molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: وقفات مع عباد الرحمن - أمير بن محمد المدري الخميس 27 أكتوبر - 5:41:31 | |
|
وقفات مع عباد الرحمن
أمير بن محمد المدري
الخطبة الأولى
ثم أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
عباد الله، يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 63-66].
هذه لوحة قرآنية رسمت فيها صفات عباد الرحمن، وضّح الله فيها معالمهم وصفاتهم، وجعلهم أنموذجًا يقتدَى بهم ويتأسّى بهم. وعباد الرحمن هم المنسوبون إلى الله وحده، فكما أن هناك عبادًا للشيطان وللطاغوت وللشهوات، فإن هناك عبادًا لله، وكما أن هناك عبادًا للدنيا والنساء، فإن هناك عبيدًا لله وحده.
هؤلاء العباد الذين يئس الشيطان من أن يغويَهم أو يجد منفذًا للسيطرة عليهم، فقد أقسم كما قال جل وعلا: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83]، وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42].
عباد الرحمن نسبهم الله إلى ذاته: عباد الرحمن، إنه الرحمن الذي علم أنهم أهل لرحمته، وأن رحمته تحيطهم عن يمينٍِ وشمال ومن فوقهم ومن تحتهم.
أخي الحبيب، يا عبد الله، أتريد أن تكون من عباد الرحمن؟ أتريد أن تنتسب إلى الله عز وجل؟ أتريد أن تكون واحدًا من هؤلاء؟ ما عليك إلا أن تتصف بصفات عباد الرحمن قولاً وعملاً، فما أكثر من يقول: أنا من عباد الرحمن ولكن أفعاله تقول غير ذلك.
أول صفة من صفاتهم كما قال تعالى: وعبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا، إنّ صفة المشي لها عند الله قيمة؛ لأنها تعبر عما في الإنسان من مشاعر وأخلاق، فالمتكبرون والمتجبرون لهم مشية، والمتواضعون لهم مشية، كل يمشي معبرًا عما في ذاته.
عباد الرحمن يمشون على الأرض هونًا متواضعين هيّنين ليّنين، يمشون بسكينةٍ ووقار بلا تجبر واستكبار، ولا يستعلون على أحد من عباد الله. عباد الرحمن يمشون مشية من يعلم أنه من الأرض خرج وإلى الأرض يعود، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55].
اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أنه ليس معنى يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا أنهم يمشون متماوتين من+ي الرؤوس كما يفهم بعض الناس، فهذا رسول الله كان أسرع الناس مشيةً وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من رسول الله كأنما الأرض تطوى له. ورأى عمر بن الخطاب رجلاً يمشي رويدًا مطأطئ الرأس فقال: ما لك؟ أأنت مريض؟ قال: لا، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي مشية الأقوياء. والقرآن نهى عن مشي المرح والبطر والفخر والاختيال، قال تعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء: 37]. وهذا لقمان يوصي ابنه: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18]، لا تُمِلْ وجهك عن الناس إذا كلَّمتهم أو كلموك؛ احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم، ولا تمش في الأرض بين الناس مختالا متبخترًا، إنّ الله لا يحب كل متكبر متباهٍ في نفسه وهيئته وقوله، ولا تكلّم الناس وأنت معرض عنهم، بل أقبل عليهم بوجهك وتواضَع وابتسم، فالابتسامة صدقة، والله لا يحب كل مختالٍ فخور، المختال الذي يُظهر أثر الكبر في أفعاله، والفخور الذي يظهر أثر الكبر في أقواله، والله يحب المتواضع الذي يعرف قدر نفسه، ولا يحتقر أحدًا من الناس، كان النبي يدعو: ((اللهم أحيِني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين))، وروى الإمام أحمد قوله : ((من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله تبارك وتعالى وهو غضبان))، وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((بينما رجل ممن قبلكم يتبختر يمشي في بردته قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)).
إذًا علام يتكبر الناس؟! علام يتميّزون؟! علام يستعلون على عباد الله بأموالهم ومناصبهم؟! ولو نظروا إلى أنفسهم لوجدوا أن أباهم الماء المهين وجدّهم التراب، كما قال تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7، 8].
