فلما غلبته نفسه قال: وأيّ شيء باسمي؟ وما كلب إلا اسم حسَن، فأكل. وهكذا الخسيس الهمة القنوع بأقلّ المنازل المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل".
والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، فبالله عليكم ـ يا إخواني ـ تأملوا حاله لو كان وافق هواه من كان يكون؟! ومن تأمل ذل إخوة يوسف يوم قالوا: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88] عرف شؤم الزلل.
ومن أساليب ترويض الهوى قصر الأمل، قال الله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3]، وقال علي رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)، وكان الحسن يقول: "ابن آدم، السكين تُشحذ والتنور تُسجّر والكبش يُعتلف"، يريد: لعلك في غفلتك كهذا الكبش الذي يُعتلف وقد حان وقت ذبحه وسلخه وهو لا يشعر، فالسكين تشحَذ، والتنور تسجر، والكبش يعتلف.
العاقل من جعل ساعة موته نصب عينيه، فكان كالأسير لها، كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح يقول لامرأته: "إذا متّ اليوم ففلان يغسّلني، وفلان يحملني"، وقال معروف لرجل: صلِّ بنا الظهر، فقال: إن صليت بكم الظهر لم أصلِّ بكم العصر؟! فقال: وكأنك تؤمّل أن تعيش إلى العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.
ومن أساليب ترويض الهوى ذكر الموت، فالموت لا يفرّق بين كبير وصغير، ولا غني وفقير، ولا عبد وأمير. هارون الرشيد ذاك الذي ملك الأرض وملأها جنودًا، ذاك الذي كان يرفع رأسه فيقول للسّحابة: أمطري في الهند أو في الصين أو حيث شئت، فوالله ما تمطرين في أرض إلا وهي تحت ملكي، هارون الرشيد خرج يومًا في رحلة صيدٍ فمرّ برجل يقال له: بُهلول، فقال هارون: عظني يا بُهلول، قال: يا أمير المؤمنين، أين آباؤك وأجدادك؟! قال هارون: ماتوا، قال: فأين قصورهم؟! قال: تلك قصورهم، قال: وأين قبورهم؟! قال: هذه قبورهم، فقال بُهلول: تلك قصورهم وهذه قبورهم، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم؟! فلما مات هارون أُخذ هذا الخليفة الذي ملك الدنيا وأودع حفرة ضيقة، لم يصاحبْه فيها وزراؤه، ولم يساكنْه ندماؤه، لم يدفنوا معه طعامًا، ولم يفرشوا له فراشًا، ما أغنى عنه ملكه وماله.
بـاتوا على قلل الأجبال تَحرسهم غلب الرجـال فما أغنتهم القلل
واستنـزلوا بعد عز من معـاقلهم فأودعوا حفرًا يـا بئس مـا نزلوا
ناداهم صارخ من بعد مـا قبروا: أين الأسـرَّة والتيجـان والحُلل؟
أين الوجـوه التـي كانت منعمة من دونها تضرب الأستار والكلل؟
فأفصح القبر عنهم حين سـاءلهم: تلك الوجوه عليهـا الدود يقتتل
قد طـال ما أكلوا دهرًا وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلُوا
وطـالما كنـزوا الأموال وادَّخروا فخلفوها علـى الأعداء وارتَحلوا
وطـالَما شيّـدوا دورًا لتحصنهم ففـارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
ومن أساليب ترويض الهوى معرفة قدر الآخرة وقدر الدنيا، روى عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله مر بشاة ميتة قد ألقاها أهلها فقال: ((والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها)). وكان بعضهم يقول في صفة الدنيا: "أولها عَناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب". فلْيُتَّعَظْ ولْيصبِر عن المشتَهى، فالأيام قلائل.
يا نفس ما هي إلا صبر أيام كأنّ مدتها أضغاث أحلام
الدنيا فخ والناس كالعصافير، والعصفور يريد الحبّة وينسى الفخّ.
هذا وإن الدنيا لو صفَت للعبد من أوّل عمره إلى آخره لكانت +حابة صيف تتقشّع عن قليل، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
ومن فسح لنفسه في اتباع الهوى ضُيِّقَ عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وُسِّعَ عليها في قبره ومعاده، وقد أشار الله تعالى إلى هذا في قوله تعالى: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، فلما كان في الصبر الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة. ولو تفكرت النفوس فيما بين يديها وتذكرت حسابها فيما لها وما عليها لهان عليها مخالفة هواها.
فيا عبد الله، احذر النار، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء واحد من سبعين جزءًا من حر جهنم))، وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يجرونها)) رواه مسلم، وفي الحديث: ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جدله مسيرة ثلاث))، وروى الزُّهري عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم، فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه، فيلهب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان))، وقال أبو موسى: "أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع، ثم يبكون الدماء حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت".
الخطبة الثانية
لم ترد.
| |
|