رأى مطرف بن عبد الله أحد الأمراء يمشي متبخترًا فنهاه، وقال: هذه مشيةٌ يبغضها الله تعالى، فقال له: أما تعرفني؟! قال: نعم أعرفك وأعرف من أنت، أنت الذي أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفةُ قذِره، وأنت مع ذلك تحمل العذرة، فيا عجبًا ممن خرج من مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟!
ولا تمشِ فوق الأرض إلا تواضعًـا فكم تَحتهـا قوم همُ منك أرفعُ
وإن كنـت فِي عزٍ وجاهٍ ومنعـةٍ فكم مات من قومٍ همُ منك أمنعُ
ولذلك كان سيد المتواضعين، كان يمشي خلف أصحابه كواحدٍ منهم، وكان يجلس لا يتميز عليهم، حتى إن الرجل الغريب ليأتي فيقول: أيكم ابن عبد المطلب؟ وكان في بيته في مهنة أهله، يرقع ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته.
عباد الرحمن ـ أيها المسلمون ـ هم الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، فهم لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ويترفعون عن الرد عن كل سبّ وشتم واستهزاء، إنما هم أكرم وأرفع، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا، وقال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء: 53]، وقل لعبادي المؤمنين يقولوا في تخاطبهم وتحاورهم الكلام الحسن الطيب؛ فإنهم إن لم يفعلوا ذلك ألقى الشيطان بينهم العداوة والفساد والخصام، إن الشيطان كان للإنسان عدوًا ظاهر العداوة.
وحسن الكلام مع الأعداء يطفئ خصومتهم وي+ر شوكتهم، وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه وجميع إخوانه.
عباد الله، هؤلاء عباد الرحمن رأينا حالهم مع أنفسهم، وهو التواضع، لا الفخر ولا الكبرياء، وحالهم مع الناس الصبر على جهل السفهاء. ثم انظروا حالهم مع ربهم، إذا خيّم الليل وأرخى سدوله، إذا أوى الناس إلى فرشهم كان عباد الرحمن مع ربهم، يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 64]. بينما كثير من الناس في غفلاتهم نائمون وفي سهرهم ماجنون هناك عباد يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، إنهم يضعون الجباه التي لم تنحنِ لمخلوق، يضعونها بين يدي الله جل وعلا راكعة ساجدة خاشعة خائفة طائعة، إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة: 15]. وهم قياما يتلون آيات الله، يسألونه الجنة ويستعيذون به من النار. إنهم يفعلون ذلك ليس طلبًا لمرضاة أحد، ولا لابتغاء محمدة أو شهرة، وإنما يبيتون لربهم سجّدًا وقيامًا يبتغون وجهه، يرجون رحمته ويخافون عذابه، وصدق الله القائل عنهم: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر: 9].
عباد الرحمن هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((عجب ربنا تعالى من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله إلى صلاته، فيقول الله جل وعلا: انظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله ثم انهزم أصحابه، فرجع حتى يهريق دمه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي، رجع رجاء فيما عندي وشفقةً مما عندي)). إنهم عباد الرحمن، كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17].
مات أحد العلماء فقيل له: يا إمام، ما فعل الله بك؟ فقال: ذهبت تلك الإشارات، وطاحت العبارات، وضاعت العلوم، ولم ينفعنا إلا ركعات كنّا نركعها في السحر.
عبـاد الرحمن تتجافَى جنوبهم عن الْمضاجع كلهم ما بين خائف متهجد وطامع
تركـوا لذة الكـرى للعيـون الْهواجـع واستهلّت عيونهم فائضات المدامع
عباد الله، شتان بين من يقضي الليل في طاعة الله وبين من يقضيه في معصية الله، شتان بين من يسهر في لهو وعبث حتى قرب الفجر فإذا قرب الفجر ناموا، وبين من يقضي الليل صلاةً واستغفارًا وتسبيحًا ونومًا على ذكر الله، شتان بين من يقضي الليل في إجرام يدبر المكائد والشرور لعباد الله الصالحين، وبين من يقضي الليل علمًا وتعلمًا ودعوة إلى شرع الله.
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركـوع
أطار الخوف نومهم فقاموا أهل الأمن فِي الدنيا هجوع
قال : ((إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها))، قيل: هي لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام)).
اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين، من عبادك المتقين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا، وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله، فقد أمركم الله بذلك فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين...
| |
|